ما بعد الحداثة: المفهوم والنشأة والسمات الرئيسية

You are currently viewing ما بعد الحداثة: المفهوم والنشأة والسمات الرئيسية
مفهوم ما بعد الحداثة

يشير مفهوم ما بعد الحداثة إلى عملية التحول الفكري والثقافي من أفكار الحداثة إلى ما بعدها. وهي مجموعات حركات فنية وفلسفية وتاريخية ظهرت في نهاية القرن العشرين كبحث عن أشكال جديدة للتعبير تركز على الفردانية ونقد العقلانية. وتدمج ما بعد الحداثة كحركة ثقافية وفكرية جماليات تعكس الفوضى الناتجة عن ثورة المعلومات والتكنولوجيا التي نعيش فيها اليوم. أما كتيار فلسفي فتبحث عن طرق جديدة للتفكير بعيداً عن الأفكار القديمة التي عفا عليها الزمن مثل الوضعية والعقلانية. في السطور التالية نتعرف بالتفصيل على مفهوم ما بعد الحداثة وأهم الخصائص التي تتميز بها حركات هذا التيار.

مفهوم ما بعد الحداثة

ينطوي فهم ما بعد الحداثة بالضرورة على توضيح النقطة المرجعية لها: الحداثة. حيث تمثل الحداثة حقبة وطريقة تفكير يمكن إرجاع أصلها إلى مركزية الإنسان في عصر النهضة، هذا على الرغم من أنها لم تأخذ شكلها الكامل حتى القرن الثامن عشر. لقد كانت فكرة مركزية الإنسان وحركة التنوير والثورة الفرنسية، والثورة الصناعية هم لأساس في ظهور الحداثة. واقترحت الحداثة لدى ظهور الانتقال من التقليد إلى التغيير أو التقدم، واشتمل هذا الامر على عدد من الأمور منها:

  • علمنة المجتمع؛ أي فصل الكنيسة عن السلطة السياسية.
  • تعزيز المعرفة المتمثلة في العقل والعلم كأسلحة ضد التعصب وأدوات للتقدم.
  • ترسيخ فكرة الدولة القومية وتقسيم السلطات.
  • تطوير كل الإمكانات الاقتصادية للتصنيع.

ومع هذه الأفكار المثالية التي أتت بها الحداثة إلا أن التطبيق العملي لها في القرون التالية أظهر الكثير من المساوئ على سبيل المثال: الإمبريالية الاستعمارية، والايديولوجيات الشيوعية، والقومية المتفاقمة التي أنتجت حربين عالميتين ونزاعات مسلحة أخرى. كذلك ظهرت تقنيات جديدة للاتصال، وانتصرت ثقافة المستهلك والثقافة الجماهيرية التي أدت إلى تفكيك القيم وأنتجت القلق الناجم عن الملل في مواجهة تسليع كل شيء. وبالتالي ظهرت تيارات ما بعد الحداثة نتيجة لكل ذلك.

اقرأ أيضًا: تأثير الحركة الرومانسية في أوروبا على الفن والأدب والفلسفة

خصائص ما بعد الحداثة

مفهوم ما بعد الحداثة
أهم سمات ما بعد الحداثة

تتميز ما بعد الحداثة بخصائص تعتمد على المجال الذي يتم تطبيقها فيه. على سبيل المثال، في الفن يتم تقديمها على أنها إنقاذ للشكل الذي ترفضه الحداثة؛ وفي الفلسفة يتم تعريفها على أنها العدمية الحديثة، أي أن القيم التي عفا عليها الزمن؛ وفي تكنولوجيا التعليم والابتكار يتم تقديمها على أنها تساهم في خلق إنسان مستقل ومكتفٍ ذاتياً. وعلى من هذه الاختلافات التي قد تبدو متناقضة مع بعضها البعض، فإن ما بعد الحداثة لها خصائص مشتركة وشاملة سوف نتناولها في الجوانب التالية:

التعبير عن أزمة الفكر الميتافيزيقي الحديث

تبدأ أزمة الفكر الميتافيزيقي الحديث من اللحظة التي تكتشف فيها الفلسفة والعلم أنهما ليسا معصومين من الخطأ أو كونيين، بينما يكتشفان عدم قدرتهما على إيجاد “حقيقة” واحدة، مما يؤدي إلى نزع شرعية الفلسفات الكبرى في التاريخ. وتساهم ما بعد الحداثة في جعل هذا الفاصل مرئياً.

ركزت أفكار الحداثة في الفلسفة والعلم على التمسك بالعقل كمعيار أساسي لتاريخ البشرية، وكذلك الاستناد عليه للبحث عن حقيقة واحدة والدفاع عنها. لكن مع تطور تاريخ العالم وضع هذا الادعاء موضع شك وتساؤل. لقد استند العلم والفلسفة في الحداثة على التفكير في معنى الحياة وهدف المعرفة بناءً على مبادئ مطلقة، أي أنهما جعلا “الفكرة” تغلب على الواقع والسياق، مما تسبب في تناقض بيّن.

