تاريخ

نيلسون مانديلا: أسطورة غيرت واقع حقبة مظلمة

يحفل التاريخ الإنساني برجال عظام ساهموا في جعل العالم مكاناً أكثر رحابة للعيش. نيلسون مانديلا أحد هؤلاء الرجال الشجعان الذين غيروا واقع حقبة مظلمة وتجاوزت رسالتهم وأفكارهم ومبادئهم الزمن. مر الناشط السياسي الجنوب إفريقي بمواقف وأحداث أكثر تعقيداً، دون أن يفقد بوصلة نضاله الاجتماعي والسياسي والإنساني. لقد نقش اسمه على أكثر الصفحات قيمة في تاريخ البشرية بعد أن انتصر في معركته ضد الفصل العنصري.

خلفية تاريخية

ولد نيلسون مانديلا، مثل غيره من الأفارقة السود من جيله. وترعرع في بلد يتسم بالعنصرية المؤسسية. ففي عام 1948 تولى الحزب الوطني السلطة في جنوب إفريقيا. ومنذ تلك اللحظة بدأ إنشاء نظام الفصل العنصري، وهو النظام الذي زاد من عدم المساواة والظلم في البلاد. لكن في الحقيقة لم يظهر الفصل العنصر مع تولي هذا الحزب السلطة، فلقد كانت العنصرية جزءاً لا يتجزأ من مؤسسات البلاد منذ عام 1911، وكان يحظر صراحة على السود شغل أي وظيفة تتطلب مهارة، ومع وصول الحزب الوطني الذي يضم بداخله هؤلاء البيض المستعمرين تفاقم الظلم وانعدمت المساواة.

كان الفصل العنصري نظاماً صارماً من التمييز الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي والإقليمي، وأضر بشكل كبير بالغالبية السوداء التي تعيش في جنوب إفريقيا. يـتألف هذا النظام من إنشاء أماكن منفصلة – سواء للسكن أو الدراسة أو العمل أو الترفيه – للمجموعات العرقية المختلفة، بالإضافة إلى منع السود من ممارسة حق التصويت، وحظر الزيجات أو العلاقات الرومانسية بين البيض والسود.

الفصل العنصري

شجعت هذه السياسيات القاسية التي انتهجها الحزب الوطني على مزيد من الازدراء والعنف والكراهية العنصرية. يشرح نيلسون مانديلا في أحد أجزاء كتاب سيرته الذاتية المعنون باسم “مسيرة طويلة نحو الحرية” كيف كانت معاناته لكونه ينتمي إلى عرق معين قائلاً:

“كونك أسوداً في جنوب إفريقيا يعني أن تكون مسيساً منذ لحظة الولادة. يولد طفل أفريقي في مستشفى للسود فقط، ويعود إلى المنزل في حافلة سوداء فقط، ويعيش في أحياء سوداء فقط، ويذهب إلى مدرسة للسود فقط، على افتراض أنه يذهب إلى المدرسة. هذا الطفل، عندما يكبر، يمكنه فقط أن يطمح إلى وظائف سوداء، واستئجار منزل في بلدة للسود فقط، وركوب القطارات السوداء فقط، وإيقافه في أي وقت من النهار أو الليل لإظهار تصريحه، وإذا لم يكن معه، سيُقبض عليه ويُوضع خلف القضبان. تحدد حياته قوانين وأنظمة عنصرية تعيق تطوره وتقوض إمكانياته وتستهلك حياته”.

لا يمكننا تصنيف رجل مثل نيلسون مانديلا، فلقد كان محامياً، وناشطاً سياسياً، وسجيناً، ورئيس دولة.. كان بإمكان شخص مثله أن يستغل الوضع ويسعى إلى تحقيق استقراره الذاتي – السياسي والاجتماعي والاقتصادي – داخل مجتمع ظالم، لكنه بدلاً من ذلك شعر بالمسؤولية عن تغيير الوضع في بلاده. لقد كلفه هذا الاختيار راحته واستقراره، وعانى من العنف والاضطهاد وواجه العديد من المصاعب في طريقه الذي اختاره. لكن في النهاية شكلت هذه الظروف بطل لجنوب إفريقيا وللقارة الأفريقية بشكل عام، بل وللعالم بأسره. لقد أعطى نيلسون مانديلا للبشرية أعظم الدروس عما يستطيع الإنسان فعله متسلحاً بالقيم العالمية، ووضعها في خدمة الآخرين.


