الحياة البسيطة: رحلة الخلاص من المعاناة

You are currently viewing الحياة البسيطة: رحلة الخلاص من المعاناة
فلسفة الحياة البسيطة

نعاني جميعاً من قسوة الحياة ومتطلباتها، فطريقة عيشنا ليست بسيطة بالمرة. نظرة واحدة على المجتمع من حولنا سندرك مدى معاناة العيش في مجتمع يتفاخر بالامتلاك وتراكم الأشياء المادية. إننا نعاني من الفوضى والديون والمشتتات والضوضاء، وما لا نملكه في الحقيقة هو أي معنى لحياتنا. دعونا نخوض رحلة شيقة نتعرف فيها على كيفية تبني أسلوب الحياة البسيطة لنتخلص من المعاناة ونحاول العثور على السعادة. رحلة تخبرنا أن السر يمكن في البساطة.

أسباب المعاناة في الحياة

تخبرنا مبادئ البوذية أن هناك أربعة أسباب للمعاناة البشرية، وهي ألد أعداء الحياة البسيطة: الكسل، والتعلق، والغضب، وإيذاء النفس. وهذه المبادئ الأربعة تتداخل مع بعضها البعض، وبعضها نتيجة للبعض الآخر. فهل يمكن تبسيط أسباب المعاناة الإنسانية بهذه الطريقة؟ وهل يمكن اختزال تجربة الحياة المعقدة والمتعددة الأوجه في بضعة مبادئ؟ الإجابة ببساطة هي نعم.

دعونا نتأمل في هذه المبادئ التي تمنعنا من عيش الحياة ببساطة، ثم نتعرف على الدليل الإرشادي للحياة البسيطة الجيدة. لقد قدمت لنا البوذية وصفة من أفضل الوصفات التي يمكننا اتباعها لنحيا حياة بسيطة مقارنةً بما قدمه الحكماء والفلاسفة على مر التاريخ. وأفضل ما فيها أنه أكثر قابلية للتنفيذ وأسهل في تعلمها.

لقد قدم لنا البوذيون وصفة سحرية بالفعل، لكنهم خلطوها بشخصيات أسطورية متعددة، وطقوس معقدة ومعتقدات رجعية. وهذا جعل الأمر أكثر جاذبية للعامة من الناس، فلا يمكنك حضور اليوجا مثلاً بأناشيدها المنخفضة وخطواتها غير المتوقعة دون أن يكون لديك انطباع بأنك تدخل في حالة من التنويم المغناطيسي. لكن دعونا من كل هذه الشكليات والمظاهر المبهرجة ولنتجه إلى الفكرة النقية التي تقتصر على الجلوس والتحديق في الحائط والدخول في حالة من التأمل الرائع.

الكسل يميت الروح والجسد

كيف نحيا حياة بسيطة
سر الحياة البسيطة

لنبدأ بالكسل، فالكسل يميت الروح والجسد، وهو أحد أسباب المعاناة البشرية. إننا لم نقصد عند الحديث عن الحياة البسيطة أن نكون كسالى، بل على العكس من ذلك يجب علينا ممارسة الأنشطة، وكما تقول الحكمة القديمة أن العقل السليم في الجسم السليم، ولا يمكن أن يكون الجسد سليماً معافى دون حركة. هل هناك أبسط من المشي؟ إن المشي مفيد للجسم والروح، إنه أمر بسيط يحمينا من الصخب والضجيج اليومي، فهو بمثابة تأمل، لكن ما يتطلب جهداً بحق هو الهروب من الأشخاص والالتزامات وخلق مساحة من الوقت لممارسة ذلك.

هناك كسل أوسع نطاقاً، مثل ذلك الذي يمنعنا من تولي مسؤولية حياتنا، والذي يعيقنا عندما يتعلق الأمر بإنجاز مهمة ما. إن المسؤوليات التي تقع على عاتقنا في الحياة هي ما تمنح لوجودنا معنى، وعندما نعرف ما يجب أن نفعله، ولا نفعله من باب الكسل، تكون النتيجة: الإفقار. إن ذلك الكسل الذي يحدنا في مشروعنا هو من الناحية الموضوعية عادة سيئة يجب مواجهتها. وفي مواجهة الكسل، يجب علينا أن نلتزم بالاجتهاد والإرادة والمثابرة والانضباط والقناعة.  إن الحفاظ على ذلك يكلفنا الكثير، هذا أمر بديهي، لكن يستحق منا كل جهد.

