علوم

الذاكرة البشرية: سر الحفظ والنسيان

هناك لحظات قصيرة جداً لا نكاد ندركها، وتمضي في طريقها دون أن تترك أثراً، كالفكرة العابرة التي تمر على وعينا مر السحاب. وهناك لحظات أخرى طويلة تمر علينا ببطء لتبدو لنا كالأبد مثل لحظات الانتظار القلق. إننا نتحدث عن الذكريات. تلك السجلات العقلية عن حياتنا التي تجعلنا ما نحن عليه، إنها أكثر بكثير من مجرد صور حقيقية للماضي. يحتوي مخزن الذاكرة في دماغنا على قدر كبير من المعلومات والتجارب التي يمكننا تذكرها كل يوم. الصور الذهنية التي إن فقدناها نفقد معها هويتنا. لكن ذكرياتنا ليست دائماً انعكاساً حقيقياً للماضي، فهي تحتفظ ببعض الأشياء ويتحول البعض الآخر إلى سراب. ولكن لماذا لدى البعض قدرة كبيرة على التذكر أعلى من الشخص العادي؟ ولماذا لا نتذكر تجارب طفولتنا المبكرة بشكل واضح؟ ولماذا لا ينبغي لنا أن نثق بشكل أعمى بذكرياتنا؟ دعونا نخوض رحلة شيقة لنتعرف على الذاكرة وأنواعها وكيف تعمل أدمغتنا لحفظ هويتنا.

“إذا كنت تعرف ماضيك، فستعرف مَن أنت اليوم”.

ما هي الذاكرة؟

الدماغ عبارة عن بنية معقدة. يمكنك رؤيته كشبكة ضخمة تحتوي على ما يصل إلى 100 مليار خلية عصبية. تتصل كل خلية عصبية بآلاف الخلايا العصبية الأخرى. تبعث هذه التوصيلات إشارات كهربائية وتشكل الأساس لجميع أفكارك وذكرياتك ومشاعرك.

ربما حدث لك أن صعدت إلى الطابق العلوي لجلب شيء ما، وبمجرد وصولك إلى هناك، لا تعرف لما أتيت إلى هنا. أو بعد عودتك من السوبر ماركت نسيت بعض البقالة. الجميع ينسى أحياناً، لكن البعض ينسى أكثر من الآخر ومع التقدم في السن يزداد النسيان. ولكن كيف تعمل الذاكرة؟ يحاول العلماء البحث في هذه العملية، ولكن لا يزال هناك الكثير لاكتشافه.

تتذكر المعلومات لأن دماغك يقوم بإجراء اتصالات جديدة بين الخلايا العصبية. عندما تحاول تذكر شيء ما، فإنك تستخدم شبكة كاملة من الخلايا العصبية. كل حواسك تسجل الذكريات، الرائحة والذوق والشعور والأصوات. وبالتالي يمكنك أن تتذكر شيء معين عندما تشم رائحة معينة أو تسمع أغنية.

أين تقع الذاكرة في دماغك؟

لا توجد الذاكرة في مكان واحد في دماغنا، ولكن هناك أشكال مختلفة من الذاكرة بمواقع مختلفة في دماغنا. يمكن تقسيم الذاكرة إلى ثلاثة أنواع، وهي الذاكرة الحسية في القشرة الدماغية، والذاكرة قصيرة المدى في الحصين، والذاكرة طويلة المدى التي تنتقل من الحصين إلى القشرة الدماغية.

أنواع الذاكرة البشرية

أنواع الذاكرة البشرية
أهم أنواع الذاكرة البشرية

هناك عدة أنواع من الذاكرة البشرية مثل الذاكرة القديمة والذاكرة الرجعية والذاكرة الحديثة، ولكن في تصنيف الذكريات هناك ثلاثة أنواع رئيسية تشتمل على فئات فرعية، وهي الذاكرة الحسية والذاكرة قصيرة المدى والذاكرة طويلة المدى.