نزع الشرعية عن المفاهيم الكبرى في العالم

العلم والفلسفة، والعقل والحقيقة، والنظام والتقدم، والدولة والأمة، والتقدم والتنمية، هي بعض المفاهيم الأساسية للحداثة. لقد تم تصورها جميعاً كمبادئ عالمية وحضارية عالمية، تماماً كما فعل الدين من قبل. فإذا أرادت الحداثة دفن الدين في الحقل المقدس للحياة الخاصة، فقد حفرت أيضاً قبرها جانباً بعدم الوفاء بوعودها، لأنه متى يأتي التقدم؟ وماذا يأتي بعده؟ وإذا كان صحيحاً أن المجتمع يستفيد من التقدم من منظور تاريخي، فهل هذا عزاء كافٍ للوجود الفردي؟

هذه الأفكار أعطت معنى للحياة الاجتماعية على أساس مبادئ مجردة مثل التقدم والعقل والمعرفة، مما أدى إلى إخضاع الأفراد لهذا المشروع الاجتماعي، وإنكار الذات والفردية، وقد خلق هذا الأزمة الاجتماعية والثقافية لمجتمعات ما بعد الصناعية التي تعكسها ما بعد الحداثة.

نسبية الحقيقة

تمحورت المعرفة في أفكار الحداثة حول العلم والفلسفة فقط، وجعلت من العقل معياراً مطلقاً للحقيقة، لكن أفكار ما بعد الحداثة أدركت أن هناك طرق مختلفة للمعرفة لا تقتصر على العقل فحسب، وجعلت تقييم العقل نسبياً كما أن الحقيقة مسألة نسبية. تدعى تيارات ما بعد الحداثة أن الحقيقة ليست عالمية وتعتبر اللغة مفتاح الحقيقة، وهي الشيء الوحيد الذي يصوغ الفكر البشري، وبالتالي فإن الحقيقة تعتمد على السياق وهي مشكوك فيها.

رفض الخطية التاريخية

اقترحت الحداثة الانتقال من التقليد إلى التغيير. وقد أطلقت على هذا النموذج اسم “التقدم”، وهو الأفق الذي يجب أن يتطلع إليه كل مجتمع. هذه هي القصة الكبرى للحداثة. حيث يتوافق التقدم مع رؤية خطية وتطورية (تصاعدية) للوقت، والتي سيكون تحقيقها ممكناً بناءً على ثلاثة عناصر رئيسية:

  • مجال العقل (المعرفة).
  • التطور التكنولوجي والصناعي.
  • توطيد الدولة القومية الحديثة (الجمهوريات).

لكن ما بعد الحداثة تشير إلى أن التاريخ لا يسير بشكل خطي نحو هدف محدد بل يشتمل على قفزات غير متوقعة ودورات متكررة. فهو معقد ويفتقر إلى الهدف.

رفض تسليع كل شيء

يؤكد بعض المدافعين عن الفكر ما بعد الحداثي أن هذا الخط من الفكر ينعكس على الحقائق الملموسة، وعواقبها ومسؤوليات الفاعلين الاجتماعيين، مما يعني بالنسبة لهم بناء الأخلاق. وإلى جانب تأكيد هذه الفكرة أو إنكارها، من الواضح أن فلسفة ما بعد الحداثة تفترض وقتها التاريخي. ونعني بهذا أنها تحاول الاستجابة لسياقها وتحاول فهم الشعور بالضيق الذي تعاني منه مجتمعات ما بعد الصناعة.

المجتمعات ما بعد الصناعية هي تلك التي تتمتع بالثروة والاستقرار الناتج عن التصنيع. أي أنها المجتمعات التي تعيش ما يعرف بدولة الرفاهية. بينما تُظهر ما بعد الحداثة أن الرأسمالية، جنباً إلى جنب مع التقنيات، قد عززت إضفاء الطابع الفردي على كل شيء، ومن ناحية أخرى، عدلت تقييم المعرفة التي لم يعد هدفها إثبات الروح، بل جعلها سلعة. إذا كان كل شيء قابلاً للتسليع، إذا تم تحويل كل شيء إلى استهلاك، فسيضيع التعالي البشري، لأنه قد جُرد من معناه.