ولادة نيلسون مانديلا

إنجازات نيلسون مانديلا
النشأة

ولد نيلسون مانديلا في 18 يوليو 1918 في قرية صغيرة بمقاطعة أوماتاتا بجنوب إفريقيا. وكان ينتمي إلى قبيلة تيمبو التي تعتبر جزءاً من عشيرة أكبر تدعى كوسيون، وهي مجموعة كبيرة من القبائل المنتشرة في جميع أنحاء جنوب إفريقيا، وتشترك في لغة مشتركة وتقاليد الأجداد المتوارثة شفهياً من جيل إلى جيل.

كان والد مانديلا (جادلا هنري مفاكانيسوا) زعيماً قبلياً، يعمل مستشاراً تحت سلطة ملك تيمبو، ولذلك كان نيلسون، من جانب والده، جزءاً من سلالة ملكية. وعلى الرغم من هيمنة الاستعمار البريطاني على البلاد، إلا أن سلطة هذه القبائل لا تزال ذات أهمية كبرى على الرغم من خضوعها للسيطرة الكاملة للأجانب. كان لدى مفاكانيسوا أربع زوجات وثلاثة عشر طفلاً. وكانت والدة مانديلا هي الزوجة الثالثة واسمها نوسيكا فاني. ومن المقرر حسب التقاليد القبلية، أن يصبح نيلسون خليفة أبيه.

كان لوالده تأثيراً كبيراً في تشكيل شخصية مانديلا منذ ولادته. فهو شخصية قوية وصارمة غرس في الطفل قيم الانضباط والتمرد. حدثت إحدى أعمال التمرد هذه من والده، ولم يبلغ طفله بضعة أشهر فقط. حيث كان من المفترض أن يذهب والده إلى قاضي التحقيق البريطاني لحل مسألة قانونية، لكنه رفض الذهاب. واعتبر هذا العمل عدم اعتراف بالسلطات البريطانية فوق منصبه كرئيس قبلي. ونتيجة لذلك، حُرم من منصبه وخسر كل ثروته.

اقرأ أيضًا: تاريخ البشرية في ثلاث أفكار رئيسية

طفولة نيلسون مانديلا

اضطرت والدة مانديلا بعد هذا الحادث إلى طلب المساعدة لتربية أطفالها والعودة إلى قرية عائلتها في كونو. حيث عاش الصبي طفولة بسيطة وخالية من الهموم. حيث ساهم أطفال القرية في أعمال زراعة الحبوب ورعاية القطعان، وفي فترة بعد الظهر يمكنهم اللعب لساعات معاً. وعلى الرغم من الحرمان الاقتصادي الذي واجهته العائلة، إلا أن مانديلا يتذكر هذه الفترة من حياته ويعتبرها واحدة من أسعد اللحظات وأكثرها إشباعاً بالنسبة له.

افتقرا والدا نيلسون إلى تعليم رسمي، وعلى الرغم من ذلك قررا تعليم ابنهما في مدرسة. حيث قاما بتسجيله في مدرسة مسيحية تديرها كنيسة غربية. أطلق والد مانديلا على ابنه لحظة ولادته اسم “روليهلاهلا” ويعني “الشخص المشاكس”. ولكن في اليوم الأول من التحاقه بالمدرسة وهو في سن السابعة، اختار المعلم أسماء للطلاب باللغة الإنجليزية، واختار له اسم “نيلسون”، ربما تكريماً لقبطان البحر اللورد نيلسون.

بعد وفاة والده بوقت قصير، وبناءً على رغبته، واصل تعليمه في تيمبو. وهناك تركته والدته تحت وصاية زعيم تيمبو. وعاش مع العائلة التي تتكون من الأم والأب وطفليهما جستيس الذي يكبر نيلسون بأربع سنوات، والابنة نومافو. وسرعان ما أصبح جستيس أخاً له. وكان على نيلسون أن يتدرب ليكون المستشار الملكي عندما جاء دوره لخلافة والده.


مرحلة الشباب

أعظم الشخصيات التاريخية
مرحلة الشباب

واصل الشاب دراسته في المدرسة البريطانية وتعلم أيضاً من الزعماء الأفارقة خلال اللقاءات القبلية. ومن أكثر الأشياء التي ميزت شخصيته في ذلك الوقت هو طريقه في التعامل. حيث كان يجلس بهدوء ويستمع فقط إلى كل من لديه تعليق أو اقتراح لتقديمه. وبعد مناقشة جميع القضايا يحاول الوصول إلى حل مشترك. يقول نيلسون مانديلاً: “القائد مثل الراعي. يبقى خلف القطيع ويسمح لمن هم أكثر رشاقة بالمضي قدماً ويتبعهم الآخرون، دون أن يدركوا أنهم يقادون من الخلف طوال الوقت”.