الذاكرة الحسية

كل ما تراه وتسمعه وتشمه وتلمسه وتشعر به يدخل إلى الذاكرة الحسية. الذاكرة الحسية تقع في القشرة الدماغية وهي كبيرة جداً. وليس كل ما يدخل الذاكرة الحسية يتم الاهتمام به، وبالتالي يتغلغل في الوعي، وهذا أمر جيد، لأنه بخلاف ذلك سوف تصاب بالجنون من كل المحفزات التي تأتي في طريقك. يُسمح فقط للرسائل المهمة بالمرور والانتقال إلى ذاكرتك قصيرة المدى. وبالتالي فإن الذاكرة الحسية تعمل كنوع من حارس البوابة. كل حاسة لديها مساحة تخزين منفصلة. تسمى مساحة تخزين الصور “الذاكرة الأيقونية” وللأصوات “الذاكرة السمعية”، وللروائح “الذاكرة الشمية” وللملمس “الذاكرة اللمسية” وللتذوق “الذاكرة الذوقية”.

الذاكرة قصيرة المدي

تُعرف الذاكرة قصيرة المدى على أنها نوع الذاكرة القادرة على الاحتفاظ بمعلومات محددة لفترة قصيرة من الوقت. هذه الذاكرة ضرورية لأداء المهام اليومية البسيطة التي تتطلب الانتباه الدقيق لبضع دقائق. ويندرج تحت هذا النوع من الذاكرة عدد كبير من الأنواع الفرعية للذاكرة.

الذاكرة قصيرة المدى هي أول ذاكرة واعية وتسمى أيضاً الذاكرة العاملة. هذه الذاكرة صغيرة جداً وتقع في الحصين. تضمن الذاكرة قصيرة المدى أن يكون لديك الوقت الكافي لكتابة رقم الهاتف بمجرد سماعه. يمكنها تخزين حوالي 7 أشياء وعندما تكون “ممتلئة”، يتم التخلص من الأشياء القديمة وتنسى رقم الهاتف مرة أخرى. ولسوء الحظ، في بعض الأحيان يتم التخلص من الأشياء المهمة.

هذا النوع من الذاكرة ليس الخطوة الأولى في العملية، فقبل أن تصل المعلومات إلى الذاكرة قصيرة المدى يجب أن يكون هناك إحساس، ثم يأتي الإدراك ويجب أن يكون هناك مستوى من الانتباه. تستقبل الذاكرة قصيرة المدى هذه المعلومات وتحكم على أهميتها لتحديد ما إذا كانت هذه المعلومات غير مهمة فتتجاهلها، أم إنها مهمة ويجب نقلها إلى الذاكرة طويلة المدى.

هل يمكنك أن تسأل نفسك ماذا تناولت على الغداء قبل ثلاثة أيام؟ ما لم تكن هناك مناسبة خاصة فمن المحتمل ألا تتذكر هذه المعلومات، لأن الدماغ قرر أن هذه المعلومات ليست مهمة، وبالتالي ليس من الضروري الاحتفاظ بها.

هناك العديد من العناصر المهمة التي تؤثر على الذاكرة قصيرة المدى، ومنها المشاعر. حيث تكون المعلومات المصحوبة بشحنة عاطفية كبيرة أكثر عرضة للتذكر من غيرها، على سبيل المثال يمكن لشخص ما إجراء نفس المحادثة مع شخصين مختلفين، ولكنه في حالة حب مع أحداهما، في هذه الحالة من المرجح أن يتذكر هذا الشخص محادثته مع الشخص الواقع في حبه وينسى محادثة الآخر.

الذاكرة طويلة المدى

النوع الآخر من الذاكرة هو الذاكرة طويلة المدى، وهذا هو نوع الذاكرة الذي يسمح لك بتخزين وترميز معلومات غير محدودة، لفترة طويلة من الزمن يمكن أن تبدأ من بضع دقائق لتصل إلى سنوات طويلة. وهذا النوع من الذاكرة هو الأكثر تضرراً مع تقدم العمر والأمراض التنكسية العصبية مثل الزهايمر.

