لا شك أن أفراد النوع الواحد يختلفون في صفاتهم؛ ومن المتعارف عليه أن النمو في تحورات الكائنات الحية لا يحدث دائماً من خلال عملية الانتخاب الطبيعي. لكن قبل المضي قدماً لنتعرف سوياً على نظرية الانتخاب الطبيعي. ومن ثم ننتقل إلى أساليب البقاء التي تستخدمها الكائنات الحية.
ما هو الانتخاب الطبيعي
الانتخاب الطبيعي – كما تُشير نظرية التطور – هو انتقال سمات معينة لنوع معين من الكائنات الحية إلى الأبناء. وهذه السمات هي التي تجعل الفرد أكثر قدرة للبقاء على قيد الحياة حتى سن التكاثر وإنتاج النسل، فإذا كانت سمة جيدة فإنها ستنتقل ببطء بين أفراد الجماعة. حيث يتكاثر الأفراد الذين يمتلكونها وينقلونها إلى أطفالهم. أما إذا كانت سمة سيئة تساهم في عدم قدرة الفرد على البقاء على قيد الحياة أو التكاثر، فلن ينتج هذا الفرد أكبر عدد من الأطفال، وبالتالي ستختفي هذه السمة ببطء من الجماعة نظراً لعدم انتقالها.
الطريقة التي تعمل بها نظرية الانتخاب الطبيعي هي أن لديك طفرات في البداية. ويفترض العلماء أن الطفرات الجينية عشوائية، ولكن هناك بعض الجدل حول هذه المسألة. بمجرد وجود هذه السمات فإن الانتقاء الطبيعي يلعب دوره. حيث يبقي على الصفات الأكثر ملاءمة للبيئة الطبيعية الخاصة التي يعيش فيها الأفراد إلى أن يتم تناقلها؛ في حين لا تورث الصفات الأخرى التي لا تساعد على البقاء على قيد الحياة.
وكل ذلك لا ينفي اتفاقنا أن الانتخاب الطبيعي قوة فعالة ومعروفة في عالم الكائنات الحية. فعندما يتنازع فردان في بيئة ما بالطبع سيعيش أقواهما وأنسبهما لهذه البيئة، ويموت الأخر. وهذا هو السبب في أننا حينما نستعرض جميع الأحياء في الطبيعة نجد أن جميعها توافق الوسط أو البيئة التي تعيش فيها. وهي إنما وصلت إلى هذه الحالة بعد نزاع طويل انقرض فيه كل حيوان أو نبات لم يوفق من حيث شكله أو لونه أو قوته أو نوع طعامه تلك البيئة التي يعيش فيها. وهذه الأمثلة توضح نظرية الانتخاب الطبيعي وفي الوقت ذاته توضح أساليب البقاء عند الكائنات الحية.
أساليب البقاء عند حيوان الببر
الببر، على سبيل المثال، وهو حيوان مخطط، ويخطئ بعض الناس ويسميه نمراً. مع أن النمر منمر – أي منقط يُشبه الغابة التي يعيش فيها – فاذا رُبط تحت الغصون والأوراق اختلط لونه بلونها فلا يمكن تمييزه عنها. فهو بذلك يحتمي من عدوه ويختفي عن فريسته في آن واحد. ولم يصل إلى هذا اللون إلا بعدما انقضت جميع الأفراد التي كان في لونها شهرة تنم عليها. لأن الشهرة تجعل فريسته على حذر منه. فهو أبداً مكشوف أمامها فلا يعيش ولا ينسل من الببرة سوى ما وافقت خطوط جلده ظلال الغابة في ألوانها. لذا كان تغير لون الببر من أساليب البقاء على قيد الحياة في بيئته.
