تاريخ

أهوال محاكم التفتيش المقدسة في أوروبا

محاكم التفتيش في أوروبا أنشاءتها الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى من أجل التحقق من البدع والهرطقة. ويعود تاريخ هذه المحاكم إلى فترة طويلة جداً من التاريخ القديم. حيث بدأت بالمحاكم البابوية، وانتهت بمحاكم التفتيش الرومانية ومحاكم التفتيش الإسبانية، وقد مارست في سبيل ذلك قوة ووحشة هائلة باستخدام أبشع طرق التعذيب في التاريخ البشري كله.

ما هي محاكم التفتيش؟

يشير مصطلح محاكم التفتيش إلى البحث والاستقصاء والتحقيق، لكن استخدام الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى له جعلت منه مصطلحاً سيء السمعة. حيث يرتبط هذا المصطلح الآن بجميع الجرائم والرذائل. كما يحمل هذا المصطلح في طياته القتل، السرقة، الحرق العمد، الغضب، التعذيب، الغدر، الغش، النفاق، النهب، القداسة. بينما ليس هنالك كلمة أخرى في جميع لغات العالم بغيضة مثل هذه الكلمة التي تدين بتفوقها البغيض إلى الكنيسة الكاثوليكية.

لقد سعت الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى إلى التخلص بلا هوادة من كل شخص يتحدث أو حتى يرتكب جريمة التفكير بشكل مختلف عن المعتقدات التي كانت تؤمن بها الكنيسة حينذاك. وقد استمر هذا النظام لما يقارب من ستة قرون. كان حينها الإطار القانوني في معظم أنحاء أوروبا، ويعد واحداً من أكثر النظم الدينية قسوة في تاريخ البشرية.


تاريخ محاكم التفتيش

الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى - أدوات التعذيب في محاكم التفتيش - طرق التعذيب في محاكم التفتيش
تاريخ محاكم التفتيش في العصور الوسطى

بدأ تاريخ محاكم التفتيش في فترة مبكرة من خلال الاضطهاد المسيحي للطوائف الأخرى بالإضافة إلى محاكمة السحرة والمشعوذين.

محاكم التفتيش البابوية (1233)

تعود أصول محاكم التفتيش إلى الاضطهاد المبكر للطوائف المسيحية غير الكاثوليكية في أوروبا. ففي عام 1184 أرسل البابا لوسيوس الثالث عدد من الأساقفة إلى جنوب فرنسا لتعقب الزنادقة الذين يطلق عليهم اسم الكاثاريون. وقد استمرت هذه الجهود في القرن الرابع عشر. وكان الاعتقاد الكاثوليكي هو السائد في أوروبا كلها، لكن مع ذلك ظهرت العديد من الحركات التي تعارض هذا الاعتقاد السائد. بينما هذه الآراء والأفكار الجديدة كانت تمثل مخالفة لاعتقادات الكنيسة، وبالتالي تهدد استقرارها. لذا كان لا مفر من مواجهة هذه الأفكار والحركات، بل واتخاذ إجراءات تأديبية لمعتنقيها.

هذا الأمر  دفع البابا غريغوري التاسع إلى الاستعانة بفكرة محاكم تفتيش يكون لها أحقية ممارسة الأساليب العقابية التي تراها مناسبة، وكان الكاثاريون هم الهدف الأمثل لهذا الأمر. ومن ثم لاحقت محاكم التفتيش الكاثاريين وتم القبض على معظمها. وتم إجبار المتهمين بالهرطقة على الاعتراف، ومن لم يعترف منهم فلا مفر من التعذيب والإعدام. بينما لم يُسمح للزنادقة بمواجهة المتهمين، وكانوا في الغالب ضحايا لاتهامات كاذبة، وفي النهاية تم إعدامهم بالحرق.