أتاح له تعليمه الغربي المسيحي وتدريبه القبلي على القيادة أن يتشرب كلتا الثقافتين. وكان في الوقت ذاته مفتوناً بتاريخ وثقافة أسلافه الأفارقة. لقد عرف كل الأبطال الأفارقة عن ظهر قلب، وأثارت المظالم التي ارتكبت خلال فترة الاستعمار رد فعل عاطفي بداخله. وفي هذا الوقت، بدأت تتشكل البذرة التي ستؤتي ثمارها لاحقاً في أيديولوجية وقناعة قوية لمجابهة هذه المظالم.

التحق نيلسون مانديلا في سن الثامنة عشرة بكلية تعليمية مختلطة في هيلدتاون، وقد فتحت له آفاق جديدة من الفرص التعليمية. وبدأ في تكوين صداقات وممارسة رياضات مختلفة، اثنتان منها لا تزال هوايته العظيمة حتى اليوم: ألعاب القوى والملاكمة.

اقرأ أيضًا: أبرز الأحداث التاريخية في القرن العشرين

الصحوة

كان نيلسون مانديلا تلميذاً لامعاً، مجتهداً وممتناً للحياة على الفرص التي أتيحت له، لكن في غضون أسابيع قليلة تغير مصير الشاب بشكل جذري. ففي الجامعة، تم تعيينه ممثلاً لمجلس الطلاب، وبسبب سلسلة من الحوادث التي حدثت عندما طالبوا بالإصلاحات، تم طرده. ومن هنا عاد نيلسون إلى منزله مع عائلة ملك تيمبو. لكن عند العودة تفاجأ الشاب بأن زعيم تيمبو اتفق على خطوبة فتاتين، واحدة لمانديلا والأخرى لأخيه جستيس. كانت هذه أخباراً مروعة بالنسبة لهما، ولم يتمكنا من التعبير عن عدم موافقتهم، لأن ذلك لم يُسمح به، لذا قررا الفرار من هذه الزيجات إلى جوهانسبرج. وفجأة، ينتقل نيلسون مانديلا من كونه جزءاً من النخبة الأفريقية – التي تحظى بالتعليم والرخاء والهيبة – إلى الفرار لواحدة من أصعب المدن وأكثرها عنفاً في البلاد.

مرة أخرى، لا يبدو أن خطط نيلسون تتوافق كثيراً مع ما تخبئه الحياة له. كانت نيته إنهاء دراسته والاندماج مع نخبة السود المتعلمين والغربيين في جنوب إفريقيا. لكن لقاءات معينة مع أشخاص وأحداث أيقظت مانديلا الشاب على الواقع الأليم. وهنا بدأ نضاله السياسي ضد قمع الفصل العنصري.

لم تكن الخطوات الأولى في الحياة السياسية سهلة. فلقد كان هارباً تم الإبلاغ عنه، وأغلقت العديد من الأبواب في وجهه، ولكن في نفس الوقت ظهرت له فرص جديدة. كانت إحدى هذه الفرص هي مقابلة والتر سيسولو الذي كان أحد قادة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، وهو ناشط في حماية حقوق الأفارقة. تعلم منه العديد من الأشياء التي تعارضت مع نشأته الغربية، وأخبره أنه كي يكون قائداً عليه أن يذهب إلى الجامعة، لكنه لاحظ أن العديد من القادة العظماء الذين عرفهم لم يذهبوا إلى جامعة قط. كانت فترة تغييرات عميقة ليس فقط من الخارج بل من الداخل أيضاً. حصل مانديلا على وظيفة صغيرة كعامل في مكتب، وبهذا تمكن من دفع تكاليف دراسته في الجامعة للحصول على شهادته. وانضم إلى حزب المؤتمر الوطني الأفريقي المعارض لسياسات الفصل العنصري.


