يعتقد البعض أن الكذب عملاً من أعمال الجبن، ويعتقد آخرون أنه درع يحمينا من ألم الحقيقة، فالأكاذيب هي غياب للحقيقة، ويمكن أن تسبب عواقب وخيمة على مَن يقولها، وعلى مَن يتلقاها. لكن لماذا ليس من الجيد خداع الآخرين؟ دعونا نخوض معاً رحلة نتعرف من خلالها على سيكولوجية الكذب وكيف يسير بنا إلى طريق مسدود.
“الاعتراف السخي والحر يُضعف اللوم وينزع سلاح الأذى” – ميشيل دي مونتين
الكل يكذب
إن الكل يكذب، وهذه حقيقة لواقع بدأنا نتعلمه منذ نعومة أظافرنا بمهازلنا الخاصة. فهل يمكن العيش بدون كذب؟ هناك من يقول لا، وربما هم على حق، لأننا لا نستطع أن نظهر كل شيء، ولأن العلاقات – كما يقول عالم النفس الاجتماعي إيرفينغ جوفمان – هي مسرح يجسد جهد كل شخص ليظهر بشكل جيد. ويجب على الأشخاص الذين يختارون الظهور بمظهر الواثق أن يخفوا نقاط ضعفهم بعناية، ويجب كذلك على أولئك الذين يشعرون بعدم الأمان أن يتجنبوا إظهار ذلك ليكونوا أكثر ثقة واعتداد بالنفس. لكن ذلك يتطلب الكثير من الجهد والعمل، وبالتالي القلق الاجتماعي. فكل شيء مخفي هو توتر من نوع ما. والاختباء يتطلب جهداً، لأن الشيء الطبيعي هو أن يكون كل شيء مرئياً للجميع. وعندما يضطر شخص ما إلى الاختباء، فهو يتخذ قراراً أكثر جدياً مما يبدو عليه، حيث أنه يحدد منطقة معينة سيتعين عليه الدفاع عنها بجهد كبير، وسيكون محاصر بشكل دائم.
الاختباء يشبه مقاومة توسع الكون، فهو يحتوي على ما يريد أن ينكشف، وهو يكبت ما يريد أن ينتشر، ويحاول الإمساك بما يريد الهروب. إنه إنكار العالم الذي يريد أن يجردنا من ملابسنا، ويتعارض مع جهودنا للحفاظ على الملابس التي نغطي بها أنفسنا. والأكثر من ذلك أن مؤامرة العالم هذه لخلع ملابسنا تتسلل إلى داخلنا وتصبح عدواً داخلياً حقيقياً، يمكن أن يخوننا في أي لحظة، لذا يجب مراقبته بعناية وعلى الدوام. عندما نحتفظ بسر ما، سيتطلب الأمر الكثير من الاهتمام والكثير من العمل حتى لا تكشف كلماتنا وإيماءاتنا وسلوكيات حياتنا عن بعض التفاصيل المشبوهة التي إن ظهرت تلزمنا بالكشف عن المزيد. لذا فهذا العدو لا يشجعنا على التحدث كثيراً، فكلما تحدثنا أكثر، كلما أصبح من الصعب الحفاظ على ما تم إسكاته آمناً.
أكاذيب خفيفة، وأكاذيب ثقيلة
هناك أكاذيب خفيفة، تكاد تكون أساسية، وأكاذيب ثقيلة، والتمييز بينهما ليس بالأمر البسيط. فالكذب هو تجديف ضد التيار. إنه يقدم فكرة مزيفة مقابل فكرة حقيقية. وكلما كانت الأكاذيب ثقيلة سوف تميل إلى الانزلاق عبر شقوق ذلك الذي اخترعناه ليحل محل الحقيقة، وهذا ما يجبرنا على مواصلة اختراع الأكاذيب، والسعي لتغطية صدع تلو الآخر، ومحاكاة الصدق في كل تنافر جديد باستخدام أكاذيب جديدة، تترابط معاً حتى تصل إلى درجة من التعقيد لن يعد في مقدورنا التعامل معها.
هناك أكاذيب عظيمة ورائعة يصنعها كذابون كبار، وهياكل كاملة في المجتمع تساعد على الحفاظ على بنيات هذه الأكاذيب المعقدة، على سبيل المثال ما يفعله السياسيون والديكتاتوريون في كل مكان حولنا، لكن صنع مثل هذه الشبكة الضخمة من الأكاذيب لهو أمر محفوف بالمخاطر دائماً، ويجعل القائمين عليها في وجه التهديد على الدوام. أما نقطة الضعف الأساسية التي تجعل هذه الأكاذيب عرضة للانهيار هي عندما يفلت أحد عناصر الكذبة من السيطرة.