تُخزن الذاكرة طويلة المدى أشياء كثيرة، ويتم ذلك دون وعي تقريباً. وهي الذاكرة التي تساعدك على تذكر مهارات مثل السباحة والمشي والقيادة، وتجعلك تتذكر أيضاً موضوع الكتاب أو أسماء زملائك في العمل. تستقبل الذاكرة طويلة المدى المعلومات من الذاكرة العاملة وتقوم بتخزينها بحيث يمكن استرجاعها في وقت لاحق. في الذاكرة طويلة المدى، يتم تشفير المعلومات وفقاً لمعناها، وبهذه الطريقة يتم ربطها بعناصر أخرى لها نفس المعنى. يمكنك أن تتخيل الذاكرة طويلة المدى كشبكة كبيرة من العناصر المترابطة. وتنقسم الذاكرة طويلة المدى إلى نوعين:

  •  الذاكرة الضمنية (اللاواعية): وتشمل المهارات التي تتذكرها مثل القراءة أو السباحة أو ركوب الدراجات، والعادات والأشياء التي اعتدت عليها لأنك فعلتها كثيراً.
  • الذاكرة الصريحة (الواعية): هذا هو المكان الذي يتم فيه تخزين الذكريات الواعية، مثل الأشياء التي مررت بها شخصياً (زيارة متحف أو طبيب أو نزهة مع الأصدقاء). وهي ما يطلق عليها أيضاً الذاكرة العرضية. تُخزن هذه الذاكرة كذلك الحقائق والمعرفة العامة، وما تتعلمه في المدرسة يخزن هنا بشكل أساسي.

كيف تعمل الذاكرة؟

تعريف الذاكرة
طريقة عمل الذاكرة

تعمل الذاكرة الحسية كنوع من المرشح، وتنقل المعلومات المهمة إلى الذاكرة قصيرة المدى. تفعل ذلك عن طريق تحويل المعلومات الحسية إلى رسالة مناسبة للذاكرة قصيرة المدى، وهذا ما يسمى “الترميز”. على سبيل المثال، إذا سمعت صوتاً معيناً، فإن الفكرة التي تراودك حول هذا الصوت تأتي إلى ذاكرتك قصيرة المدى: “هذا صوت قطار”.

لكن لا يدخل كل صوت أو معلومات حسية أخرى إلى ذاكرتك قصيرة المدى. فالمعلومات التي لها معنى بالنسبة لك – المعلومات المهمة – سوف تصل إليك بشكل أسرع من تلك التي ليس لها معنى بالنسبة لك. فإذا كنت واقفاً بسيارتك على مسار للسكك الحديدية وسمعت صوت قطار يقترب، فسيتم نقل هذه المعلومات لأنه من المهم جداً بالنسبة لك أن تترك المسار. هذه العملية تسمى “التفصيل”. ويضمن التفصيل سهولة تخزين المعلومات واسترجاعها من الذاكرة طويلة المدى. ومن خلال ربط المعلومات الموجودة في الذاكرة قصيرة المدى بالمعلومات المخزنة بالفعل في الذاكرة طويلة المدى، يمكن تخزينها بسهولة أكبر. بهذه الطريقة، يتم إنشاء شبكة بها عدد لا يحصى من الارتباطات التي تعزز تخزين المعلومات.

إحدى الوظائف المهمة للذاكرة هي الوصول إلى المعلومات واسترجاعها. فكلما زاد عدد الارتباطات، وكلما تم إرجاع المعلومات في كثير من الأحيان، كلما زاد عدد الطرق، وأصبح من الأسهل استرداد المعلومات. لذلك، إذا كنت تكرر مذاكرة مادة دراسية معينة وتربطها بأشياء أخرى تعرفها بالفعل، يصبح من الأسهل استرجاع مادة الدرس من ذاكرتك.