النضال ضد الفصل العنصري

سياسية الفصل العنصري
الاحتجاجات ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا

التقى نيلسون مانديلا خلال وجوده في جوهانسبرغ باليهود والهنود والأعراق المختلطة والبيض والسود الذين فهموا بعضهم البعض تماماً دون أن يكون للون البشرة أو الثقافة أهمية بينهم. صنع صداقات تدوم مدى الحياة، وتشكلت أيديولوجيته من خلال قراءته واجتماعه مع العديد من النشطاء في الحزب وخارجه. وسرعان ما أصبح من المؤيدين الأقوياء للحزب خلال حملته السياسية اللاحقة، عندما سئل نيلسون مانديلا عن بداية نضاله ضد سياسة الفصل العنصري قال:

“لا أتذكر بالضبط (…) عندما علمت أنني سأكرس حياتي للنضال من أجل التحرير لم يكن لدي أي لحظات استنارة، لا شيء، بل تراكم مستمر لآلاف الاحتقارات، آلاف الإهانات، آلاف اللحظات التي أوجدت في داخلي شعوراً بالغضب والتمرد والرغبة في محاربة النظام الذي كان يضطهد شعبي”.

قرأ نيلسون مانديلا خبر في صحيفة يقول إن زعيم تيمبو مريض جداً، لذا قرر العودة مع جستيس لزيارته قبل وفاته. وفي هذا الوقت أصبح المستشار المستقبلي للزعيم الجديد، وكان يشعر بالذنب لتخليه عن الزعيم، لكنه سرعان ما ارتاح قلبه عندما عاد إلى منزله من جديد. يقول نيلسون مانديلا:

“لا يوجد شيء مثل العودة إلى مكان لم يتغير فيه شيء، لترى كيف تغيرت أنت بنفسك.. لقد أدركت أن طريقة تفكيري ورؤيتي للعالم قد تطورت.. فكرت في الماضي، عندما كنت صبياً صغيراً ساذجاً ومحافظاً، لم أكن قد رأيت سوى القليل جداً من العالم”.

اقرأ أيضًا: بنجامين فرانكلين: سيرة حياة الرجل الذي فعل كل شيء

زواج نيلسون مانديلا

التقى مانديلا خلال أحد اجتماعات الحزب في جوهانسبرج بإيلفين نتوكو ماس، وهي ناشطة بالحزب، وتزوجها في عام 1944 وأنجب منها خمسة أطفال، نجا ثلاثة منهم فقط. لم يكن لديه سوى القليل من الوقت للاستمتاع بالحياة الأسرية. حيث أن التزاماته بالعمل والدراسة والسياسة استنفدت كل طاقاته عملياً. وكان يعاني وزوجته من صعوبات مالية، ويعيشان في أحد أكثر الأحياء تواضعاً في جوهانسبرج، وأصبحت الأمور أكثر تعقيداً عندما قرر حزب المؤتمر الوطني الأفريقي تشديد حملته ضد حكومة جنوب إفريقيا.

مع انتخابات عام 1948، التي كان يحق فيها التصويت للبيض فقط، ساء الوضع. حيث فاز الحزب القومي ذي النزعة العنصرية في الانتخابات، وبعد فترة وجيزة بدأ في سن قوانين تزيد من تقليص حقوق الأفارقة السود، وتم إلغاء الزواج المختلط وتم تصنيف جميع مواطني جنوب إفريقيا حسب العرق واللون. وكان نيلسون مانديلا وزملاؤه في حزبه مذعورين من كل ما يحدث حولهم.


الطريق الصعب إلى الحرية

موجز حياة نيلسون مانديلا
مسيرة طويلة نحو الحرية

نظم الحزب ثورات شعبية مختلفة. ومن أشهر هذه الحملات حملة نيلسون مانديلا للعصيان الجماعي متعدد الأعراق الذي شارك فيها الآلاف من الناس من جميع الطبقات الاجتماعية والأعراق والأطباء والمحامين والكهنة والطلاب وخاطروا بمناصبهم وراحتهم. يبدو أنها كانت ناجحة. لكن الحملات اللاحقة قمعت بقسوة من قبل الحكومة، وكان هناك عدد كبير من القتلى والمصابين. بينما امتدت الاحتجاجات إلى بورت إليزابيث وكيمبرلي. كان حزب المؤتمر الوطني الأفريقي يدعو إلى التظاهرات السلمية، لكن مع ظهور أعمال الشغب لم يعرفوا كيف يوقفون موجة العنف. وفي 30 يوليو 1952، اعتقل مانديلا مع 21 شخصاً آخر. ومنع من حضور أي نوع من الاجتماعات، كما مُنع من مغادرة المدينة. وفي هذا الوقت ركز على دراسته وعمله كمحام. واعتبرت الحكومة نيلسون مانديلاً منافساً واضحاً لسياستها الانفصالية.

