يحاول عالم البيانات الأمريكي سيث ستيفنز دافيدوتس الغوص في بواطن النفس البشرية من خلال ما يعرضه في كتاب الكل يكذب. حيث يوضح فيه أن الناس حينما تنعزل وتكون بمفردها وليس معهم سوى لوحات مفاتيح الحاسب الآلي يفصحون عن أغرب الأمور التي لا يمكن أن يتحدثوا عنها في الواقع. فعلى محركات البحث يتخلص الناس من أعباء أحلامهم وآلامهم دون أن يفصحوا عنها لأي شخص يمكنه انتقادهم أو الحكم عليهم. نتعرف في هذا الكتاب على أغرب الأمور التي لا يمكن أن توضحها حتى الاستبيانات التي يقوم بها الباحثون. فهيا بنا نخوض رحلة شيقة للتعرف على ملخص كتاب الكل يكذب لنكشف عن الأسرار المظلمة للبشر التي يعترفون بها لمحركات البحث.
الكل يكذب على الدوام
يخبرنا ستيفنز دافيدوتس أن الناس تكذب على الدوام. فلا ينبغي علينا التعويل على المناقشات العامة أو استطلاعات الرأي أو الاستبيانات، نظراً لعدم صدق الناس في أغلب الأمور التي يتحدثون فيها، والقليل منا فقط يقول الحقيقة.
تخيل أي قصة اجتماعية مهما كانت، على سبيل المثال “المتدينون لا يشاهدون الأفلام الإباحية” أو “الآباء لا يشعرون بالندم على إنجاب الأطفال” أو “السياسيون لا يمارسون العادة السرية” أو “النساء غير قلقات بشأن رائحة المهبل”. كل هذه الأمور تعتبر من المحرمات الاجتماعية. ولا يبوح بها الكثير من الناس حتى أمام أنفسهم. فنحن البشر نميل إلى عدم قول الحقيقة، لكن مع التقدم التكنولوجي المتسارع، وقدرة الذكاء الاصطناعي على تسجيل كل حركاتنا على الإنترنت، واسترجاعها من خلال البيانات الضخمة كانت كفيلة بالكشف عما يبحث عنه الناس في الخفاء.
تسمح لنا البيانات الضخمة برؤية ما يريده الناس بالفعل، وما يفعلونه حقاً، وليس ما يقولون أنهم يريدوه وما يقولون أنهم يفعلوه. على سبيل المثال، إذا سألت المحافظين الأمريكيين عن ممارستهم للعادة للسرية، فمن المحتمل أن تحصل على إجابة بأنهم لا يفعلون مثل هذه الأشياء. لكن أقوالهم هذه يمكن دحضها بسهولة بواسطة عمليات البحث على جوجل.
يعرض كتاب الكل يكذب مثل هذه الأمور التي يبحث عنها الناس في الخفاء ليكشف لنا عن حقائق مثيرة. تشير هذه الحقائق إلى أن السبب وراء كذب الكثير من الناس في واقع الحياة يعود إلى رغبتنا في عدم الحكم علينا، وعدم تمييزنا اجتماعياً.
اقرأ أيضًا: كتاب موسى والتوحيد: هل كان موسى كاهناً في بلاط أخناتون؟ |
هل نعيش محاطين بالمحرمات والأكاذيب؟
المثير للاهتمام في هذه الحقائق وغيرها من الحقائق الأشد غرابة هو أن الناس أكثر استعداداً للاعتراف بشيء ما إذا كانوا بمفردهم مقارنة بالتواجد مع المزيد من الأشخاص في الغرفة. وهنا لا نتحدث فقط عن الجنس أو نوايا التصويت في الانتخابات أو الآراء حول المثلية وغيرها فهناك الكثير من الأمور الأخرى التي نميل إلى تغيير ما نقوله عنها أمام الآخرين ربما لجعلها أكثر قبولاً.
إن ما يقدمه ستيفنز دافيدوتس في كتاب الكل يكذب يتجاوز استطلاعات الرأي والأكاذيب. حيث يبدو أننا سيئون في تفسير الواقع مثل قول الحقيقة تماماً. بينما تبرز تجربة قام بها المؤلف هذا الأمر. فلقد قام بتحليل مشاهدة الأفلام العنيفة في مكان ما. وقياس ارتباط هذه الأفلام بمعدلات الجريمة في نفس المكان، ليكشف زيف ما كنا نعتقده. ففي السابق كنا نعتقد أن مشاهدة الأفلام العنيفة أحد أسباب زيادة العنف والجريمة، لكن عندما عُرض فيلم عنيف انخفض معدل الجريمة في المنطقة.