شرور التعلق والامتلاك

دعونا ننتقل إلى المبدأ الثاني وهو شرور التعلق، وبما آخر رذيلة الامتلاك. إننا لا نحتاج سوى القليل بالفعل للبقاء على قيد الحياة، والتمتع بها بكل ما تحمله من براءة وسهولة. لكن رغم ذلك لا يستطع الكثير من الناس أن يحظوا بمثل هذه الحياة البسيطة. إن العيش بأسلوب حياة معتدل يتناقص تدريجياً مع تطور الإنسان في الحياة. حيث نجد إنه يسعى دائماً إلى امتلاك الأشياء التي لا يحتاجها بالفعل، فإذا كان يمتلك منزلاً صغيراً فهو يريده أكبر، وإذا كانت لديه سيارة متواضعة يريدها أحدث وهكذا لا حد للمتطلبات المادية، وهذا الأمر هو ما يجعلنا دائماً نعاني من التوتر والقلق والخوف عل ما نمتلكه بالفعل.

تراكم الأشياء حولك في كل مكان يخلق الشعور بالاختناق والقيد. إننا نشعر دائماً بالرعب من فقدان ما نمتلكه، حتى ولو كانت أشياء لا أهمية لها. جرب ذات مرة أن تتخلص من كل ذلك وستختبر بنفسك حرية لم تعهدها من قبل. إنها مثل التحرر من الجشع والديون والهوس والإرهاق. كل الأشياء التي نحيط أنفسنا بها هي مجرد إلهاء. نحن نملأ الفراغ بأشياء مادية. لا يمكن للمال شراء السعادة لكن يمكنه شراء الراحة. بعد انقضاء المرحلة الأولى وهي الحصول على المال تبدأ المرحلة التالية وهي كيفية استغلال هذا المال من أجل التمتع بهذه الحياة البسيطة، وفي هذه المرحلة لابد أن ينتهي هوسنا بالمال وجمعه. من الصعب عدم الوقوع في فخ الاستهلاك. حيث أننا في حاجة دائماً للتذكرة بأن الاستهلاك هو شعور زائف بالسعادة. إنني أستمتع بامتلاك الأشياء، لكنني أدرك أيضاً أنني لست بحاجة إليها.

كل شيء يمر وينقضي؛ الهدايا تُقدم لنا وتُؤخذ منا. انطفأت اللذة، وأظلم الفرح، واضطرب السلام. وأحد أصعب التمارين وأكثرها ضرورة لإنسانيتنا هو قبول هذه الحقيقة، إنه تمرين في النضج والتواضع.

ارتباطات الطفولة والحياة البسيطة

متعة التخلي عن الارتباطات
ما تبقى من الطفولة

تبدو الارتباطات بالناس جوهرية بالنسبة للبشر، وهذا أمر لا مفر منه، ويمكن السيطرة عليه. لكن الأسوأ والأصعب هو السيطرة على ارتباطنا بأحلامنا وأهوائنا وتوقعاتنا وعادات طفولتنا. فنحن نصر على إكمال النص الذي ألفناه في الطفولة، ولهذا السبب نتجول وندور بنفس القيود أسرى القصة التي يسبقها طفل يعاني من عدم الحصول على شيء ما. إن إدراك هذا الأمر يعني بالفعل اتخاذ خطوة كبيرة.

يجب تعزيز الظروف في الروح لتحويل تلك الارتباطات المبكرة، وتغذية الإرادة. سيتعين علينا أن نتخلى عن بعض الأشياء، أهمها ذلك الطفل الذي كنا عليه – والذي يحزننا أن نتوقف عن أن نكونه – أو بالأحرى هيمنته. سينبغي على الشخص البالغ الذي نحن عليه إقناعه وطمأنته بصبر حتى يتخلى عن زمام الأمور ويسمح لنفسه بالإرشاد. هناك دائماً شيء من الخسارة والشيخوخة والموت في تلك الخطوة. ولهذا علينا أن نتأمل كثيراً في حقيقة أن الحياة هي كل تلك الأشياء، ونستسلم تدريجياً لهزيمة الزمن التي ستبلغ ذروتها بالانهيار النهائي والاختفاء الأبدي. ربما تكون رغبة الإنسان في الهروب من الموت هي السبب وراء أعمق الارتباطات.

الغضب وإيذاء النفس

إن من أصعب ارتباطات الطفولة التي يجب التخلي عنها هي تلك التي تنقلب علينا في حالة من الغضب. عندما تغضب، فإن التخلي عن هذا الغضب يشبه فقدان جزء من كرامتك. هكذا يعبر الغضب عن نفسه أو يوقعنا في فخ إذا لم نعرف كيف نهرب منه. ومن هذا الغضب العميق الذي شعرت به عندما كنت طفلاً، نشأت رذيلة إيذاء النفس، والتي حولتها إلى عادة لأنها تتيح لنا إعطاء مادة للنكسات بطريقة آمنة إلى حد ما. إن الغضب لا يعالج هذه النكسات، لكنه على الأقل يجعلها شيئاً ملموساً ومحدداً، وقبل كل شيء خاضعاً للرقابة. كان تقديرك لذاتك في أدنى مستوياته، واقنعت نفسك بأنه لا أحد مهتم حقاً بما تشعر به. لذلك عندما سيطر عليك الغضب أو الإحباط، فكل ما يتبقى لك لتشعر بالأمان هو الراحة المحزنة المتمثلة في ضرب رأسك بالجدران.