عانى نيلسون وزوجته من هذه الأحداث، وساهمت الظروف المالية الصعبة في هذه المعاناة، حتى جاء الوقت الذي خيرته فيه إيفلين وأعطته إنذاراً نهائياً: إما هي وأطفالها أو حزب المؤتمر الوطني الأفريقي. واختار نيلسون مانديلا حزب المؤتمر الوطني الأفريقي والكفاح من أجل الدفاع عن المظلومين. وبعد فترة وجيزة من الانفصال، التقى مانديلا بما ستصبح زوجته الثانية، ويني، وأنجب منها ابنتان أخريان.

اقرأ أيضًا: تاريخ الثورة الفرنسية: عشر سنوات من الفوضى والاضطرابات

بعيداً عن السلمية

انتخب نيلسون مانديلا في عام 1951 رئيساً لرابطة الشبيبة للمؤتمر الوطني الأفريقي. وحاول شن عدة انتفاضات سلمية وإضرابات، لكنها قوبلت بالعنف من السلطة، وإعلان حالة الطوارئ، واعتقل مانديلا العديد من المرات، وبعد ذلك قرر أن ينتهج نهج آخر بعيداً عن السلمية. يقول مانديلا:

“أعيش حياة محفوفة بالمخاطر وسأنفصل عن عائلتي، ولكن عندما يُحرم الرجل من حق عيش الحياة التي يؤمن بها، فلن يكون أمامه خيار سوى أن يصبح خارجاً عن القانون”.

كان لديه شعور بأن بلده تمر بأسوأ الأوقات في تاريخها. وبعد فترة وجيزة وجهت إليه تهمة الخيانة العظمى، ولكن تم إسقاط جميع التهم. كان هذا الأمر سبباً للاحتفال في البلد بأسره. فحتى تلك اللحظة لم يرغب مانديلا وأعوانه باحتجاجات وأعمال عنف، ولكن بسبب المذابح والتدابير التي كانت تتخذها الحكومة، اضطر مانديلا إلى تغيير استراتيجيته. اختار في البداية القيام بأعمال تخريب ضد المؤسسات الحكومية مثل المنشآت العسكرية ومحطات الطاقة والاتصالات الهاتفية وخطوط النقل. كانوا واثقين من أن هذا سيجبر الحكومة على التفاوض. وقد أوضح مانديلا لأعوانه أن أعمال التخريب لا ينبغي أن تسبب إصابات، لأن الهدف النهائي للنضال بأكمله هو تحقيق التعايش المتناغم بين جميع الأعراق الموجودة في جنوب إفريقيا.

أسس نيلسون مانديلا منظمة عسكرية “رمح الأمة” تشكلت في الغالب من جنود، ونفذت الهجوم الأول ضد محطات توليد الطاقة في جوهانسبرج وبورت إليزابيث وديربان. وفي الشهر التالي، اضطر مانديلا إلى الفرار من البلاد. خلال هذه الرحلة، كان يبحث عن حلفاء بين الدول المجاورة وقام برحلة قصيرة عبر أوروبا. وافقت الجزائر وإثيوبيا فقط على المساهمة في التدريب العسكري، وقدمت بعض الدول الدعم المالي. بدأ مانديلا في تلقي التدريب العسكري الذي اعتبره ضرورياً بشكل عاجل في إثيوبيا. وشرع في الكفاح المسلح داخل جنوب إفريقيا بعد أن دخل البلاد سراً وبعد فترة تم اكتشاف مكانه واعتقاله.


محاكمة ريفونيا

محاكمة نيلسون مانديلا
محاكمة ريفونيا

دخل مانديلا السجن في عام 1963، ثم عقدت محاكمة مانديلا، والتي ستسجل في التاريخ على أنها محاكمة ريفونيا الشهيرة. وواجه فيها المتهمون تهماً بالتخريب والشروع في حرب العصابات والخيانة العظمى، وعقوبة مثل هذه التهم السجن مدى الحياة أو الإعدام. كانت العديد من الاتهامات باطلة وخطيرة للغاية، مثل قتل المارة. وقرر جميع المتهمين الاعتراف بالذنب في بعض التهم لكنهم سينتهزون الفرصة للدفاع عن أنفسهم ضد الاتهامات التي لم تكن صحيحة والتنديد بموقف الحكومة. يقول مانديلا:

لقد كرست حياتي كلها لهذه المعركة (…) لقد حافظت على المثل الأعلى للمجتمع الحر (…)، حيث يعيش جميع الناس معاً في وئام وبفرص متساوية. إنه مثال أتمنى أن أعيش من أجله وأتطلع إلى تحقيقه. ولكن إذا لزم الأمر، فأنا على استعداد للموت من أجله”.