كانت هناك انتهاكات لا حصر لها للسلطة، وقد مارس المحققون العديد من أنواع التعذيب. على سبيل المثال القديس ريموند السابع كان أحد المعروف عنهم إحراق الزنادقة على الرغم من اعترافهم. القديس ألفونس الذي كان يقوم بمصادرة أراضي المتهمين لزيادة ثروته. وفي عام 1307، تورط المحققون في عمليات الاعتقال الجماعي والتعذيب التي طالت 15000 من فرسان الهيكل في فرنسا، مما أدى إلى تنفيذ العشرات من عمليات الإعدام.

محاكم التفتيش الإسبانية (1478-1834)

في عام 1478، تم إنشاء محاكم التفتيش الإسبانية بالموافقة البابوية من البابا سيكستوس الرابع. بينما كان إصلاح وتوسيع المحكمة القديمة التي كانت قائمة منذ القرن الثالث عشر يهدف بشكل أساسي إلى اكتشاف وإزالة اليهود والمسلمين الذين يتبنون معتقداتهم سراً. وتعد محاكم التفتيش الإسبانية هي الأكثر دموية وسوء سمعة من بين جميع محاكم التفتيش. حيث كانت أولاً: الأكثر تنظيماً، وثانياً: الأكثر انفتاحاً مع عقوبة الإعدام من محاكم التفتيش البابوية. وقد أصبح منصب المحقق منصباً مقدساً يتمتع بالسرية التامة. مما أدى إلى تزوير تقارير آلاف المحاكمات.

تم تعيين أول المحققين في مقاطعات إشبيلية في عام 1480 من قبل الملك فرديناند والملكة إيزابيلا للقبض على أغنى الزنادقة ؛ والسبب في ذلك، هو أن ممتلكات المتهمين تم تقاسمها بالتساوي بين العرش الكاثوليكي والدومينيكان. ووفقاً للقانون المدني، حكم على الأشخاص المدانين بالخيانة الدينية بالإعدام، ومصادرة ممتلكاتهم. بينما كانت الكنيسة الكاثوليكية تتغذى على ممتلكاتهم تم تعيين محققين إضافيين، بما في ذلك توماس توركويمادا، الذي تم تعيينه في العام التالي كمحقق عام لكل إسبانيا.

توماس الذي كان من واجبه تنظيم قواعد إجراءات التحقيق في إشبيلية وقشتالة وأراغون. كان يعتقد أن معاقبة الزنادقة هي الطريقة الوحيدة لتحقيق الوحدة السياسية والدينية في إسبانيا. أولئك الذين يرفضون قبول الكاثوليكية حيث يقودون إلى السجن ويحرقون أحياء في موكب واحتفال كاثوليكي.

محاكم التفتيش الرومانية (1542-1700)

في أوائل القرن السادس عشر والسابع الميلاديين، خضعت الكنيسة الكاثوليكية لعملية إصلاح. بدأها مارتن لوثر كينج عام 1517 والتي ولدت من رحمها البروتستانتية التي نشأت كرد فعل على الاضطهاد الكاثوليكي. بينما دعت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية وقتها إلى عقد مجمع ترينت كدفاع ضد البروتستانتية. وفي عام 1542، أنشأ البابا بولس الثالث المكتب المقدس الذي يعد بمثابة أحد محاكم التفتيش الرومانية التي تهدف إلى التحقيق في جميع البدع والهرطقة التي يمثلها البروتستانت حينذاك. كما نشرت الكنيسة قائمة بالكتب الممنوعة قراءتها. ومن ثم قامت محاكم التفتيش الرومانية بحظر الكتب الهرطقية، وفحص كل كتاب يتعارض مع مبادئ أو مصالح العقيدة الكاثوليكية. كما لم يُسمح بتعلم القراءة أو الكتابة دون إذن.

