اختفاء سينما الترسو في ظروف غامضة
سينما الترسو يُطلق عليها في الثقافة الشعبية اسم سينما الغلابة ورسمياً دور عرض الدرجة الثالثة. كانت هذه السينمات متعة الناس الغلابة فيما مضى ولكنها أصبحت الآن مجرد ذكريات جميلة لروادها الذين عاصروها، يمرون أمامها فيتذكرون الأفلام القديمة التي شاهدوها على شاشتها.
معنى الترسو
ظهر هذا المصطلح مع بداية إنشاء دور العرض السينمائي التي كانت تستقبل ذوي الثقافة المحدودة من العمال والصنايعية لتعرض عليهم عدد من الأفلام يتراوح بين ثلاثة إلى أربعة أفلام. وكانت هذه الدور تنقسم إلى ثلاثة أجزاء هي الصالة والبلكون والترسو. وهذا التقسيم تم بناءً على الثقافة والطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الرواد. فكانت الصالة والبلكون لذوي الثقافة العالية والمتوسطة، وكان الترسو للعمال من ذوي الثقافة المحدودة والأميين. وبما أن أكثرية هؤلاء الرواد من الفئة الأخيرة أطلق عليها دور العرض اسم سينما الترسو. أما مصطلح ترسو يشير إلى الترس الذي يرمز للعمال والصنايعية الذين كانوا يرتادون هذه الدور.
خريطة دور سينما الترسو في مصر
تشير دراسة أعدها أنطوان زند – أحد أكبر موزعي الأفلام الأجنبية في مصر – إلى أن عدد دور عرض الدرجة الثالثة في مصر كان حوالي 180 دار. تحتل القاهرة نصيب الأسد بإجمالي 91 داراً والإسكندرية 39 والأقاليم 32 فقط. وأشارت الدراسة إلى التناقض الهائل في عدد الدور الشعبية، وهي غالباً دور صيفية يرتادها الصنايعية والبسطاء وتتواجد في الأماكن الشعبية. لكن هذه الدور انقرضت أمام غزو سينمات المولات وطمع شركات التوزيع والإنتاج السينمائي التي تتنافس على شراء تلك الدور الشعبية لتجديدها وتحويلها إلى سينمات درجة أولى.
اقرأ أيضًا: التذوق الفني: كيف نتطور قدرتنا على الحساسية الفنية؟ |
ماذا كان تقدم سينما الترسو؟
كانت أسعار تذاكر سينما الترسو متواضعة مقارنةً بأسعار سينمات المولات. كما تشتمل التذكرة الواحدة على برنامجاً حافلاً لا يقل عن ثلاثة أفلام: فيلمان مصريان وثالث إما أمريكي أو تركي أو هندي.. وأغلب هذه الأفلام مضى على عرضها في دور سينما الدرجة الأولى فترة لا تقل عن عام.
وبعض دور سينما الترسو تعرض أفلاماً مضى عليها أكثر من ربع قرن، وأغلبها مما يندرج تحت تصنيف أفلام الإثارة التي تمتليء بمشاهد الجنس، وهو النوع المفضل لدى جمهور هذه السينمات من الحرفيين والبسطاء والعمال.
وكانت هناك أفلاماً بعينها تتنافس دور سينما الترسو على عرضها بناء على طلب الجماهير. ولعل أبرزها كان فيلم “حمام الملاطيلي” لشمس البارودي ومحمد العربي، وفيلم “أبي فوق الشجرة” لنادية لطفي وعبدالحليم حافظ، وفيلم “ذئاب لا تأكل اللحم” لناهد شريف وعزت العلايلي، وفيلم “سيدة الأقمار السوداء” لناهد يسري وحسين فهمي، وغيرها من الأفلام التي تعرف بموجة الأفلام اللبنانية. وهي الأفلام التي جرى تصويرها في بيروت في سنوات ما بعد نكسة عام 1967. حيث هاجر إلى العاصمة اللبنانية عدد كبير من نجوم ونجمات ومخرجي السينما المصرية. وشاركوا هناك في بطولة مجموعة كبيرة من الأفلام تميزت بالإباحية والمشاهد المثيرة بعيداً عن يد الرقابة في مصر.
ووجدت هذه الأفلام سوقاً رائجاً في دول الخليج من خلال أشرطة الفيديو. كما وجدت سوقاً مهما في مصر من خلال سينما الدرجة الثالثة التي تنافست في عرض تلك الأفلام ولاقت نجاحاً كبيراً لدى جمهور تلك السينمات.
اقرأ أيضًا: قصة تاج محل المثيرة: ما وراء الحب والجريمة والانتقام |
أشهر سينمات الترسو في مصر
أبرز سينمات الدرجة الثالثة تقع في شارع 26 يوليو بمنطقة بولاق أبو العلا. وهي سينما “علي بابا” و “الكورسال الجديدة” وعمرهما يرجع إلى نصف قرن. بينما كان جمهورهما من الصنايعية الذين تمتلىء بهم الورش والمحلات في وكالة البلح المجاورة لهما.