وبعد هذه المرافعة رأى القاضي أن مانديلا وسبعة متهمين آخرين مذنبون. وحكم عليهم جميعا بالسجن مدى الحياة.

اقرأ أيضًا: خواطر عن الحرية: التحليق فوق مدن البؤس والقهر

سجن نيلسون مانديلا

عندما بلغ مانديلا السادسة والأربعين من عمره نقل ورفاقه إلى جزيرة روبن، وفيها أسوأ السجون في كل إفريقيا. كانت مساحة زنزانة مانديلا مترين مربعين وبها حصيرة وبطانيات. وكان هناك ضوء خافت ونافذة صغيرة بالكاد 30 سم مربع. العزاء الوحيد المتبقي لهم في السجن والذي منحهم بعض الراحة هو أنهم معاً وسيعملون على الخروج من السجن سالمين، دون فقدان القوة والحفاظ على معتقداتهم وتقويتها. يقول مانديلا:

“يتآمر حراس السجن والسلطات لسرقة كرامة الرجال. لكن هذا ضمن لي البقاء على قيد الحياة”.

لم تكن مجرد كلمات، لكنها كانت موقفاً احتفظ به مانديلا دائماً أثناء سجنه. أما المناقشات التي أجراها مع حراس الأمن الذين حاولوا إذلاله وكيف نجح مانديلا في وضعهم في مكانهم وحتى فضحهم معروفة جيداً. لقد كان الاتصال بالعالم الخارجي منعدماً. وكان بإمكانه كتابة خطاب واحد فقط في الشهر ومحتوى الرسائل التي يتلقاها من زوجته يخضع دائماً للرقابة. زارته ويني بعد أسابيع قليلة، لكن هذه الزيارات كانت صعبة للغاية، فلم يكن بإمكانهما حتى قضاء لحظة من الخصوصية واضطرا للحديث مفصولين بزجاج في غرفة زيارة مزدحمة.

في نهاية الستينيات، كانت قيادات حزب المؤتمر الوطني الأفريقي كلها تقريباً في السجن، وبسبب عزلتهم، كانوا يجهلون الوضع السياسي. كل ما عرفوه هو أن الحزب القومي يتمتع بسلطة متزايدة وأنهم ارتكبوا المزيد من الانتهاكات، نظراً لعدم وجود معارضة قوية. وخلال هذا الوقت العصيب، فقد والدته وابنه، واعتقلت زوجته ظلماً بتهمة الانتماء للحزب الشيوعي. تم استجوابها وتعذيبها. وكانت معرفة الأخبار التي تفيد بأن ويني في السجن نهاية كل آماله تقريباً.


ضوء وسط الظلال

بحث حول نيلسون مانديلا
سجن نيلسون مانديلا

أصبح نيلسون مانديلا رمزاً للحرية والدفاع عن حقوق الإنسان، ليس في جنوب إفريقيا فقط، بل في العالم أجمع. وخلال وجوده في السجن استمر في المطالبة بالتغييرات والإصلاحات، وفي بعض الأحيان كان يكتب رسائل ويهربها لتنشرها بعض الصحف يدعو فيها المواطنين لمواصلة النضال من أجل الوحدة وضد وحشية الفصل العنصري.

ذاع صيت مانديلا في جميع أنحاء العالم في بداية الثمانينيات، واشتعلت مظاهرات تحت عنوان “الحرية لمانديلا” وفي ذلك الوقت طالبت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا جنوب إفريقيا بالإفراج عن نيلسون مانديلا دون شروط. ظهر تأثير هذا الضغط الذي مارسه المجتمع الدولي على السجناء. حيث ظهرت العديد من التحسينات لسجناء الرأي. وقامت حكومة جنوب إفريقيا بنقل هؤلاء إلى سجن آخر يمكنهم فيه قراءة الجرائد ومشاهدة الأخبار وتناول طعام أفضل. وبعد مرور 22 عاماً تمكن نيلسون مانديلا أخيراً من معانقة زوجته ويني وأطفاله.