الحقيقة ستنتصر في النهاية
دعونا نتناول الأكاذيب الأكثر شيوعاً بعيداً عن الأكاذيب الضخمة التي ينسجها أولئك الذين في السلطة، إننا نقصد الأكاذيب التي نخبرها لأنفسنا، وهي الأكثر صعوبة في الحفاظ عليها، فلكي نصل إلى الاعتقاد بأننا لسنا ما نحن عليه، أو إننا نستحق ما لا نستحقه، أو إننا نحقق شروطاً نرفضها بشكل أساسي، فإننا نضطر إلى اللجوء إلى أدوات ووسائل غير عادية، وهي في الغالب وسائل ملتوية، وتفشل في كثير من الأحيان بطريقة أو بأخرى.
هذا الجهد العظيم الذي نبذله للاختباء وراء الأكاذيب التي نصنعها يستهلك جزء كبير من طاقة حياتنا، ولا يجعلنا أفضل أبداً، وكوننا كاذبين محكوم علينا دائماً أن نعيش في خوف من التهديد الأعظم الذي يتمثل في أن الحقيقة ستنتصر في نهاية المطاف، ولن يكن أمامنا خيار سوى مواجهتها. وعندما أوصى الحكماء القدامى بمعرفة الذات، ربما كانوا ينصحونا بالتخلي عن هذه اللعبة المكلفة والعبثية والاستسلام بصدق لحقيقتنا.
وحش فرانكشتاين
تقول الحكمة القديمة “وما الإنسان إلا صاحب أكاذيبه ما دام لم ينته من النطق بها”. فمنذ لحظة النطق بها فصاعداً، تقيم الأكاذيب نظامها الخاص، وبينما تفيدنا بمزاياها المحتملة المؤقتة، فإنها تخضعنا لسيطرتها بقوتها المتنامية، مثل وحش فرانكشتاين تماماً عندما يهرب من سيده ويفرض قواعده الخاصة، ويأخذ زمام المبادرة، ولا يترك له أي خيار سوى اتباعه. تفعل الأكاذيب معنا كذلك، ولا سبيل للهروب منها إلا بمواجهتها، وإبطالها، واستبدالها بالحقيقة مرة أخرى واستعادة العالم الحقيقي أمامها. لكن للأسف، بعد أن تنقضي الأكاذيب وتموت، لن يعد العالم كما كان من قبل. لقد انكسر شيء ما، أو ضاع شيء ما، أو ربما مات شيء ما خنقاً على يديها. وهذا ليس خطأ الأكاذيب، فكل شيء في الحياة هكذا، كل شيء يُرهقنا ويهزمنا، ولكن الأباطيل تفعل ذلك بشكل أكثر شراسة، لأنها تفرض علينا جزية أكبر بكثير مما تفرضه أمور الحياة الأخرى.
عندما يختفي العالم الحقيقي
الكذب هو فعل إبداعي بامتياز، لأنه لا يطمح إلى تفسير الواقع، بل إلى استبداله، وإزاحته إلى الخلفية، ومن ثم يخلق واقع مغاير أو لنقل لاواقع. وهكذا يتقمص الإنسان الكذوب دور الإله، ولا يقرر فقط مصيره، بل مصير العالم من حوله. فإذا كان الكذب خطيئة فذلك على الوجه التحديد بسبب تلك اللحظة من الكبرياء التي يحاول فيها اغتصاب الصفة الإلهية للخليقة. إنه تمرد، ولكنه تمرد فاشل، واغتصاب فاشل. حيث سرعان ما يتم اكتشاف الكذبة ومن وراءها، وحينها ينزلق العالم الحقيقي من بين أصابع صانعها، ويعلم الجميع أن كل ذلك كان خدعة أو خيال أو زخرفة، وفي النهاية لا تغير الكذبة شيئاً إلا فينا، ودائماً نحو الأسوأ، بعد أن تنهار تحت وطأة الواقعية.
الكذب.. أسوأ السجون
الكذب هو أيضاً فعل من أفعال الحرية، ولكنه فعل يستنفد نفسه، ومن المفارقات أنه يصبح أسوأ سجن. فعندما نمنح الأكاذيب قوة على الواقع، فإننا نمنحها أيضاً السيادة علينا. وتبدو بمثابة آلة هائلة ومخيفة نحركها، ثم تعمل فوراً من تلقاء نفسها وتتفوق علينا وتجرنا للأمام. ربما كانت الكذبة الأولى اختيار، لكنها تجبرنا على فعل كل ما سيأتي بعدها. وهذا هو السبب في أن تحرير نفسك يعني العودة إلى الحقيقة، ولهذا السبب فإن التوقف عن الكذب، بغض النظر عن تكلفة ذلك، يعد بمثابة حرية، إلا أن العودة للحقيقة لها ثمنها، وكلما كانت الكذبة كبيرة، كلما أبعدتنا عن أرض الواقع الصلبة، وكان ثمنها أعظم. لكن هناك من لا يجرؤون على دفع هذا الثمن، ويفضلون البقاء في حالة من الندم والتردد، وهو ما يمكن اعتباره في نهاية المطاف جبناً.