اقرأ أيضًا: تزاوج الحيوانات: طقوس غريبة وعواطف فياضة |
ثعلب الصحراء
حيوان ثعلب الصحراء يشبه لونه لون الرمال، بحيث إذا نام ضب أو ورل على سطح الصحراء فلا تميزه. وإذا نام غزال أو ثعلب اختلف لونه الأغبر بغبرة الرمال، فلا يمكن لحيوان أو جارح أن يميزه عما حوله. وهذا الأمر من أساليب البقاء الخاصة بثعلب الصحراء. وهو لم يبلغ هذه الحالة إلا بعد تنازع بقاء طويل باد فيه كل ما في جلده لمعة من بياض أو أي لون أخر يشهره، ويدل كواسر الطير عليه أو يهدي إليه بعض الوحوش. لذا لعب الانتخاب الطبيعي دوراً هاماً في بقاء ثعلب الصحراء حياً.
وكذلك هناك أساليب البقاء الخاصة بنباتات الصحراء. حيث تجد على الدوام أوراقها ملساء تمنع تبخر الماء منها كالصبار. كما تجد جذورها تمتد إلى عمق فيها، وذلك لقلة ماء الصحراء. ويعد الصبار في الصحراء مثل الجمل كلاهما يعمل لادخار الماء؛ فهذا يختزنه في معدته، وذاك في أوراقه، وهما لم يبلغا هذه الكفاية إلا بحكم الوسط الذي يعيشان فيه.
وهذه الحشرات التي تتعقبها بعض الكائنات قد حدث بينها تنازع بقاء حتى لم يبق منها سوى القادر على إخفاء نفسه بأن يدغم لونه في لون الغصن الذي يحط عليه؛ حتى لا تهتدي إليه الطيور. وبعض هذه الحشرات تشبه الزهرة وبعضها يشبه الورق فينخدع الطير عنه. ومن هنا ندرك السبب في أن الثعلب والدب اللذين يعيشان في القطب الشمالي تكون فروتهما بيضاء ناصعة. بحيث إذا رقد أحدهما على الثلج امتزج لون الفروة بلون الثلج فلا يظهر للعدو أو للفريسة. فالالتئام بينهما وبين البيئة التي يعيشان فيها تام. وهو لم يبلغ هذه الدرجة إلى بعد تنازع طويل مات فيه كل مشهور اللون.
اقرأ أيضًا: حيوانات الصحراء: كيف تتكيف على ظروف البيئة الصحراوية القاسية؟ |
حوت القيطس
ولننظر في أثر أخر للبيئة والانتخاب الطبيعي وأساليب البقاء. يعد حوت القيطس مثلاً وهو أكبر حيوان في العالم يعيش في الماء البارد قريباً من القطب الشمالي. كما إنه يرضع صغاره ودمه دافئ مثل دمائنا. وقد كان يعيش يوماً ما على اليابسة ثم نزل إلى الماء فانقلبت يداه زعانف. ولكن لا تزال أصابعه الخمسة ظاهرة في كل زعنفة من زعنفتيه. فهذا الحيوان لا يمكنه أن يعيش في الماء البارد إذا لم تكن لديه وسيلة يحفظ بها درجة حرارته. وقد فقد شعره لأن الشعر لا يتوافق مع الماء. لذا فلم يبق له سوى أن يكسو نفسه بطبقة كثيفة من الدهن تبلغ آلاف الأرطال، وهي الآن أكثر ما يغري الصيادين بصيده.
لم يبلغ هذه الحالة إلا بعد نزاع طويل انقرض فيه كل قيطس لم يكن جلده مبطناً بمثل هذه الطبقة من الدهن. وبعض الحيوانات التي نزلت إلى الماء بعد أن كانت تعيش في اليابسة تدلنا على طريق التدرج الذي اتخذته في الوصول إلى حالة القيطس. فإن القيطس يلد في الماء ولا يحتاج للخروج إلى البر.
اقرأ أيضًا: حيوانات مهددة بالانقراض ستختفي خلال السنوات القليلة القادمة |
فرس النهر والتمساح والفقمة
لكن لا تزال في العالم حيوانات لم تبلغ هذه المرتبة في الانتخاب الطبيعي. وإن كانت تسير في طريقها. ففرس النهر يعيش في الماء واليابسة على السواء، ويبقى مدة طويلة ورأسه تحت الماء لطول نفسه. والدب كذلك لا يبالي بالسير على الأرض أو السباحة في الماء، ولكن كليهما يلدان على الأرض. بينما التمساح يعيش في الماء لكنه وقت البيض يخرج إلى اليابسة فتبيض الأنثى، ويبقى صغيرها مدة على البر ثم ينزل إلى الماء.