اقرأ أيضًا: قصة هيباتيا: كيف ماتت أشهر فيلسوفة في التاريخ؟

لا للحرية المشروطة

أعلنت الحكومة في يناير 1985 أنها ستطلق سراح نيلسون مانديلا بشرط التخلي عن القتال، ولكن رفض مانديلا الحرية المشروطة. وبذلك زادت شعبيته ووضع الحكومة في وضع أكثر صعوبة، لأنها كانت تعاني كذلك من أزمة اقتصادية حادة، كما زادت أعمال العنف والفوضى في البلاد مما أجبر رئيس الوزراء بوتا على الاستقالة، وخلفه دي كليرك. وعلى الرغم من كون دي كليرك جزءاً من الحزب الوطني إلا أنه بدا رجلاً أكثر عقلانية من سابقيه. هذا مع العلم بأنه لم يكن على استعداد للتخلي عن فكرة أن البيض هم فقط من يملكون السلطة.

وفي 11 فبراير 1990 أفرج دي كليرك عن نيلسون مانديلا دون شروط بعد سبعة وعشرين عاماً. لقد غيرته تجربة السجن وعززته وسيواصل الكفاح من أجل السلام والوحدة في بلاده، والتخلص نهائياً من سياسة الفصل العنصري. لقد استفاد حزب المؤتمر الوطني الأفريقي من شعبية مانديلا في جميع أنحاء العالم للضغط على الحكومة، واقتراح حكومة جديدة وديمقراطية، وبدء نوع من المفاوضات يمكن أن يخلق مناخاً أكثر قابلية للتنفس، ففي السنوات القليلة الماضية التي قضاها نيلسون في السجن، مات ما يقرب من 4000 شخص نتيجة للعنف الكبير الذي ساد البلاد.


مضايقات خطيرة

تعطلت المفاوضات لسوء الحظ بين الحكومة وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي. حيث كانت البلاد تعيش حالة من العنف والفوضى الرهيبة. حيث تعاونت الحكومة مع حركة الزولو وهي حركة إرهابية أنشأها عضو سابق في حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وتتكون من بعض الأشخاص منخفضي التعليم الذين تم جمعهم من المناطق الريفية، وكانت هذه الحركة من أشد المعارضين لحزب المؤتمر الوطني. أذنت الحكومة لهؤلاء بحمل أسلحتهم التقليدية، مثل المناجل والحراب والسكاكين، والنزول إلى الشوارع واستخدام هذه الأسلحة في اغتيال من اعتبروهم معارضين. وبالتالي ساهمت الحكومة في زيادة الفوضى، وبهذا العذر أغلقت المفاوضات لفتح العملية الديمقراطية.

شك مانديلا في أن دي كليرك كان يتعاون مع الزولو ولم يثق به مرة أخرى. وقد شنت الحكومة حملة واضحة ضد التحالف الوطني الأفريقي لمنعه من الفوز في الانتخابات. بينما أدينت زوجته ويني بارتكاب جريمة قتل والتآمر ضد الحكومة. أيدها مانديلا علناً ​​وحضر جميع المحاكمات؛ وفي النهاية تم تبرئتها من التهم. وبعد فترة وجيزة، أعلن نيلسون مانديلا انفصاله عن زوجته لأسباب شخصية بعد ثلاثة وثلاثين عاماً معاً. يُقال إن نيلسون اتخذ هذا القرار عندما اكتشف ن زوجته أقامت علاقة مع أحد الأشخاص أثناء وجوده في السجن.

في عام 1991 انتخب نيلسون مانديلا رئيسا لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي. وقدم مقترحات جديدة لتغيير الدستور، ومنها التفكير في الاقتراع العام؛ والمطالبة بكافة الحقوق المدنية والسياسية للبشر من أي عرق وبنظام قضائي غير مسيّس.

اقرأ أيضًا: الحرب الباردة: الخلفية التاريخية وأهم الأسباب والعواقب

أول رئيس أسود

رئاسة نيلسون مانديلا
نيلسون مانديلا أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا

خاض نيلسون مانديلا الانتخابات في 27 أبريل 1994، وبعد عملية صعبة من التوتر والمفاوضات والصراعات خلال الحملة الانتخابية، أصبح نيلسون مانديلا أول رئيس أسود في تاريخ جنوب إفريقيا. وفي يوم التنصيب قال:

“من تجربة مأساة إنسانية غير عادية دامت لفترة طويلة، يجب أن يولد مجتمع يمكن للبشرية جمعاء أن تفتخر به.. لن تختبر هذه الأرض الرائعة أبداً اضطهاد الإنسان مرة أخرى أبداً. إن القيام بالإصلاح والتغيير لن يكون سهلاً، ناهيك عن السرعة. فإصلاح كل الأخطاء التي ارتكبت خلال ثلاثة قرون من الهيمنة العرقية أمراً صعباً للغاية وسيؤدي أيضاً إلى تغيير نظام مؤسسي قوي بالكامل”.