“سينما الفانتازيو” وتقع في ميدان الجيزة. وهي من أشهر دور سينما الترسو. بينما أغلب روادها من زوار القاهرة من سكان الصعيد والفيوم والأقاليم المجاورة. وكذلك شريحة من طلاب جامعة القاهرة، حيث يجدون في تلك السينمات متنفساً لهم خاصةً من طلاب الأقاليم محدودي الدخل، والذين لم يشاهدوا أغلب الأفلام التي تعرضها تلك السينما، بل سمعوا أو قرأوا فقط عنها. ثم جاءتهم الفرصة لمشاهدتها.
وفي شارع الجيش توجد “سينما مصر” والتي يطلق عليها سكان تلك المنطقة “سينما فريد شوقي”. لأن أغلب الأفلام التي كانت تعرضها من بطولة النجم الراحل وهي أفلام تدخل ضمن النوعية المفضلة لروادها. حيث الحدوتة البسيطة ومشاهد الأكشن. وحكاية الشجيع الذي يتغلب على العصابة ويخلص البطلة ويتزوجها في نهاية الفيلم. وهي أفلام منحت فريد شوقي عن جدارة لقب (ملك الترسو) في إشارة إلى جمهوره الواسع في سينمات الترسو الذين ينتظرون أفلامه ويصفقون لها ويتجاوبون معها.
وكانت سينما الترسو من الأسباب القوية لانتشار وشعبية الأفلام الهندية في مصر. حيث حرص أصحابها على عرض فيلم هندي في نهاية البرنامج. ومن خلال هذه الأفلام ذاع صيت أميتاب باتشان.
اقرأ أيضًا: قصة حكم قراقوش: الحقيقة التاريخية وراء المثل الشهير |
انقراض سينما الترسو
ظلت هذه دور سينما الترسو نشطة لفترة طويلة حتى واجهت في النهاية اغتيال منظم زاد بشكل واضح بعد حكم المحكمة الدستورية العليا بإلغاء المادة الثانية من القانون 67 التي كانت تتكفل بحماية دور العرض وتمنع هدمها لأي سبب من الأسباب. وبمجرد صدور هذا القرار امتدت معاول الهدم إلى عدد من سينمات الدرجة الثالثة، مثل سينما الروضة وسينما الأهلي وقبلهما سينما الكواكب بالسيدة زينب.
بعض أصحاب هذه الدور أنفسهم هللوا للقانون الجديد، لأنه منحهم رخصة الهدم أو البيع أو تحويل السينما إلى مشروع تجاري أكثر ربحاً، نظراً لانخفاض أسعار تذاكر تلك السينمات الشعبية في مقابل تزايد نفقات التشغيل وتصاعد قيمة الضرائب المفروضة عليها.
جهاز السينما الذي يتبع مدينة الإنتاج الإعلامي اشترى سينما درجة ثالثة في ميدان السيدة زينب. ثم قام بتجديدها وتحويلها إلى دار درجة أولى أكثر رفاهية، وتذكرتها أعلى بالطبع. وجرى حرمان آلاف من البسطاء من سكان ذلك الحي الشعبي من هوايتهم المفضلة – مشاهدة السينما – نظراً لعدم قدرتهم الاقتصادية على دفع ثمن التذكرة الجديدة.
يرى الكثير من العاملين في صناعة السينما أن السينما في الوقت الحالي أصبحت مشروعاً مربحاً بما تشتمل عليه من شاشات عرض جديدة وعصرية. لذا نجد أن آلاف المستثمرين ورجال الأعمال يتهافتون على الاستثمار فيه. وكان لابد من التخلص من دور العرض السينمائي القديمة. كما ينظرون إلى أن السينما الشعبية انتهى عصرها لأنها أصبحت – مقارنة بسينما المولات – مشروعاً خاسراً. فالمولات توفر شاشات عرض لدور صغيرة، وفي نفس الوقت تنشىء مولاً تجارياً يستفيد منه المستثمر.
على ما يبدو أن اللغة التجارية السائدة أعلنت بوضوح نهاية عصر سينما الترسو. فبعد هدم وإزالة وتجديد عدداً من دور سينما الغلابة فإن الأنظار تتجه إلى ما تبقى منها على قيد الحياة. ليستيقظ الغلابة والصنايعية في وكالة البلح، ثم يتفاجئوا أن سينما علي بابا او الكورسال اختفت من الوجود. بينما حل محلها مول تجاري فخم به أكثر من شاشة عرض جديدة عليهم أن يدفعوا ثمنها غالياً. وعندها فقط يترحمون على أفلام سينما الترسو.