أدب

كتاب موسى والتوحيد: هل كان موسى كاهناً في بلاط أخناتون؟

كتاب موسى والتوحيد هو آخر كتاب لعالم النفس سيجموند فرويد؛ يحاول فيه التعمق في أصول الديانة اليهودية وفهم قصة خروج اليهود من مصر على يد الزعيم والقائد والنبي موسى. في هذا الكتاب يستنتج فرويد كيف أن موسى كان مصرياً وكيف تمكن من تحويل ديانة التوحيد المصرية التي أنشأها اخناتون إلى الديانة اليهودية المعروفة في العالم اليوم.

قصة خروج اليهود من مصر

من المتعارف عليه أن قصة خروج اليهود من مصر ذكرت في سفر الخروج في العهد القديم – التوراة – وربما تعد واحدة من أهم الأحداث في الديانة اليهودية. فتقول القصة أن فرعون كان يضطهد اليهود ويقتل أبنائهم ويسبي نسائهم على إثر نبوءة تقول إنه سيولد طفل منهم سيأخذ منه حكم مصر. لكن يولد النبي موسى وتلقيه أمه في اليم ومن ثم يتبناه فرعون ويترعرع في كنفه حتى إذا ما كبر وشب يعلم أنه ليس مصرياً بل يهودياً. ومن ثم تدور الأيام فيقتل موسى أحد المصريين ويفر هارباً إلى أرض مديان. وهناك يعمل في رعي الأغنام، ويتزوج من بنت راعي يدعى يثرون ويتحدث معه الله أثناء رعيه الغنم في أحد الأيام.

يطلب منه الله أن يعود إلى مصر من أجل تحرير اليهود والخروج بهم من مصر. وعندما يعود إلى فرعون تحدث قصة الضربات العشر ويتحدى إرادة الفرعون ويحرر بني إسرائيل من العبودية. وبعد شق البحر وغرق آل فرعون يمكث موسى في الصحراء مع بني إسرائيل. ثم يطلب من قومه أن ينتظروا عودته من الجبل لمقابلة الله. لكن عندما يتأخر في العودة يعود ليجد أن هارون قد صنع لبني إسرائيل عجلاً ليعبدوه. فيغضب ويحطم ألواح الشريعة ثم يلقي بالعجل في النار. ومن هنا يأتي دور تيه بني إسرائيل. حيث يعاقبهم الله بالتيه في الصحراء لمدة أربعين عاماً.

هذه هي قصة خروج بني إسرائيل من مصر بإيجاز شديد وفقاً لسفر الخروج. وبعد أن تعرفنا على القصة لنعود مرة أخرى لما يريد فرويد إخبارنا به في كتابه موسى والتوحيد.

اقرأ أيضًا: أفضل الكتب التاريخية المُوصى بها مع نبذة مختصرة لكل كتاب

التاريخ المصري

يقول العديد من المؤرخين أن فترة خروج اليهود من مصر كانت في عهد الفرعون المصري رمسيس الثاني وهو ثالث حكام الأسرة التاسعة عشرة. ولعله الأكثر شهرة بين الملوك في مصر نتيجة فتوحاته العظيمة. بينما سعى بعض الأكاديميون في وضع هذا الحادث في عهد ابنه مرنبتاح. بينما يجادل فرويد بأن هجرة اليهود خارج مصر حدثت في وقت أبكر من ذلك بقليل، وبالتحديد قرب نهاية الأسرة الثامنة عشر. وهي الفترة التي أعقبت نهاية الملك الذي أقام ديانة التوحيد في مصر أخناتون. أي أن موسى عاش في فترة الملك الموحد أخناتون ومن ثم خرج باليهود في الفترة التي أعقبت حكم هذا الفرعون.

ربما يكون أخناتون هو أكثر فراعنة مصر إثارة للاهتمام في التاريخ المصري. فهو الرجل الذي أطاح بالنظام الاجتماعي والديني لمصر بإعلانه أن هناك إلهاً واحداً فقط هو آتون، وتمثله الشمس، لكنه كلي الوجود وقادر على كل شيء. لقد استطاع أخناتون بفعلته هذه أن يطيح بالدين القديم سلطة كهنة آمون الذين اكتسبوا على مدى القرون الماضية قدراً كبيراً من القوة لدرجة أنهم كانوا قادرين على منافسة سلطة فرعون.