بذل مانديلا في السنوات التالية كل طاقته لتوحيد البلاد. حيث حاول طمأنة البيض، الذين كانوا يخافون مما يمكنه فعله، وبذلك أنشأ جنوب إفريقيا جديدة كمكان صالح للعيش بالنسبة لأي شخص من أي عرق. أما ذروة جهود مانديلا فكانت الاحتفال بكأس العالم للرجبي في عام 1995. لقد كان حدثاً مهماً للغاية ورمزياً. حيث كانت الرياضة في جنوب إفريقيا حكراً على الأقلية البيض المهيمنة، ولهذا السبب ظل السود بعيدين عنها. ومع ذلك، حدث شيء سحري عندما نظم مانديلا فريقاً متعدد الأعراق وكان نشيد فريق ممثل الدولة هو نشيد حزب المؤتمر الوطني الأفريقي. وتم إعلان البلد بأكمله بطلاً واحتفلوا جميعاً معاً. لقد كانت واحدة من أكثر اللحظات عاطفية على الإطلاق.


القيادة بالقدوة

أظهر نيلسون مانديلا طوال حياته سلوكاً مثالياً. وكان يأمل في أن يكون بمثابة قدوة لجميع أولئك الذين سيشكلون الحكومة الجديدة، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فلا ضرر من إقالة البعض منهم. يظهر انضباط مانديلا في استيقاظه كل يوم الساعة 4:30 صباحاً، وترتيب سريره، رغم أنه كان يعيش في فندق، ويمشي بضع كيلومترات. وقد حصل على راتب جيد، تبرع بثلثه لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي وصندوق نيلسون مانديلا للأطفال. أما المال الذي حصل عليه من جائزة نوبل للسلام، والعائدات التي حصل عليها من سيرته الذاتية، فلقد منحها جميعاً للأعمال الخيرية. وفي نهاية ولايته عام 1999، لم يترشح مانديلا لإعادة انتخابه، مما أفسح المجال لجيل جديد يتمتع بقدر أكبر من الحيوية والشباب لمواصلة النضال.

كان نيلسون مانديلا قد بلغ الثمانين من العمر، وفي هذه المرحلة من حياته، تعلم الاستمتاع بصحبة أبنائه وأحفاده. بينما تزوج في هذا العمر من غراسا ماشيل وهي أرملة رئيس موزمبيق. وعلى الرغم من تقاعده، يعترف بأنه لم يتحمل شيئاً واحداً:

“النهوض وعدم معرفة ما يجب فعله في يومك”. ولهذا السبب، واصل العمل في السياسة، وإن لم يكن بشكل رسمي. فلديه جدول زمني مليء بالاجتماعات مع قادة العالم، والمقابلات، وهو وسيط مفيد في عمليات السلام ومعروف بالدفاع عن تثقيف الناس وهو مناضل قوي ضد وباء الإيدز، وساهم بالكثير في المبادرات التي تهدف إلى التغلب على مشكلة الفقر والجوع في العالم.

اقرأ أيضًا: معاداة السامية: القصة التاريخية الكاملة

وفاة نيلسون مانديلا

وفي يوم 5 ديسمبر عام 2013 فارق نيلسون مانديلا الحياة عن عمر يناهز 95 عاماً بعد أن قضى حياته بأكملها يدافع عن القيم العالمية وحق الإنسان في حياة كريمة. وقد أعلن عن وفاته جاكوب زوما رئيس جنوب إفريقيا السابق وأعلن الحداد لمدة عشرة أيام. بينما أقيمت جنازة عظيمة للفقيد حضرها ممثل أكثر من 90 دولة من جميع أنحاء العالم. يقول الأشخاص الذين عرفوا نيلسون مانديلا عن قرب إنه كان رجلاً رائعاً وجذاباً ولطيفاً وملتزماً بكل ما يقوم به في الحياة. إنه إنسان طيب لديه شرف ومبادئ واضحة. إنسان شكلته تجارب صعبة كان عليه اختبارها.

كان الناس العظماء في بعض الثقافات القديمة يُذكرون من قبل الأجيال القادمة لأعمالهم الطيبة والبطولية، لأنهم اعتبروا التاريخ مدرساً للحياة وتعلموا منه. وربما لا توجد هدية أعظم للإنسان الذي كافح طوال حياته من أجل العدالة وحقوق الإنسان من الاعتراف بعمله وإظهار الاحترام له ومحاولة عدم نسيان القيم العالمية التي دافع عنها.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!