نتيجة لمحاكم التفتيش الرومانية اندلعت عدد من الحروب الناتجة عن الصراعات الدينية، وكذلك حاولت الحكومات الكاثوليكية وقف انتشار البروتستانتية في البلاد. أدت هذه المحاولات إلى اندلاع الحرب الأهلية في فرنسا من عام 1562 إلى عام 1598 وتمرد في هولندا بين عامي 1565 و 1648. كان الدين قضية رئيسية في القتال بين إسبانيا وإنجلترا من عام 1585 إلى عام 1604. كما كانت محاكم التفتيش الرومانية أيضاً سبباً لحرب الثلاثين عاماً من 1618 إلى 1648، والتي تركزت في ألمانيا. بينما شملت في النهاية جميع الدول الكبرى في أوروبا والتي خفضت عدد سكانها إلى النصف.
تراوحت تقديرات عدد القتلى خلال محاكم التفتيش الرومانية في جميع أنحاء العالم من 600000 إلى أعلى في الملايين على مدى ستة قرون تقريباً.

اقرأ أيضًا: حرب المائة عام بين فرنسا وبريطانيا

كيف كانت إجراءات التحقيق؟

الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى - أدوات التعذيب في محاكم التفتيش - طرق التعذيب في محاكم التفتيش
جاليليو جاليلي أمام محاكم التفتيش الرومانية

في الجانب المظلم من التاريخ المسيحي  كانت محاكم التفتيش قابعة هناك. بينما كانت هناك العديد من الإجراءات التي كان ينتهجها المحققون، وهي تقوم على إرسال أحد المحققين للبحث عن المهرطقين في منطقة معينة. وبمجرد وصوله إلى المكان المنشود كان يمهل هؤلاء الزنادقة 40 يوماً من أجل الاعتراف بخطاياهم. وبعد انتهاء المهلة يتم استدعاء جميع السكان للمثول أمام المحقق. بينما كان المواطنون المتهمون بالهرطقة يتم إيقاظهم في جوف الليل، ويأمرون، إذا لم يتم تكميم أفواههم، ثم يتم اصطحابهم إلى الصرح المقدس، أو سجن محاكم التفتيش لفحصهم عن كثب.

إن حقيقة توجيه التهمة إلى أحد ما واستدعائه لمحاكم التفتيش كانت كافية لإحداث الرعب الشديد في أشجع رجل أو امرأة. فقلة قليلة من الذين دخلوا أبواب صالات التعذيب بكامل عقولهم وأجسادهم. خرجوا منها مشوهين جسدياً و عقلياً إلى الأبد.

اقرأ أيضًا: عصر النهضة: كيف نجت أوروبا من ظلام العصور الوسطى؟

كيف يتم تعذيب الضحايا؟

الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى - أدوات التعذيب في محاكم التفتيش - طرق التعذيب في محاكم التفتيش
ممارسة أبشع أساليب التعذيب خلال محاكم التفتيش في العصور الوسطى

عندما يصدر حكم بالتعذيب، وبينما يستعد الجلاد لتطبيقه، يجب على المحقق والأشخاص الذين يساعدونه أن يبذلوا محاولات جديدة لإقناع المتهم بالاعتراف بالحقيقة. يعمل الجلادون ومساعديهم في التأثير على الضحية عن طريق بث الخوف والرعب في نفسه، ثم يتم تجريده من ثيابه والتحدث معه على انفراد وحثه على الاعتراف ووعده بالحصول على حريته إذا لم يعد إلى مثل هذه الأمور مرة أخرى، وهذا بكل تأكيد لم يكن يحدث.

الأبراج المحصنة

كانت هذه الأبراج مخصصة لمن رفضوا الاعتراف في الجلسة الأولى. هذه الأبراج المحصنة تقع تحت الأرض، بحيث لا تصل صيحات المعذبين إلى أجزاء أخرى من المبنى. وفي بعض الزنازين كان الضحايا مقيدون بالسلاسل غير قادرين على الحركة، وقد أجبروا على النوم واقفين.

غرف التعذيب المرعبة

في عام 1252، أصدر البابا إينوسنت الرابع قراراً رسمياً بإنشاء غرف التعذيب المرعبة في محاكم التفتيش، وأصبح حكم البراءة من المتهمين شبه مستحيل الآن. وهكذا، بترخيص منحه البابا نفسه، كان المحققون أحراراً في استكشاف أعماق الرعب والقسوة. كان بإمكان المحققين، الذين كانوا يرتدون زي الشياطين ذوي الثياب السوداء مع طربوش سوداء فوق رؤوسهم، انتزاع الاعترافات من أي شخص تقريباً. بينما ابتكرت محاكم التفتيش كل ابتكار يمكن تصوره لإلحاق الألم عن طريق تقطيع الجسم ببطء وخلعه.