ولكي يكتمل ما بدأه أخناتون نقل العاصمة من طيبة (الأقصر) وأسس مدينة جديدة أطلق عليها أخيتاتون (تل العمارنة). وهناك أقام معبد لآتون ونهى عن عبادة أي آلهة أخرى. لقد كان آتون ثورياً من حيث أنه لم يكن مجرد إله مصري، بل تصوره أخناتون باعتباره إلهاً عالمياً بارك نوره كل الخليقة. ومن هنا أصبح أخناتون مهووساً بإلهه الجديد لدرجة أن إمبراطوريته بدأت في الانهيار.

بعد وفاته خلفه ابنه توت عنخ آتون. انتهز كهنوت آمون فرصتهم لاستعادة السلطة وأجبر الملك الجديد على إعادة تأسيس الدين القديم. وعندها تم تغيير اسمه إلى توت عنخ آمون (استبدال آتون بآمون). كان عهد الملك الصبي قصيراً، وفي الصراع على السلطة بعد وفاته أصبح الجنرال حورمحب فرعوناً، وهو آخر ملوك الأسرة الثامنة عشر. وكانت مهمته الأولى هي تدمير أي دليل على الملك الزنديق وديانته التوحيدية. وقد نجح في مهمته تماماً. حيث تم نسيان كل ذكرى لأخناتون حتى اكتشاف عاصمته في أواخر القرن التاسع عشر.

اقرأ أيضًا: تحليل رواية عزازيل: الشيطان يلعب بالجميع!

ملخص كتاب موسى والتوحيد

يبدأ فرويد فرضيته بالزعم أن موسى كان مصرياً وليس عبرانياً. ففي البداية يشير إلى الاسم نفسه موسى، أو موشي بالعبرية. يقول سفر الخروج أن أصل هذا الاسم يعني ” انتشل من الماء” في حين أن الاسم المصري موسى يعني “ابن” كما نرى في العديد من الأسماء المصرية على غرار رعمسيس (وهو اسم من مقطعين رع وموس) ويعني ابن رع أو تحتمس (أي ابن تحوت). ومن هنا فإن اسم موسى هو اسم مصري ولكنه غير كامل حيث إنه عبارة عن مقطع واحد دون الإشارة إلى الجزء الأمامي من الاسم. لذلك يدعي فرويد أنه من المحتمل أن يكون موسى مجرد نهاية لاسم الرجل الحقيقي وأن الجزء الأول من الاسم قد تم حذفه أو نسيانه في وقت لاحق.

الختان

ينتقل سيجموند فرويد بعد ذلك إلى موضوع الختان. فهو في اليهودية رمز عهد الله مع النبي إبراهيم. ونحن نعلم من الأدلة الأثرية أن الختان كان تقليداً يمارسه قدماء المصريين. لذلك قد يبدو غريباً أن يتبنى العبرانيون – كرمز لخصوصيتهم – ممارسة مشتركة مع أقوى أمة على وجه الأرض في ذلك الوقت. لكن بدلا من ذلك، كما يفترض فرويد، كان التقليد الذي بدأ كتذكير بالأصول المصرية لأتباع موسى.

يدعي فرويد أن الوقت الأكثر ملاءمة لحدوث الخروج سيكون في الوقت الذي يلي وفاة أخناتون مباشرة. في الوقت الذي تعرض فيه أتباع آتون للاضطهاد من قبل كهنة الدين القديم. لذلك يستنتج فرويد أن موسى ربما كان كاهناً لآتون الذي جمع أتباعه للفرار إلى المنفى. يمضي فرويد في التنظير بأن موسى كان رجلاً عنيداً وقوياً للغاية (كما يتضح من أفعاله في سفر الخروج). ويشير إلى العديد من التمردات التي واجهها في سفر الخروج. ويستنتج أن موسى قُتل في إحدى هذه الثورات على يد أتباعه.