هذه الأنواع من الارتباطات السببية موجودة في كل مكان حتى لو لم نفهمها تماماً. إنها تحدث، لكن لا يمكننا تخيلها أو معرفة السبب وراءها. وعندما يحدث ذلك نميل إلى إنكارها كما لو كانت كذبة. يبدو أن رؤية العنف للعقل يشبه ممارسة العنف. ولكن نكتشف زيف هذه الاعتقادات، فمشاهدة الأفلام العنيفة تجعل الناس أقل عنفاً على عكس كما كنا نتوقعه.
موضوعات مثيرة للاهتمام
هناك العديد من الموضوعات والحقائق المثيرة للفضول في هذا الكتاب الشيق. نستعرض منها البعض:
- إذا كنت فقيراً وتعيش في مدينة غنية. فهذا الأمر يجعلك تعيش خمس سنوات أطول من كونك فقيراً في مدينة فقيرة.
- لو سكنت في حي من الأحياء يشتهر سكانه بممارسة بعض الخدع للتهرب الضريبي، فمن المحتمل جداً أن تبدأ في فعل نفس الأمر.
- ترتبط الزيادة في استهلاك المواد الإباحية بانخفاض العنف المنزلي.
- تتوقف احتمالية حصولك على الشهرة على المدينة التي نشأت فيها.
- كلما زاد عدد أطفال المهاجرين في منطقة معينة، زادت ولادة أطفال غير المهاجرين الساكنين هناك.
- من أعظم أسباب النجاح الشخصي هو الهبوط في المدينة المناسبة.
كما يحاول ستيفنز الإجابة على العديد من الأسئلة الأخرى مثل، لماذا فاز ترامب في الانتخابات؟ وما هي الدوافع خلف جرائم العنصرية والكراهية؟ كم عدد الرجال المثليين؟ هل وسائل الإعلام متحيزة؟ وهل الزلات الفرويدية حقيقية؟
اقرأ أيضًا: أفضل كتب علم النفس لتبسيط العالم من حولك |
هل محركات البحث مصدر موثوق للمعلومات
بادىء ذي بدء يشير الكاتب في كتاب الكل يكذب أن البيانات المستمدة من محركات البحث لا يمكن الاعتماد عليها كمصدر للمعلومات تستخدم في الأبحاث الأكاديمية الرصينة. حيث كان الهدف الأساسي من اختراع محرك البحث أن يتمكن الناس من خلاله التعرف على العالم، وليس من أجل استخدام الباحثون له للتعرف على الناس وبواطن النفس البشرية. لكن في الأخير اتضح أن الآثار التي يخلفها الناس وراءهم على الإنترنت تكشف الكثير عن أسرارها وخباياها.
ربما لا يمكن اعتبار هذه البيانات التي نحصل عليها عن الناس من خلال محركات البحث معلومات موثوقة بدرجة كبيرة إلا أنها تعد معلومات مع ذلك. بينما إذا نظرنا إلى الزمان والمكان اللذين بحث فيها عن بعض الأشياء يمكننا الكشف عن حقيقة ما يفكر فيه الناس. وما هي رغباتهم ومخاوفهم، وما يقومون به مما لا يخطر على البال. وهذا في حقيقة الأمر واقع حقيقي فلا يستعمل الناس محركات البحث من أجل الاستفسارات أو الأسئلة بقدر ما يأتمنونها على أسرارهم. حيث نجد أن هناك البعض يكتب في خانة محرك البحث أشياء مثل “أنا أكره زوجتي”. “أنا أعاني من الاكتئاب”. “كيف أتخلص من الحمل”. “العلامات التي تدل على أن زوجي يخونني”. وغيرها من الأمور التي لا يبوح بها الناس لبعضهم البعض.
نظرة جديدة على الجنس البشري
تضمن لنا هذه البيانات التي لا يفشيها الناس حتى لأقرب الأقرباء معلومات ضخمة إذا أمكن جمعها يمكننا أن نضيف إليها بعضاً من علوم البيانات لنحصل من خلالها على نظرة جديدة للجنس البشري، وبخاصة سلوكياتهم ورغباتهم وطبائعهم.
هذا العمل البسيط الذي نقوم به بشكل يومي، والمتمثل في كتابة كلمة أو عبارة صغيرة في خانة مستطيلة بيضاء يمكن أن يرشدنا إلى الحقيقة. وعندما يتضاعف عدد الباحثين عن أمر معين يمكننا أن نستكشف الحقائق العميقة عن البشر. هذه المعلومات التي نحصل عليها بمثابة كنزاً ضخماً. فهل تتخيل عزيزي القارىء أن جميع المعلومات التي تُنشر على الإنترنت خلال يوم عادي في أوائل القرن الحادي العشرين يقدر بحوالي 2.5 تريليون بايت من المعلومات.
