فن

تحليل فيلم Bardo: السرد الزائف لحفنة من الحقائق

ظل يحوم فوق صحراء لا نهاية لها بقفزات متكررة.. مولود جديد لا يريد الخروج من رحم أمه إلى هذا العالم فيعيده الأطباء إلى الداخل مرة أخرى.. رجل يسبح في الماء الذي يظهر من العدم.. مع هذه المشاهد ندرك أن المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو يريد أن يقدم لنا حكاية هجاء في فيلم يحمل العديد من الرموز والدلالات. دعونا نخوض معه في رحلته السريالية من خلال تحليل فيلم Bardo: False Chronicle of a Handful of Truths بمزيد من التفصيل.

معلومات عن فيلم Bardo

  • البلد: المكسيك.
  • اللغة: الإنجليزية | الإسبانية.
  • تاريخ الإصدار: 16 ديسمبر 2022.
  • المخرج: أليخاندرو غونزاليس إيناريتو.
  • الكاتب: أليخاندرو غونزاليس إيناريتو | نيكولاس جياكوبون.
  • وقت العرض: 159 دقيقة.
  • النوع: دراما | كوميديا.
  • التصنيف: (R) للكبار فقط | يحتوي على مشاهد فاضحة وعنيفة.
  • فريق التمثيل: دانييل خيمينس كاتشو | جريسيلدا سيسيلياني | أندريس ألميدا.
  • التقييم: 6.7.
اقرأ أيضًا: تحليل فيلم Beau Is Afraid: تجربة من الهذيان الخالص

قصة فيلم Bardo

قصة فيلم Bardo: False Chronicle of a Handful of Truths
مشهد من الفيلم

تدور أحداث الفيلم حول سيلفيريو، وهو صانع أفلام وثائقية مكسيكي مشهور عالمياً، لكنه يعيش في لوس أنجلوس منذ أكثر من 15 عام. يعود سيلفيريو إلى المكسيك لفترة وجيزة مع عائلته، وهناك سيواجه أزمة وجودية عميقة. حيث يصطدم بواقع سياسي واجتماعي يشعر معه بأنه لم يعد ينتمي له. ويبدأ في التعامل مع صدمات الماضي ومشاكل مجتمعه العصية على الحل.

تبدأ القصة مع زوجة سيلفيريو وهي تلد طفلهما الأول. وبعد معاناة مع الولادة يخبرها الأطباء أن الطفل لا يريد الخروج إلى هذا العالم. ويرغب بالعودة إلى الرحم لأن هذا العالم ببساطة “مرهق للغاية” بالنسبة له. لذلك يتم دفع الطفل إلى داخل الرحم مرة أخرى ويعود الزوجان إلى المنزل.

وفي غضون أيام قليلة، سيكون صانع الأفلام الوثائقية الشهير أول مكسيكي يحصل على واحدة من أرقى الجوائز الأمريكية للصحفيين. تقوده هذه الجائزة إلى التفكير في مسار حياته الذي يخفي تحت غطاء النجاح والإنجاز الوظيفي استياءً عميقاً لا يستطع حتى المقربون منه فهمه.

أحلام ومخاوف وذكريات

تمتزج الأحلام والمخاوف والذكريات في تدفق مستمر. وتتحول تصورات سيلفيريو للواقع والانزعاج الذي يشعر به إلى صور ورؤى يتفاعل ويتواصل معها. بينما يظهر رابط الحب والكراهية مع بلده الأصلي المكسيك، فهو الوطن الذي يحبه بشدة، ولا يسمح لأحد بانتقاده. وهو كذلك البلد الحقير الذي لم يسمح له بالعيش فيه وأجبره على الهجرة إلى الولايات المتحدة.

إلى جانب مسار حياة البطل الذي يعتبر مهاجراً من “الدرجة الأولى”، هناك أيضاً قصص هؤلاء الأشخاص الذين أجبروا على ترك منازلهم حتى لا يموتوا، والذين فقدوا حياتهم أثناء عبورهم الحدود، والمفقودين وضحايا الاتجار بالمخدرات. كل هذه الأمور تترجم بالنسبة لسيلفيريو إلى شعور عميق بالذنب، مما يدفعه إلى تكريس جزء من عمله كمخرج أفلام وثائقية للتحقيق في هذه الحقائق التي تختلف كثيراً عن حقيقته.

اقرأ أيضًا: مراجعة فيلم Benedetta: العشق الممنوع خلف أسوار الدير

تحليل فيلم Bardo: False Chronicle of a Handful of Truths

شرح فيلم Bardo: False Chronicle of a Handful of Truths
أحد مشاهد الفيلم

على الرغم من أن المخرج أليخاندرو غونزاليس إيناريتو قدم لنا العديد من الأفلام الواقعية مثل (Amores Perros وBabel وBiutiful)، إلا أنه تحول إلى هذه المنطقة الجديدة مع فيلمه السابق Birdman، وهو عبارة عن هجاء اجتماعي مع عناصر سريالية منحته العديد من جوائز الأوسكار. وها نحن هنا نتحدث عن هجاء آخر، له تداعيات متعددة – اجتماعية، سياسية، دينية. يتمتع إيناريتو بروح الدعابة وقوة الملاحظة.  يقول بطل الفيلم في أحد المشاهد:

“مَن لا يُجيد المزاح، لا يستحق أن يؤخذ على محمل الجد”.