كذلك الفقمة تعيش طول حياتها في الماء لكنها وقت اللقاح والولادة تخرج إلى البر فهي لم تبلغ مبلغ القيطس الذي يعيش ويلد في الماء. فاحسب آلاف السنين التي مضت، وما ظل القيطس في هذا النزاع الطويل حتى تمكن من أن يجعل الماء وسطاً ملائماً لحياته وأولاده.. واذكر هذه الأطوار التي يقطعها الآن أمثال فرس النهر والتمساح والفقمة للوصول إلى حالة القيطس، تعرف أن التطور لم ينقطع وإنما هو سائر كما كان يسير في الماضي. وإنه سيأتي يوم تلد فيه الفقمة في الماء، بينما يتمكن فرس النهر – إذا لم تبده البشرية – من أن يعيش طول حياته في الماء.
وبالنسبة إلى قاع البحر العميق فالأسماك التي تعيش في قيعان البحار والمحيطات العميقة حيث الظلمة القاتمة. فعند عمق نحو أربعة كيلو مترات يكون البحر مظلماً فلا تستطيع الأسماك رؤية طريقها حتى تتقي عدوها أو تهجم على فريستها. فلم يكن لها يد سوى الاهتداء إلى طريقة تجعلها تلائم هذا الوسط المظلم. ولم تكن هذه الطريقة سوى اختراعها ضوءاً يشع وينير لها هذه الظلمة.
ويعتبر التطور تغير في شكل وسلوك وفسيولوجيا الكائنات الحية مع مرور الزمن وعلى مدى أجيال متعددة. ولا شك أن الانتخاب الطبيعي مرتبط ارتباطاً شديداً بالبيئة. لأن تغير البيئة قد يؤدي إلى نشوء أنواع جديدة. وبالمثل يؤدي نشوء الأنواع في بيئة معينة إلى إضافة متغيرات بيئة جديدة. أي أن التطور ونشوء الأنواع وانقراضها هو سبب ونتيجة للتغييرات البيئية على مر الأزمان والأحقاب.
اقرأ أيضًا: أسلحة الحيوانات الغريبة للدفاع عن نفسها |
ميكانيكا التطور والانتخاب الطبيعي
والتقى تشارلز دارون مع والاس في تفسير ميكانيكا التطور. وكان لدارون استنتاجان أساسيان من نشوء الأنواع أولهما: أن جميع الكائنات الحية انحدرت من أسلاف مشتركة. وثانيهما: تفسير آلية التطور عن طريق الانتخاب الطبيعي الذي مازال العديد من العلماء يرفضونها. حيث أثبت علم الوراثة أن الصفات الوراثية للآباء تمتزج لتظهر في الأبناء صفة جديدة وسط بينهما.
وبالتالي لا يمكن تفسير آلية وحدوث التطور على أساس الانتخاب الطبيعي فقط. نظراً لأن تناسل زرافتين أحداهما ذات رقبة طويلة والأخرى ذات رقبة قصيرة فإن الأبناء سوف يكون لهم رقبة متوسطة الطول وهكذا.. وهذا يعني أن صفة طول الرقبة ممكن أن تختفي مرة أخرى. بالإضافة إلى فكرة توريث الصفات المكتسبة كانت واسعة الانتشار، وكانت بمثابة البديل الأخر لتفسير ميكانيكية وآلية التطور بدلاً من فكرة الانتخاب الطبيعي لدارون.
ولكن مما لا شك فيه أن هذا الخلل في فرضية دارون عن الانتخاب الطبيعي قد نشأ نتيجة عدم معرفته بأسس علم الوراثة. حيث أن قوانين مندل وأبحاثه لم تنشر في المجتمع العلمي إلا في بداية القرن العشرين.