الشرط الأساسي لتذكر شيء ما هو إدراك المعلومات. عليك أن ترى أو تسمع أو تشعر بالمعلومات بطريقة ما. وهذا يتطلب قدراً معيناً من الاهتمام والتركيز. قد تدرك أنك تحاول الدراسة من أجل الاختبار، ولكن بعد قراءة صفحة ما، تنسى ما قرأته. لذا من الضروري تركيز انتباهك على ما تقرأه لتخزين المعلومات وتذكرها. فإذا تشتت انتباهك بسهولة بسبب الأصوات والأشياء التي تحدث من حولك، فسيكون من الصعب أيضاً استيعاب المعلومات. لذلك يعد التركيز شرطاً ضرورياً لتذكر شيء ما وتعلم شيء ما.

فقدان الذاكرة الطفولي

نسيان ذكريات الطفولة المبكرة
لماذا تختفي ذكريات الطفولة المبكرة

الذاكرة هي عملية معقدة وديناميكية، حيث نتعرض باستمرار لمعلومات جديدة في حياتنا اليومية، لذا فإن ذاكرتنا قصيرة المدى أو الذاكرة المؤقتة على وجه الخصوص تتغير باستمرار؛ فهي تتكيف باستمرار مع التغيرات في بيئتنا، والمحتوى الجديد يدفع المحتوى القديم إلى الخلفية.

لكن منطقة الذاكرة التي تخزن بشكل دائم الذكريات الشخصية المهمة والتي تشكل الأنا لدينا تتميز أيضاً بالنسيان. فلا تحتوي هذه الذاكرة على أي ذكريات من السنوات الأربع الأولى من حياتنا. ونفقد تقريباً كل ذكريات طفولتنا المبكرة، ولا يمكن للعلماء سوى التكهن بأسباب ما يسمى بفقدان الذاكرة في مرحلة الطفولة المبكرة.

ما نتذكره طوال حياتنا – وما لا نتذكره

لقد كنا على قيد الحياة بالفعل لعدة سنوات، وكانت أدمغتنا تقوم بالفعل بمعالجة المعلومات الآتية من البيئة، وتمكنا حتى من تعلم المهارات والمعلومات وطرق التصرف. لكن ماذا حدث لهذه الذكريات الأولى؟ ولماذا لا نتذكر عندما تعلمنا المشي أو التحدث؟ تشير إحدى النظريات إلى أن مناطق معينة من أدمغة الأطفال الصغار لم يتم تطويرها بعد بما يكفي لتكون قادرة على تخزين الذكريات بالتفصيل، وبالتالي تكون قادرة على تذكرها على المدى الطويل. يؤثر هذا في المقام الأول على العلاقة بين الحصين، وهو المكان الذي يتم فيه إنشاء الذكريات وتخزينها في البداية، وبين القشرة الدماغية، التي تعمل كمخزن طويل المدى.

تشير دراسات أخرى إلى أن السبب وراء فقدان ذاكرة الطفولة يعود إلى حقيقة أن الأطفال لا يطورون الوعي الذاتي إلا في سن الثانية تقريباً. وبمجرد أن يتطور الوعي يبدأ الدماغ في حفظ الأحداث والمواقف. أما التجارب السابقة فيخزنها الدماغ في شكل رموز، ولا يعد بالإمكان تذكرها بشكل واعي. وهناك تفسير آخر يقول إن الأطفال الصغار تركز على أوجه التشابه بين الأحداث ويشرعون في فرز تجاربهم الشخصية إلى تسلسلات روتينية مثل الأكل والاستحمام والذهاب إلى حديقة الحيوان. ثم تأخذ هذه التجارب الفردية المقعد الخلفي. ومن هنا تختفي هذه التجارب العادية في اللاوعي حتى يطور الأطفال إحساساً بالحياة الطبيعية. ويعتبر هذا الشعور عملياً جداً. حيث يمكنهم ذلك من التعرف بسرعة على ما هو غير طبيعي وبالتالي إدراك الخطر الوشيك.