اقرأ أيضًا: عصر التنوير الأوروبي: مقدمة موجزة جداً

طرق التعذيب في محاكم التفتيش

تم استخدام التعذيب فقط للحصول على اعتراف ولم يكن القصد منه معاقبة الزنديق المتهم على جرائمه. استخدم بعض المحققين التجويع، وأجبروا المتهمين على استهلاك كميات كبيرة من الماء أو سوائل أخرى والاحتفاظ بها، أو تكديس الفحم المحترق على أجزاء من أجسادهم. لكن هذه الأساليب لا تعمل دائمًا بالسرعة الكافية لإرضائهم.

  1. الرف

    كان الرف أحد طرق التعذيب في محاكم التفتيش، ويتم فيه ربط أيادي الضحية وأقدامه بالسلاسل مع ربط هذه السلاسل في أحد بكرات خشبية، يقوم الجلاد بسحب السلاسل أو الحبال حتى تتمدد مفاصل الضحية وتتمزق ذراعيه .

  2. شوكة الهراطقة

    واحدة من طرق التعذيب في محاكم التفتيش، وفيها يتم وضع أحد طرفي الشوكة تحت ذقن الضحية والطرف الأخر يتم تثبيته في المنطقة العليا من القفص الصدري. يؤدي هذا الأمر إلى توقف رأس الضحية عن الحركة، وإذا حاول الضحية تحريك رأسه فإنه يظل يتوجع من شدة الألم.

  3. المخلعة

    تعد هذه الالة واحدة من أبشع وسائل التعذيب. حيث أن هذه الآلة تساهم في تمزيق جميع أجزاء الجسم. يتم وضع الضحية على هذه الآلة بعد عملية ربط معصميه عند أحد طرفي المخلعة، ويتم شد الجسد في الاتجاه المعاكس. مما يؤدي إلى تمزق جميع أطراف الضحية.

  4. التابوت الحديدي

    هذه الآلة عبارة عن تابوت يمتلئ عن أخره بالمسامير التي تم وضعها بطريقة مدروسة. بحيث لا تخترق هذه المسامير أحد الأجزاء الحيوية في جسم الضحية كالرئة أو القلب. يظل الضحية على هذا الوضع طويلاً ينزف الدماء ويئن من شدة الألم حتى يموت موتاً بطيئاً.

  5. كرسي محاكم التفتيش

    يعد كرسي محاكم التفتيش واحداً من الآلات التي استخدمها الجلادون في محاكم التفتيش الإسبانية. هذا الكرسي الشهير الذي يمتلئ بالمسامير يتم وضع الضحية عليه عارياً. بحيث لا يستطع الحركة واذا أراد الجلاد الإمعان في عذاب الضحية يتم وضع كمية من الأثقال على جسده.

اقرأ أيضًا: أعظم الحضارات القديمة في التاريخ

كانت محاكم التفتيش واحدة من أبشع نظم التعذيب الممنهج الذي مارسته الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى. بل في التاريخ البشري كله. بينما قد عاني من ويلاتها ملايين البشر، ونحن الآن نستعرض هذا التاريخ بما يشتمل عليه من دموية لعلنا نتعلم من دورس التاريخ ونعمل على رفع شأن الإنسان في كل عصر.

المراجع:

1.    Author: The Editors of History Web, (11/17/2017), ​​​​Inquisition, www.precisionag.com, Retrieved: 11/21/2020.

2.    Author: Edward Peters, (6/21/2002), Inquisition – Roman Catholicism, www.britannica.com, Retrieved: 11/21/2020.

3.    Author: SHANNA FREEMAN, (2/5/2008), How the Spanish Inquisition Worked, www.history.howstuffworks.com, Retrieved: 11/21/2020.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!