لقد أصبح هذا الأمر متأصلاً في داخلك لدرجة أنك لم تتمكن من مقاومته خلال معظم سنوات البلوغ. فهناك متعة قاتمة في التآمر على الذات وممارسة التوبيخ والانتقام الذي لا تستطع أو لا تجرؤ أن تلقيه على الآخرين. لكن مثل هذا الموقف يتعلق فقط بإدارة الغضب، ولا يؤثر على الإطلاق على الواقع غير المرضي الذي يسببه، لذلك لا يتم حل أي شيء.

التسامح

إنه بمثابة التوجيه الرمزي والصامت لما لا تجرؤ على التعبير عنه علناً. فهو لا يؤدي حتى إلى توليد الشعور بالذنب لدى الآخرين – وهو العزاء الحزين الذي يسعى إليه خيالنا – ربما لأنه هادئ ورمزي للغاية. والإصرار على ذلك خطأ مأساوي، لا يجعل حياتنا أفضل، بل يوقعها في حلقات شيطانية مفرغة. إن التسامح، عندما لا يكون لدينا أي وسيلة أخرى، هو مصدر جيد لحماية أنفسنا من شبكات الغضب السامة. نسامح ونغفر لأنفسنا، من باب الرحمة أو الحكمة أو التعب البسيط.

كان البوذيون على حق بلا شك في توصيتنا بأن نظل يقظين في مواجهة هؤلاء الأعداء الأربعة. ربما لن نتمكن أبداً من التغلب عليهم بشكل كامل، ولكن إذا حاولنا معرفتهم وفك شفرتهم، وإذا تعلمنا التعامل معها بذكاء، وإذا لم نسمح لها بأخذ زمام الأمور دون عقاب، فيمكننا على الأقل أن نبقى أكثر وضوحاً وحرية. إن تحقيق شيء كهذا ليس بالأمر الهين، لكن إن فعلناه يمكننا أن نحيا الحياة البسيطة التي نرغب بها بعيداً عن المعاناة.

الحياة البسيطة والاستقرار

كيف تحقق الاستقرار في الحياة
الاستقرار في الحياة

هناك طرق عديدة للعيش، لكن معظمها تقريباً يلتف على نفسه مثل اللوالب. نحن حيوانات مستقرة، والمألوف يمنحنا الأمان ويحررنا من التفكير كثيراً. تسير حياتنا عادة على إيقاع الطقوس التي تنسج الزمن وتحدد مساحتنا الخاصة: المنزل، العمل، العائلة، الأصدقاء، الواجبات والمهمات، وساعات النوم التي تمثل فجوة بين يوم وآخر.

يمكن للمرء أن يكون سعيداً في تلك المملكة الصغيرة، حيث تكفي أصغر الاختلافات لجعلها بلا حدود. يمكن أن تكون هذه الحياة البسيطة لمعظم الناس هي القمة، ولا شيء بعدها. ربما لعدم وجود طريقة أخرى لتحقيق ذلك. وعندما تأخذنا الأعمال بعيداً عن المنزل فإننا نتطلع للعودة إلى المنزل للراحة. نحن نعشق الاستقرار، ولهذا السب نبحث عادة عن شريك، وهو نمط الحياة البسيطة المستقرة المليء بالعواطف.

أفقنا مليء بالمعالم والأسماء العائلية، وهو ما نتأمله كل يوم من شرفتنا. ولكن من وقت لآخر، تشرق من بعيد شعلة غير متوقعة، تبهرنا للحظات قليلة؛ أو هناك أصوات بعيدة تقطع صمت الليل وتبدو وكأنها تنطق اسمنا. من وقت لآخر يحدث ما هو غير متوقع – للأفضل أو للأسوأ – وإذا لم يكن كذلك، فإننا نبحث عنه، أي نخرجه من الداخل. شيء ما يهزنا من نعاسنا ويوقظ شوقنا للطريق، والجوع لما هو غير متوقع، للعودة إلى الدروب لفترة ونصبح مستكشفين من جديد، مثلما كنا أطفالاً وكان كل يوم رحلة إلى المجهول. ربما لا نتبع هذا النداء ونفضل العودة إلى ملجأ الحياة اليومية. ولكن من الممكن أيضاً أن نختار المشي. وكما كتب تولكين: “عندما تطأ قدمك خارج منزلك، فإنك لا تعرف أين سينتهي بك الأمر”.