تجارب مكثفة للغاية

يخزن العقل تجارب الفترة ما بين 15 و25 عاماً بالكامل على النقيض من تجارب الطفولة. وتشير الدراسات إلى أن نسبة كبيرة من أقوى ذكرياتنا تتعلق بهذه المرحلة من حياتنا. لكن لماذا؟ يعتقد الباحثون أن السبب وراء ذلك أن تجارب هذه المرحلة من الحياة هي تجارب مكثفة للغاية وغالباً ما تكون محملة بالمشاعر، على سبيل المثال: الوقوع الأول في الحب، أو حسرة قلب، أول يوم في العمل.

إن الموقف الجديد علينا يكون غالباً محمل بكم كبير من المشاعر مما يجعل الذاكرة تراه كحدث هام، وهذا هو بالضبط سبب حفظ هذه المواقف بشكل جيد. لأن دماغنا يصنف الأحداث العاطفية على أنها ذات أهمية خاصة، وبالتالي تستحق التذكر. فكلما نظرنا إلى موقف ما بشكل عاطفي أكثر، كلما زاد احتمال تذكره لاحقاً بغض النظر عما إذا كان هذا هو اليوم البهيج لحفل زفافنا أو رعب حادث سيارة. يقول عالم النفس جيرنوت هورستمان من جامعة بيليفيلد:

“المهم والعاطفي هما نفس الشيء تقريباً بالنسبة للباحثين في مجال الذاكرة”.

سر الذاكرة الفائقة

أسرار الذاكرة الفائقة
لماذا يتذكر البعض أفضل من البعض الآخر

تعلّم ألف رقم في ثلاثين دقيقة، أو التعرف على 750 مدينة رئيسية من صور الأقمار الصناعية أو حفظ تسلسل عشوائي من البطاقات بعد نظرة واحدة فقط. أصحاب الذاكرة الفائقة لديهم قدرات مذهلة. إنهم يتذكرون جيداً، في حين أن الأشخاص العاديين يواجهون أحياناً مشاكل حتى مع رقم هاتف بسيط. ولكن لماذا يحدث ذلك؟ وهل هناك فرق بين هؤلاء وبين الأشخاص العاديين الأكثر نسياناً؟ إن الإنجازات المذهلة التي يقدمها أصحاب الذاكرة الفائقة لا يحققونها بفضل دماغ أكبر من غيرهم كما يعتقد البعض. حيث اكتشف العلماء أن أدمغة هؤلاء لا تختلف عن أدمغة غيرهم من حيث الحجم أو السمات التشريحية الأخرى. لكن يكمن سرهم الوحيد في الاتصالات الوظيفية الأقوى. وهي دوائر معقدة تتواصل من خلالها خلايا ومناطق الدماغ المختلفة مع بعضها البعض وتتبادل البيانات. وكما تظهر فحوصات الدماغ، فإن بعض هذه الروابط تكون أكثر وضوحاً في “الأدمغة الفائقة” مقارنةً بـ “الأشخاص العاديين”.

تأتي مجموعة كاملة من هذه الروابط من قشرة الفص الجبهي الأوسط – وهي منطقة الدماغ خلف جبهتنا والتي تقارن المعرفة الجديدة بما هو معروف بالفعل. أما الحزمة الثانية من هذه الروابط فتتركز في القشرة الجبهية الظهرية اليمنى المجاورة. حيث تنشط هذه المنطقة عندما نستخدم تقنيات التعلم الإستراتيجية.

فن الاستذكار

الشيء المثير في الأمر هو أن الروابط الوظيفية في دماغنا مرنة جداً، وتتغير باستمرار، مثل العضلات الموجودة في أجسامنا. فكلما قمنا بالتدريب أصبحت عضلاتنا أقوى، وهو ما يحدث مع أصحاب الذاكرة الفائقة، فلا يعد الأمر موهبة خاصة على الإطلاق، بل نتيجة تدريب مكثف. حيث يستخدم هؤلاء تقنيات معينة لتذكر أكبر قدر ممكن من المعلومات، وتستند هذه التقنيات على أمرين: أولهما أن الدماغ يتذكر الصور بشكل أفضل بكثير من المفاهيم أو الأرقام المجردة، وثانيهما أن الذكريات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأماكن، بحيث يمكن لبيئة مكانية معينة أن تساعدنا على تذكر المحتوى.