تيه بني إسرائيل

بعد الخروج يتجول أتباع موسى ويستقرون مع قبيلة مديان (على البحر الأحمر) الذين يعبدون إلهاً للبراكين يُدعى يهوه. وعلى مدى عدة أجيال (40 عاماً في البرية) اندمجت عبادة يهوه وآتون معاً (إله غاضب وإله لطيف يستخدمه فرويد لشرح مزاج الإله اليهودي بدقة إلى حد ما). بينما يفترض فرويد أن ذنبهم لمقتل موسى هو الذي دفع أتباعه إلى إدراجه كنبي عظيم لسفر الخروج. وقد أصر أتباع موسى المصريين على عدم نسيان ماضيهم المصري. ومن ثم استمروا في ممارسة الختان وخلقوا أسطورة الخروج التي يتم الاحتفال بها كل عام في عيد الفصح. ومن هنا يقترح فرويد أن أتباع موسى المصريين الذين أتوا من المجتمع الأكثر ثقافة في مصر أصبحوا هم قبيلة لاوي الكهنوتية. مما خلق خطاً من الاستمرارية من كهنوت آتون إلى العصر الحديث.

اقرأ أيضًا: أفضل كتب علم النفس لتبسيط العالم من حولك

قراءة في كتاب موسى والتوحيد

موسى والتوحيد هو أكثر من مجرد تكهنات حول أصول اليهودية. لكن على الرغم من أن هذه المساهمات هي جزء من عملية تاريخية متغيرة تتطور باستمرار إلا أنها ربما تحتوي على جزء ضئيل من الحقيقة. وبهذا الطموح والرغبة في استكمال هذه الأفكار التي استنتجها فرويد يمكن الوصول إلى الحقيقة التاريخية التي لا جدال فيها. لقد كان فرويد يؤمن إيماناً راسخاً بنظريته في التحليل النفسي. لذا حاول تطبيقها على التجربة التاريخية. بينما وجد القوة لتأليف أطروحته وسط الشيخوخة الضعيفة والخطر الخارجي الجسيم الذي كان العصر النازي – آملاً أنه حتى لو لم يجد مكاناً آمناً لنشره، سيجده شخص ما في وقت لاحق في التاريخ ويؤكد على أنه “كان يعيش في الأيام المظلمة رجل يفكر مثلما أفكر”.

عصاب البشرية

من هذه الأيام “الأقل ظلامية”. إذن، يمكن مراجعة هذه الأطروحة مرة أخرى – على الرغم من حقيقة أن فرويد وجد مكاناً آمناً لنشر عمله. إنه عمل يعتمد أساساً على عمله السريري السابق مع الأفراد. حيث يأخذ فرويد نظرياته حول كيفية تطور الهواجس العصبية لدى الأفراد ويطبقها كتفسير لما يسميه “عصاب البشرية“- الدين. والدين الذي يستخدمه لإلقاء الضوء على نظريته عن نفسية الجماهير هو اليهودية رغم أنه يعتقد أنه يمكن تطبيقها على جميع الظواهر الدينية.

من خلال الجمع بين النظريات العلمية الحديثة لعلم الأحياء التطوري مع نظريات علم اجتماع الإنسان البدائي، يؤكد فرويد في كتابه أن ذاكرة التجارب التاريخية – مثل تلك التي حدثت في الطفولة المبكرة – تنتقل عبر الأجيال البشرية نسبياً. هذه التجارب، مثل الانطباعات الفردية، هي عدوانية جنسية بطبيعتها وتمر بمراحل مماثلة من الانطباع والقمع والتعبير المشوه. كما يؤكد فرويد أن التجربة التاريخية تتعقب مسار التجربة الفردية بمثل هذا الإخلاص. ومن الممكن بالمثل التحليل النفسي للتاريخ وكشف تلك الانطباعات “المكبوتة” تماماً كما يمكن فعلها مع الفرد. على المرء فقط أن يقرأ ما بين سطور التاريخ المعبر عنه.

التاريخ الذي يتتبعه فرويد، إذن، هو تاريخ تطور اليهودية. والخطوط التي يقرأ بينها هي تلك الموجودة في الكتاب المقدس وتلك الموجودة في النقوش المصرية القديمة. ووفقاً للدراسات التي قرأها، يذكر فرويد أن أخناتون من الأسرة الثامنة عشرة في مصر كان أول من روج لمعتقد ديني قائم على التوحيد؛ إلى جانب عدم وجود آلهة أخرى. وقد استبعدت الديانة الجديدة لأخناتون أيضاً الأساطير والسحر والهوس بعالم الموتى.