اقرأ أيضًا: الجرائم الإلكترونية: التعريف والأنواع والأمثلة وطرق الحماية منها |
البيانات الضخمة ونظريات فرويد
استطاع ستيفنز دافيدوتس في كتاب الكل يكذب أن يثبت من خلال حركة البحث على الانترنت أن بعض النظريات التي وضعها عالم النفس الأشهر سيغموند فرويد ليست صحيحة بالكامل، ولكن مع الوضع في الاعتبار أن هذه الدراسة تحتاج لمزيد من البحث. على سبيل المثال أشار فرويد إلى أن رؤية بعض الأشياء في الأحلام تشير إلى كبت جنسي من نوع ما، أو رغبة جنسية فإذا رأى أحد في حلمه موزة فهي تشير إلى القضيب مثلاً. وقد أوضح الفيلسوف البريطاني من قبل أنه ليس هناك مجال لدحض نظريات فرويد نظراً لأنه يستحيل التحقق من صحتها. ومع ذلك أثبت علم البيانات الضخمة عكس ذلك.
تحقق المؤلف من المثال السابق وتوصل إلى أن الحلم بأشياء معينة لا يعني التعبير عن رغبة جنسية. ويمكن أن تتعرف عزيزي القارىء على التجارب التي قام بها في كتابه لإثبات ذلك. كذلك افترض فرويد أن زلات اللسان والأخطاء التي نرتكبها عن غير عمد تشير إلى رغبتنا اللاواعية والتي تعتبر في كثير من الأحيان جنسية. هل يعني ذلك أن نظريات فرويد في التحليل النفسي كلها خاطئة؟ ربما لا.
يشير ستيفنز دافيدوتس في كتاب الكل يكذب إلى إنه عندما ألقى نظرة على بيانات أحد المواقع الإباحية اكتشف شيئاً مذهلاً. وقد بدا له أن هذا الشيء فرويدي بالكامل. حيث وجد أن هناك عدد مهول من زوار الموقع يبحثون عن مقاطع فيديو حول سفاح القربى. وإذا ما عرفنا كلمات البحث ستظهر الصورة بشكل أوضح، فلقد استخدم الزوار كلمات مثل ” الأخ والأخت” و “زوجة الأب مع الابن” و “الأم مع الابن” وأغلب عمليات البحث كانت عن هذه الأخيرة. لكن ماذا عن الإناث؟
عقدة أوديب
اكتشف ستيفنز دافيدوتس أن عمليات بحث الإناث لا تختلف كثيراً عن عمليات بحث الذكور إلا أن الأمر يكون معاكساً. هنا نكتشف تطابق مذهل مع نظرية عقدة أوديب الفرويدية الذي افترض وجود رغبة غريزية تنشأ خلال الطفولة وتتعلق بالاشتراك الجنسي مع أحد الوالدين من الجنس الآخر. بينما لو عاش فرويد مدة أطول ليوظف مهاراته التحليلية على هذا الموقع فسيرى أن الاهتمام بأحد الوالدين من الجنس الآخر قد أظهره البالغون بجلاء ولم يُكبت منه سوى القليل.
إذن عمليات البحث على جوجل وغيرها من محركات البحث تمنحنا معلومات جديدة. وأهم ما يميزها هي أنها صادقة. ففي الزمن الماضي اعتاد الناس على الكذب وعدم إفشاء رغباتهم الحقيقية وما يدور في أذهانهم. وما زالوا يمارسون هذا الأمر في عصرنا الحالي إلا أنهم يفتحون قلوبهم وعقولهم ويعرضون رغباتهم الحقيقة للإنترنت ومواقع معينة طالما استطاعوا إخفاء هويتهم.
اقرأ أيضًا: علم النفس المعرفي: مقدمة موجزة جداً |
كتاب الكل يكذب هو بمثابة رحلة خاطفة في أعماق النفس البشرية المعاصرة. وقد استطاع ستيفنز دافيدوتس استخدام البيانات الضخمة في فهم بعض ما يحاول الناس التستر عليه. بينما استنتج مؤلفه العديد من النتائج الآسرة التي يمكن أن تساعد العلم في فهم طبيعة البشر الحقيقة ودراسة العقل البشري. إنه كتاب مذهل ومرعب ولكنه يكشف الأسرار والخبايا.