يقوم أصحاب الذاكرة الفائقة أولاً بترجمة سلسلة من الأرقام إلى صور، ثم يستخدمون طريقة لوسي – loci – وهي طريقة قديمة استخدمها الإغريق القدماء للتذكر. تقوم هذه الطريقة على إنشاء طريق يتكون من أماكن متعددة في بيئة مألوفة مثل المنزل أو مكان معروف مع غرف أو زوايا. الفكرة هي أن كل معلومة تحفظها، ستكون قادراً على وضعها في مكان معين داخل هذه البيئة، وتصنفها وتربطها بمعلومات أخرى، وتكون قادراً على تذكر أين وضعتها. على سبيل المثال عندما تقوم بتنظيم غرفة نومك، فإنك تتذكر المكان الذي تحتفظ فيه بكل قطعة من الملابس. وهذا يعني أن كل محتوى سيتم حفظه سيتحول إلى صورة ذهنية يمكنك “رؤيتها” في قصر ذاكرتك، مع موقعها المكاني وبقية الأشياء (المحتوى) المتعلقة بها. هذه الصورة هي التي سوف تتذكرها بوضوح.

يمكن أن يكون المسار أو المبنى حقيقياً أو خيالياً، الشيء الوحيد الهام هنا أنك تعرف هذا المكان جيداً بتفاصيله. ولكي تتذكر كل ما عليك فعله هو قطع المسافة على طول المسار أو داخل المنزل مرة أخرى. وبهذه الطريقة سوف تحفظ المعلومات بطريقة هرمية ومنظمة بشكل جيد، وفي كل غرفة يجب عليك تصور المعلومات التي قمت بحفظها بوضوح، بالإضافة إلى الألوان والأنسجة الخاصة بغرفتك.

لماذا لا نستطيع الوثوق بذكرياتنا؟

التلاعب بالذكريات
أسباب عدم الثقة في ذكرياتنا

ذكرياتنا هي بمثابة ألبوم الصور الذهنية بالنسبة لنا. نتصفحه لنستعرض قصة حياتنا ونتذكر أحداثاً معينة بالتفصيل. لكن كن حذراً! فالصور والملاحظات من الألبوم الموجودة في أذهاننا يمكن أيضاً أن يحكي قصة كاذبة، لأنه من السهل التلاعب بها. يشير الباحثون في مجال الذاكرة إلى أن الذكريات ليست دائماً انعكاساً للماضي الحقيقي، فنحن نستحضر ذكريات كاذبة في الحياة اليومية أكثر مما نعتقد. ولكن لماذا يحدث ذلك؟ يرى عالم الأعصاب جوزيف ليدوكس من جامعة نيويورك أن أحد أهم الأسباب لذلك هو الاعتماد على الحالة المزاجية للذكريات. حيث أن حالة الدماغ في وقت التذكر يمكن أن يكون لها تأثير كبير على كيفية تذكر تجربة سابقة.

إذا لم يحصل أحد الأشخاص على قسط كافٍ من الراحة، فهو يميل إلى تذكر أحداث معينة بشكل غير دقيق أو حتى بشكل غير صحيح. وبالمثل، يمكن لحالتنا العاطفية أن تلون ذكرى تجربة ما. على سبيل المثال، قد لا يبدو الموعد الأول مع شريكك بعد الانفصال وردياً كما كان عندما كنا في العلاقة. يمكن لذاكرتنا تعديل أي ذكرى في وقت لاحق مثل تغيير التفاصيل أو إعادة تقييم ما مررنا به عاطفياً. ويستنتج العديد من العلماء أن التذكر الموضوعي غير ممكن، وبدلاً من التوثيق التاريخي تصبح الذكريات أشبه بقصة نعيد كتابتها باستمرار، ولهذا السبب ينبغي التعامل مع أقوال الشهود والضحايا في المحكمة بحذر.