مغامرة السفر

هذا هو الأسلوب الآخر الذي يضمن لك حياة بسيطة وسعيدة. إنها مغامرة السفر التي قام بها مسافرون وانطلقوا على الطريق وتركوه يقودهم. أولئك الذين سلموا أنفسهم للعالم تحت رحمة الله، منفتحون على ما يمكن أن يحدث لهم. هذه المغامرات بغض النظر عن مدى اختلاف الأماكن التي تمت زيارتها، تقدم لنا نسخاً جديدة من أنفسنا. إن الخروج على الطريق يعني طي الصفحة والتحلي بالشجاعة لكتابة الصفحة التالية دون استشارة أحد.

في هذه المغامرات تهب نسمات الهواء النقي الذي يحمل رائحة الحرية، ومن خلال تجديد الحوار مع العالم نمنح أنفسنا الفرصة لتجديد الداخل. هناك شيء مقدس في تلك الخطوات، فهي تحرر وتعلم وتشفي. رحلة بسيطة ولذيذة مثل رغيف الخبز محلي الصنع، تتجول من مكان لآخر وتتأمل المناظر الطبيعية، وتصادف أشخاصاً بسطاء ترفعهم إلى مستوى الأبطال. إنه أسلوب حياة بسيطة آخر، يمكنك أن تخرج على الطريق في بعض الأحيان، وعندما تتعب، ستشعر بمتعة العودة إلى مملكتك الصغيرة البسيطة المستقرة.

كيف تعيش الحياة البسيطة؟

كيف تحيا ببساطة
سر السعادة في الحياة

الحياة صعبة في حد ذاتها، وهناك من البشر من يجعلها أصعب على أنفسهم. يصر هؤلاء على تسلق الجبل من الجانب الأكثر وعورة، ولا يفضلون السير في مسارات هادئة، فيجعلون الحياة أكثر تعقيداً مما هي عليه. لكن الحياة في أعماقها بسيطة، وما يجعلها معقدة هي مقاوماتنا. إننا نواجه في كل خطوة من الخطوات الكثير من المواقف والأمور التي تجعلنا نقف عندها، وفي حين تستمر الحياة في المضي قدماً نبقى عالقين في الوحل. هناك الكثير من الناس عالقون بسبب الخوف أو الكسل أو الكبرياء. والبقاء عالقاً هو الأسوأ، لأن الحياة تمضي قدماً على أي حال ولكننا لسنا فيها. يُشبه الأمر السفر بالقطار وتفويت فرصة التمتع بالمناظر الطبيعية لأنك تصر على النظر باستمرار إلى أظافر قدميك.

يكمن التحرر في إدراك أنها مجرد أظافر، يوجد مثلها لدى الجميع. تنمو ويجب قصها من وقت لآخر، وأحياناً تخرج ملتوية قليلاً، وتصفر على مدى السنين. لذا فهي لا تحتاج إلى قضاء بعض الوقت في مراقبتها تحسباً. عليك أن تتركها وشأنها، فأظافرنا ليست بهذه الأهمية. ويمكنك الآن رفع رأسك والنظر من النافذة والاستمتاع بالمناظر الطبيعية. لكن مع ذلك ربما لن تكن هناك أي ميزة في المناظر الطبيعية، أو حتى يمكن أن تكون مثيرة للاشمئزاز. لكن المعجزة ليست ذلك، بل المعجزة هي الرحلة نفسها، فرصة التواجد هنا، الحركة. إذا نظرت عن كثب، هناك دائماً شيء جميل ومثير للاهتمام. العثور عليه هو الحكمة.

لن أمجد الحياة، ولكنني لن أتبرأ منها أيضاً. هذا هو الحال، وإذا كان المرء ذكياً وعبقرياً بعض الشيء، وإذا كان لديه حس الفكاهة وينظر بعناية مع استعداد جيد، فسيدرك أن الحياة بها الكثير من الأشياء الجيدة. تفاصيل جميلة ومحببة، وسيرى متع صغيرة رائعة تشبه الإكليل حول الرقبة.

الحياة صعبة، ولكنها ليست بهذه الصعوبة. ويمكن أن تكون ممتعة، لو عرفتها مبكراً واستفدت منها عاجلاً. ولم يفت الأوان بعد لمتعة الحياة البسيطة. لقد حصلت على هذه الهدية القيمة، فهل ستتركها؟

هوامش

1.    Author: Tapas Kumar Aich, (01/01/2013), Buddha philosophy and western psychology, www.ncbi.nlm.nih.gov, Retrieved: 04/19/2024.

2.    Author: Bjørn Hofmann, (01/01/2015), Suffering: Harm to Bodies, Minds, and Persons, www.link.springer.com, Retrieved: 04/19/2024.

3.    Author: Emrys Westacott, (08/31/2020), Why the simple life is not just beautiful, it’s necessary, www.bigthink.com, Retrieved: 04/19/2024.

 

اترك تعليقاً