تعزيز التمايز الذاتي والتنوع

بناءً على فكرة نسبية العقل والحقيقة المطلقة، فإن ما بعد الحداثة تدرك أن هناك تمايزاً وتنوعاً ذاتياً. إن تفتيت الأفراد، وانتصار مجتمع الرفاهية وعواقبه، وسقوط الأفكار الكبرى، وفقدان التوجه التاريخي، كلها عوامل تفضي إلى تمايز الذاتيات. وفي هذا السيناريو، لم يعد أعضاء المجتمع يسعون لأن يصبحوا متجانسين مع المجموعة الأكبر، بل يسعون إلى تمييز أنفسهم، والتنويع، وفي كثير من الحالات، المقاومة، بشكل سلبي أو نشط.

اقرأ أيضًا: من هم الهنود الأوروبيون؟ وكيف أثروا على أمم أوروبا؟

فن ما بعد الحداثة

يعتبر فن ما بعد الحداثة حركة فنية بدأت في نهاية القرن العشرين، في مواجهة الحداثة أو الفن الحديث. وقد استخدم التقنيات التي تم تطويرها في تاريخ الفن، وقدمتها بصورة جمالية أخرى تيارات ما بعد الحداثة. بينما يُعرف هذا الفن بأنه الحركة التي تضع حداً للفن الطليعي. وبسبب ثورة المعلومات وصعود التكنولوجيا، يعكس تعقيد وفوضى مجتمع اليوم، باستخدام أشياء وصور من الثقافة الشعبية والتدخل في الأعمال الكلاسيكية. ويعتبر فن ما بعد الحداثة جزءً من الفن المعاصر، ومن أبرز تياراته:

  • فن البوب.
  • الفن التجريدي.
  • الحدنوية أو التبسيطية.
  • الفن التصوري.
  • التعبيرية التجريدية.

أدب ما بعد الحداثة

تميز أدب ما بعد الحداثة بأسلوب موجه نحو المونولوج العاطفي والتجريبي والشاعري، وقد تأثر أدباء هذا التيار بالأزمات التي أحدثتها الحربان العالميتان والأزمات الوجودية التي طغت على نفوس البشر في ذلك الوقت، وهو ما بدا جلياً في أعمالهم سواء في فنون الرواية أو القصة أو المسرح أو الشعر. ولعل من أهم ممثلي الأدب ما يلي:

  • ديفيد هربرت لورانس.
  • فرانز كافكا.
  • جيمس جويس.
  • وليام فولكنر.
  • إرنست همنغواي.
  • شارلوت برونتي.
اقرأ أيضًا: تأثير عصر الباروك في الأدب والفن والفلسفة

فلسفة ما بعد الحداثة

تُعرَّف فلسفة ما بعد الحداثة على أنها فلسفة التفكيك الذي يؤدي إلى الفوضى. وتعتبر أفكار الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه مقدمة لهذه الفلسفة عندما أعلن موت الله، وبالتالي، عدم وجود للعقائد أو القيم. وبهذا المعنى، تعتبر فلسفة ما بعد الحداثة عدمية حديثة لا تؤمن بحاجة الفرد إلى القيم.  ومن بين المؤلفين الذين يمثلون هذه الفلسفة:

  • جان فرانسوا ليوتار.
  • ميشيل فوكو.
  • جان بودريار.
  • كورنيليوس كاستورياديس.
  • جياني فاتيمو.
  • جيل ليبوفتسكي.

ما بعد الحداثة والتعليم

تحاول ما بعد الحداثة إحداث تغيير ملموس في أنظمة التعليم، حيث تساهم في التطور الشخصي والتعليمي والثقافي للفرد من خلال تعلم كل ما له معنى وظيفي وفوري فقط. ويعتمد تعليمها على نظام المعلومات التي يغرق فيه المجتمع، ويصبح استخدام التكنولوجيا أداة أساسية للابتكار، مما يوفر صلاحية وظيفية وفورية للمعرفة. ويتميز هذا النوع من التعليم بما يلي:

  • التفاعلية.
  • التطور في أي بيئة أو مؤسسة.
  • معالجة المعلومات القابلة للتحويل بين الوسائط المختلفة لتشكيل أنظمة أكثر تعقيداً.
  • البحث عن مصادر متعددة للمعلومات.
  • إضفاء الطابع الديمقراطي على المعلومات.
اقرأ أيضًا: تحليل كتاب الكل يكذب: الكشف عن الأسرار المظلمة للبشر

خلاصة القول، ما بعد الحداثة هي الفردية والمجتمع الاستهلاكي وفقدان الوعي التاريخي والشكليات والفولكلور وصنم البضائع وتفكك النظام المعرفي ونهاية الإيمان بالتقدم وإضفاء الشرعية على تناقضات الحاضر في السعي وراء مستقبل سيكون بالضرورة أفضل. كما أنها الآفاق الجديدة للتحرر: من الحركة النسوية في الموجتين الثانية والثالثة إلى مناهضة الأنواع.

اترك تعليقاً