مطابقة الذكريات

الأمر اللافت للنظر هو أن الفرد ليس وحده الذي يعيد كتابة ذكرياته في بعض الأحيان، بل هناك أشخاص آخرين لهم يد في ذلك. تشير الدراسات إلى أنه عندما يتحدث الناس عن حدث مروا به معاً، فإن ذكرياتهم عن التجربة تكون أكثر تشابهاً من ذي قبل، لأنه أثناء المحادثة، يقوم شركاء المحادثة بمطابقة محتويات ذاكرتهم دون وعي. ويصل هذا التأثير إلى حد أننا ندمج التقارير الواردة من الآخرين في ذاكرتنا، على الرغم من أنها لا تتوافق على الإطلاق مع تجاربنا الخاصة. يمكن رؤية هذه الظاهرة في التجارب التي يُعرض فيها على الأشخاص نسخاً مختلفة من مشهد سينمائي دون أن يعرفوا ذلك، ثم يتبادلون الأفكار حول ما رأوه. فإذا كان عليهم أن يتذكروا تفاصيل المشهد مرة أخرى لاحقاً، فهم يتذكرون أيضاً الأشياء التي لم يروها بأنفسهم. حيث يحصلون على المعلومات من الشخص الذي كانوا يتحدثون إليه.

التلاعب بالذاكرة

الأمر الأكثر خطورة هو أن بإمكان الآخرين التلاعب بذكرياتنا، أو محاولة وضع تجربة كاملة لم تحدث داخل عقولنا. لقد تمكنت عالمة النفس جوليا شو من جامعة لندن ساوث بانك مؤخراً من خداع الطلاب وجعلهم يعتقدون أنهم ارتكبوا جريمة. حيث تحدثت عن جريمة وغرست في رؤوسهم الفكرة بشكل كامل لفترة طويلة من الوقت. وفي نهاية التجربة كان 70% من المشاركين الأبرياء في الاختبار مقتنعين بأنهم سرقوا شيئاً ما، أو ضربوا شخصاً ما، أو حتى هاجموا شخصاً بسلاح عندما كانوا أطفالاً. يحدث هذا النوع من التلاعب أيضاً في الحياة الواقعية، ونرى ذلك بوضوح عندما يعترف شخص ما بجريمة لم يرتكبها قط.

ماذا لو اختفت الذكريات؟

تكون بعض الذكريات مؤلمة للغاية لدرجة أنها تجعل الأداء اليومي الطبيعي شبه مستحيل. فماذا لو اختفت الذكريات المؤلمة من أدمغة الناس؟ ألن يكون ذلك بمثابة تحرر حقيقي إذا تمكنوا من النسيان؟ ولكن هل هذا ممكن؟ بحث العلماء طويلاً عن أدوية تهدف إلى تثبيط الذكريات المؤلمة لبعض الوقت، وكان الفكرة الرئيسية تستند على أن في كل مرة يتم فيها استرجاع الذكريات يتم حفظ محتويات الذاكرة مرة أخرى، ففي هذا الوقت تكون الذكريات مرنة جداً، أفلا يمكن مسحها؟

استخدم عالم الأحياء العصبية جوزيف ليدوكس من جامعة نيويورك الصدمات الكهربائية لجعل الفئران تخاف من صوت معين. ففي كل مرة يظهر الصوت تصعق الفئران، حتى وصل الأمر إلى أنهم بمجرد سماع الصوت مرة أخرى يتذكروا الألم فتتجمد الفئران في حالة صدمة، ومع ذلك تمكن الباحث من القيام بشيء مذهل: لقد حرر الفئران من خوفها أو من ذكرياتها المؤلمة. فكيف حدث ذلك؟

كيف يمكن محو الذكريات المؤلمة؟

بعد أن اعتادت الفئران على الخوف من الصوت، قام بحقنهم بنوع من حاصرات الذاكرة، وهي مادة تمنع إنتاج بروتينات معينة في الدماغ مهمة لتخزين التجارب. وكانت النتيجة تلاشي الخوف من الصوت. حيث تم مسح العلاقة بين الصوت والصدمة الكهربائية. وتوصل الباحث إلى أنه العملية تقوم على الآتي: تسترجع الذكريات، ثم تبدأ الذاكرة في حفظ محتوياتها مرة أخرى. فإذا تعطلت هذه العملية لسبب أو لآخر فإن الذكرى تتلاشى على ما يبدو، ومن الصعب الوصول إليها.