هذه العبارة تعبر بوضوح وذكاء عن رؤية إيناريتو، فعندما تكون الأمور خطيرة للغاية، تحتاج إلى واجهة هزلية للنظر إليها مباشرة ومواجهتها. وبالطبع لا يفلت المخرج المكسيكي الشهير من دراما التاريخ، ولا السياسة مع بطانتها القذرة. ولا اتجاهات العصر التي تحدد نغمتها الشبكات الاجتماعية والشركات الكبرى وتملي أجندتها بشكل أو بآخر. تقول له إحدى أصدقائه القدامى:

“لا أبطال في هذه القناة، كلنا نخوض في القذارة نفسها.. نخشى من فقدان القليل الذي لدينا”.

عالم تعيس

مشهد المقابلة التخيلية، الذي يتخيل فيه البطل أن الإعلامي سيفجر في وجهه سلسلة من الحقائق، دون أن يستطيع الرد عليه، يتعلق بجوانب معينة من العالم الذي كان يعيش فيه. ولكن تم تجاوزها من حيث التعقيد والفوارق الدقيقة من خلال مقابلة متلفزة مع أحد تجار المخدرات في السجن. حيث تغلب الأخير إلى حد ما على سيلفيريو بأسلحته الخاصة.

يقلق بطل الفيلم من الفقر والإفقار الممنهج الناتج عن الفساد في بلده الأصلي، ويختلف في وقت ما مع عائلته في هذا الأمر، لكنه يوضح قائلاً:

“الأمر لا يتعلق بالفقر، إنه يتعلق بالظلم”.

يعيش سيلفيريو في دراما داخل نفسه. حيث يحاول أن يكون مثالياً، على الرغم من بعض التنازلات المتأصلة في شخصيته. ويواجه الكثير من الأسئلة التي لم يستطع الإجابة عليها: كيف نجعل الجميع سعداء؟ كيف نقضي على الظلم ونحقق العدالة؟ وكيف نكون قادرين على مواجهة تقلبات هذا العالم دون السقوط في خيبة الأمل؟

تأريخ مزيف لبعض الحقائق

أحد مفاتيح فهم الفيلم يكمن بالتحديد في عنوانه الأصلي باردو: تأريخ مزيف لبعض الحقائق. مع وضع هذه الجملة في الاعتبار نقترب أكثر من الفيلم، لأن ما ينتظرنا على الشاشة هو تدفق من الصور والمتواليات التي تنتمي إلى عالم الأحلام بقدر ما تنتمي إلى عالم الواقع. وهي تختلط وتندمج وتتداخل مع بعضها البعض، لتجر المتفرج إلى قصة يترجم فيها خيال البطل وضميره إلى عناصر ملموسة حاضرة باستمرار أمامنا.

ينتقل إيناريتو بين المستويات المختلفة بسلاسة لدرجة أننا نادراً ما نعرف ما إذا كنا نختبر سيلفيريو في الوقت الحاضر، أو نغوص في أعماق ذكرياته، أو نشاهد فيلمه الأخير أو أحد أحلامه. إنه ليس فيلماً يدعوك لفك شفرته. ولكنه يأخذك في رحلة مخيفة غير مسبوقة يسعد فيها المشاهد بمرافقة المخرج الطموح من الناحية الفنية مرة أخرى.

يجعلك فيلم Bardo: False Chronicle of a Handful of Truths تفكر بعمق في العالم ومعنى الوجود. كما يقدم رسالة اجتماعية رائعة من الظلم الاجتماعي وديكتاتورية الشركات الكبرى إلى “النقرات التي تخبرنا بما يجب أن نصدقه”. إن المشهد الذي يرى فيه سيلفيريو نفسه وحيداً في الشارع مع حشد من الناس يسقطون على الأرض يعمل كاستعارة رائعة للأزمة التي تمر بها البشرية وتشير إلى عدم وجود حل. وهي أيضاً تعمل كمقدمة لحوار خيالي صوره في فيلمه الوثائقي مع الفاتح الشهير هيرنان كورتيس الذي فتح إمبراطورية الأزتك في المكسيك أمام الإسبان، وارتكب العديد من المجازر هناك. وبالنظر إلى شهرة الشخصية والقضايا التي يطرحها فيما يتعلق بالشعب المكسيكي وثقافته، فضلاً عن القضايا الشخصية والاجتماعية، يمكن أن نرى أن سيلفيريو هو انعكاس للمخرج.

وليمة للحواس

هذا الفيلم هو وليمة للحواس من أول إلى آخر ثانية. وفي أول تعاون له مع المصور السينمائي داريوس خوندجي قدم المخرج أحد أكثر أفلامه روعة من الناحية البصرية. فالعالم الذي يشكله إيناريتو على الشاشة عبارة عن سلسلة من المشاهد ذات جمال لا يرقى إليه الشك، وتتمتع في نفس الوقت بعمق سردي كبير. فمن الصعب أن تظل غير مبالٍ خلال ما يقرب من ثلاث ساعات من المشاهد التي يتردد صدى موضوعاتها العميقة. كيف نعيد تعريف هويتنا بعد ترك المكان الذي ولدنا فيه؟ ما هو الدور الذي تلعبه جذورنا في تحديد من نحن؟ هل النجاح هدية أم عبء؟

اقرأ أيضًا: مراجعة فيلم Instinct: أوهام العودة إلى الطبيعة

جاءت النهاية حزينة، حيث ينظر إيناريتو إلى عالم ما بعد الموت على إنه خطوة تطورية أخرى، ويرى الموت تحرراً وقفزة نحو السمو. لكن في الختام يتميز فيلم Bardo: False Chronicle of a Handful of Truths بسلسلة من السحر الخالص والعمق الكبير. بينما نجد أنفسنا نعيد التفكير فيها مراراً وتكراراً، حتى بعد فترة طويلة من انتهاء المشاهدة.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!