الكذب وصراع الهوية
تعكس الأكاذيب كذلك عملية تدهور ذات الإنسان، فالشخص الذي يكذب يكون مجبراً على اختراع شخصية أخرى بعيدة عن حقيقته، لذا فلا يؤدي الكذب إلى صراع أخلاقي فحسب، بل يتضمن في المقام الأول صراعاً على الهوية. يكتشف المرء دخيلاً في نفسه، ويكتسب منزلة معينة تتسع رويداً رويداً على حساب نفسه الحقيقية، ويعتقد الكذوب حينها أن هذه الشخصية الدخيلة هي التي يأمل أن يكونها، لتبدأ في توسيع رقعتها، وفي النهاية هي التي تملك خيار التعبير وتحقيق الذات، بينما الهوية الأصلية تضطر إلى الانسحاب لتتخلى عن مكانها وكيانها.
إن النقص الذي ينشئه الكذب هو نقص وجودي: فالكاذب يرى وجوده ناقصاً، ومحكوماً عليه بالسرية؛ فهو محروم من العلاقات حتى لا تكون شهوداً عليه، بمعنى أنه ينسحب إلى عزلة لا أحد فيها سوى الأكاذيب من حوله، وينتهي به الأمر إلى العثور على عدو في شخصيته، ويبدأ في كرهه والتآمر عليه سراً. كل كذبة، كل إخفاء، ينطوي على لعبة انفصامية، تفرقنا بين ما نتظاهر به وما نحن عليه. وتبدأ عملية الخلط بين الاثنين، وهو ما يجعلنا ضحايا أكاذيبنا وينتهي بنا الأمر إلى نسيان ما نخفيه.
أقوال الحكماء عن الكذب
عندما يكذب علينا شخص ما، حتى عندما نفعل ذلك بأنفسنا، فمن الصعب أن نفهم هذا الفعل. لذلك، نشاركك بعض العبارات حول الكذب والتي ستسمح لك بالتأمل والتفكير أكثر قليلاً في الدوافع الكامنة وراءه. وحتى من خلال فهم أفضل للأسباب التي تجعل الناس يكذبون، سيكون من الممكن تجنب الألم الذي يصاحب اكتشاف أننا كنا ضحايا للخداع. لقد أبدت شخصيات عظيمة في التاريخ آراءها حول الأكاذيب وما تمثله. لذا دعونا نتعرف عن بعض منها.
- مع مرور الوقت، الحقيقة المؤلمة أفضل من الكذبة المفيدة – توماس مان.
- إن الهزيمة بقول الحقيقة خير من الانتصار بالكذب – المهاتما غاندي.
- نصف الحقيقة هو أجبن الأكاذيب – مارك توين.
- الأكاذيب والأسرار كالسرطان في النفس. يأكلون الطيبات ولا يتركون إلا خراباً – كاساندرا كلير.
- من الحكمة ألا نثق تماماً بمن خدعونا مرة واحدة – رينيه ديكارت.
- لولا الأكاذيب لماتت الإنسانية من اليأس والملل – أناتول فرانس.
- الكذبة لا تعيش أبداً لتكون عجوزاً – سوفوكليس.
- الكذبة مثل كرة الثلج؛ كلما تدحرجت أكثر، كلما أصبحت أكبر – مارتن لوثر.
- الكذبة التي تتكرر بشكل صحيح ألف مرة تصبح حقيقة – بول جوزيف غوبلز.
- لن يكون للكذب أي معنى إذا لم يُنظر إلى الحقيقة على أنها خطيرة – ألفريد أدلر.
- الحرية تتمثل في المقام الأول في عدم الكذب. وحيثما تتكاثر الأكاذيب، يُعلن الطغيان أو يستمر – ألبير كامو.
- من يكذب لا يدري الورطة التي وضع نفسه فيها، لأنه سيضطر إلى اختراع عشرين كذبة أخرى، للحفاظ على يقين الأولى – ألكسندر بوب.
- إن الإنسان الذي يكذب على نفسه، ويستمع إلى كذبه يصل إلى مرحلة لا يستطيع فيها تمييز الحقيقة بداخله، وبالتالي يفقد كل احترام لنفسه وللآخرين – فيودور دوستويفسكي.
مراجع
1. Author: Matthias Gamer, Kristina Suchotzki, (12/11/2018), Lying and Psychology, www.academic.oup.com, Retrieved: 04/20/2024. |
2. Author: Brianna L. Verigin, (12/03/2019), Lie prevalence, lie characteristics and strategies of self-reported good liars, www.ncbi.nlm.nih.gov, Retrieved: 04/20/2024. |
3. Author: James Edwin Mahon, (12/11/2018), Classic Philosophical Approaches to Lying and Deception, www.researchgate.net, Retrieved: 04/20/2024. |
4. Author: Don Fallis, (01/29/2009), What Is Lying?, www.jstor.org, Retrieved: 04/20/2024. |
الإنسان الكذوب أسوأ البشر
بالفعل هو كذلك