عاد العلماء لاستخدام مثل هذه الفكرة مع المرضى الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة. ففي إحدى الدراسات استعاد المرضى ذكرياتهم عن التجارب السيئة ثم تم إعطاؤهم حاصرات بيتا بروبرانولول، وهو دواء يمنع مستقبلات هرمون التوتر الأدرينالين، ويخفض ضغط الدم وإنتاج بروتينات الذاكرة.

وبعد تكرار هذا الإجراء عدة مرات، أصبح من الواضح أن ذكرى التجربة المؤلمة أصبحت أقل إرهاقاً بالنسبة للمتضررين. لقد أصبحوا أقل انزعاجاً وشعروا بالتحرر. ويبدو أيضاً أن هرمون الكورتيزول يمنع استرجاع الذاكرة وبالتالي يقلل من قوة الذاكرة. لا يتم حذف الذكريات بالكامل، لكن على الأقل تتلاشى المشاعر المرتبطة به.

النية الصافية تكفي

الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو أننا في بعض الأحيان لا نحتاج حتى إلى مساعدة الأدوية لكي ننسى، فقوة الإرادة وحدها تكفي. هذا ما تقترحه تجارب مثل تلك التي أجراها كارل هاينز بومل من جامعة ريغنسبورغ وزملاؤه. لقد طلبوا من الأشخاص الخاضعين للاختبار حفظ قائمتين من الكلمات واحدة تلو الأخرى. ومن أجل تشجيع المشاركين على النسيان، خدعهم الباحثون في التفكير بشيء ما وقالوا بعد الجولة الأولى: انسوا القائمة الأولى لأننا تعرضنا لعطل في جهاز الكمبيوتر وللأسف اضطررنا إلى إعادة تشغيل التجربة. أدى هذا المؤشر المحدد للنسيان إلى قيام الأشخاص بحذف المعلومات التي تعلموها، على النقيض من المجموعة الضابطة التي لم تتلق هذا التحذير. يبدو أن النسيان عمداً أمر ممكن من حيث المبدأ.

الحياة عبارة عن لحظات متتالية معظمها يمر دون أن يلاحظها أحد، والبعض الآخر يؤثر علينا بشكل واعي، ولكن جميعها لديها القدرة على تغيير مسار وجودنا. أي صوت يمكن أن يخرجنا من التركيز ويغلق الطريق أمام فكرة كانت على وشك أن تزدهر أو يمكن أن يكون حافزاً ليفسح المجال لفكرة أخرى كانت تنتظر حافزاً.

المصادر

1.    Author: Nelson Cowan, (03/18/2009), What are the differences between long-term, short-term, and working memory?, www.ncbi.nlm.nih.gov, Retrieved: 03/18/2024.

2.    Author: Eduardo Camina & Francisco Güell, (06/30/2017), The Neuroanatomical, Neurophysiological and Psychological Basis of Memory: Current Models and Their Origins, www.frontiersin.org, Retrieved: 03/18/2024.

3.    Author: Greg Miller, (05/14/2010), How Our Brains Make Memories, www.smithsonianmag.com, Retrieved: 03/18/2024.

4.    Author: Mary B. Howes, (11/28/2006), Human Memory: Structures and Images, www.us.sagepub.com, Retrieved: 03/18/2024.

5.    Author: Nicola Davis, (04/05/2023), Human memory may be unreliable after just a few seconds, scientists find, www.theguardian.com, Retrieved: 03/18/2024.

 

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!