الديانة اليهودية في كتاب موسى والتوحيد

أما موسى، فهو أمير مصري أو كاهن في بلاط أخناتون في ذلك الوقت. وقد أخذ هذا الدين (الذي تم تدميره في مصر بعد وفاة أخناتون). وأخذ مجموعة من العبرانيين كانوا يعيشون في ذلك الوقت في مصر، واتخذوا ممارسة الختان التي افترض فرويد أنها نشأت أيضاً في مصر، وهاجروا منها إلى صحراء سيناء. وبمجرد وصوله إلى الصحراء طور موسى نسخة أكثر صرامة من العبادة التوحيدية برفضه السماح بصنع أي صور للإله الواحد. غضب الناس، وقتلوا موسى – والدهم – زعيم الختان، ودمجوا عرقهم ودينهم مع أناس آخرين في منطقة مديان كانوا يعبدون الإله يهوه. ومع ذلك، ظل ذنب القتل يؤرقهم قرابة سبعمائة عام حتى قام الأنبياء، كما ورد في سفر يوشع بن نون، بإحياء التوحيد مرة أخرى. وأصروا على عبادة وممارسة الأخلاق التي تؤكد الروحانية (أكثر أبوية في الطبيعة) بدلاً من الشهوانية (أكثر أمومية).

أدلة مشكوك فيها

ومع ذلك، يبني فرويد استنتاجاته التاريخية على برج متأرجح من الأدلة المشكوك فيها. أصل اسم موسى، وعكسه المريح لأسطورة العرض، واستقراء التوحيد من أخناتون، وانتقاد مصدر الكتاب المقدس، كل هذا على دراسة واحدة هي دراسة لويس سيلين المعاصرة. وبعض كتب المؤرخين المعاصرين له مثل تاريخ مصر لجيمس هنري بريستد. وقد أشار فرويد في أطروحته إلى أن موسى قُتل بالفعل في الصحراء. وكنتيجة للتستر على قتل الأب الذي يمثله موسى تم تزييف النص التوراتي عن عمد حتى يتوافق مع فترة كمون متأخرة. ومن هنا يستطيع شرح تاريخ عقدة “الذنب” اليهودي. ومن أجل التكفير عن ذلك الذنب عاد اليهود لصناعة بطل قومي ورمزاً تاريخياً أسطورياً لزعيمهم موسى.

استنتاجات مرفوضة

من وجهة النظر الحالية للبحث التاريخي والنصي والنفسي والديني، من السهل رفض استنتاجات فرويد حول عقدة أوديب الجماعية باعتبارها تحقيقاً غير علمي أدى إلى استنتاج في السماء النظرية. ثم البحث عن أدلة قد تصل إلى مستوى عالٍ بما يكفي لدعم ذلك. تتشابه بعض مزاعمه التاريخية إلى حد كبير مع تلك التي استخدمتها مجموعة ضغط مصرية حديثة من أجل تحديد ما إذا كان بإمكانها مقاضاة يهود العالم بسبب نهب الخروج الجماعي أم لا[1]. وكان الرد اليهودي: سنقاضيكم عن أربعمائة عام من العبودية.

من ناحية أخرى، فإن موسى والتوحيد هو مثال ممتاز لقطعة بحث ساهمت في تطوير الدراسة المشتركة لعلم النفس والتجربة الدينية. كان فرويد – على الرغم من أي صراعات داخلية وهواجس قد شوهت موضوعيته – قادراً على الجمع بين نتائج وفرضيات النظريات الحالية في علم الاجتماع وعلم الأحياء التطوري والتحليل النفسي والنقد التاريخي النصي وتطبيقها. ومن خلال هذا النهج وعملية التفكير، والتزامه بالبحث متعدد التخصصات يجب الاستمرار في تخصيص مساهماته في ظل علومنا الحديثة.


هوامش:

[1] Egyptian Lawyer to Sue Jews for Biblical ‘Plunder’

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!