فلسفة

حقيقة البشر: تأملات حول الجوانب الخفية في الإنسان

بين زحام الوجوه، تتوارى حقيقة البشر، ككتاب مغلق بغطاء جميل يخفي داخله صفحات مبعثرة. نحن خليط من مشاعر وأسرار، نبدي شيئًا ونخفي أشياء، كالقمر الذي يضيء وجهه الأمامي بينما يظل الجانب الآخر غارقًا في الظلام. تأملاتنا في حقيقة البشر تكشف لنا كم نحن معقدون: نزاعٌ بين الخير والشر، بين الحب والكراهية، وبين ما نظهره وما نكتمه. أحيانًا نجد أنفسنا مرآةً تعكس ما نراه في الآخرين، وأحيانًا أخرى نتوه في متاهة أحكامنا المتسرعة. فما حقيقة البشر حقًا؟ وهل يمكننا أن نعرفها، أم أنها تظل دائمًا سرًا مكنونًا؟

حقيقة البشر في الظروف الاستثنائية

يقولون إنه عندما تسوء الأمور، تُعرف حقيقة الناس. لست متأكدًا من ذلك تمامًا؛ فكل منا لديه وجوه متعددة ومتغيرة. يجب أن نرى أنفسنا في ظروف مختلفة حتى نتعرف على بعضنا البعض ولو قليلاً، ولو بصورة مؤقتة. لا تكشف الصعوبات سوى جانبًا آخر منّا. ربما يظهر أفضل ما لدينا، إذا استطعنا التحكم والسيطرة على أنفسنا، ولكن إذا سيطر الذعر، فمن المرجح أن ينفجر جانبنا الأكثر يأسًا..

من المؤكد أن كلا الاحتمالين —الأفضل والأسوأ— بينهما شيئاً مشتركاً.. يرتبط كلاهما بالجوانب التي تظل مخفية عادةً، والتي تتعارض بطريقة ما مع الصورة التي نحاول تقديمها عن أنفسنا. ولذلك، فإن للظروف الاستثنائية فضيلة أن تجردنا من ملابسنا، وتكشف ما هو استثنائي فينا أيضًا..

ربما نجد أنفسنا قادرين على تحمل ما لا يمكن تصوره. كم مرة فكرنا: “لو أخبرني أحدهم أنني سأمر بهذا…!” عندها نكتشف أن الإنسان مخلوق لتحمل الصعاب، حتى في الظروف التي يبدو لنا من الخارج أن الاستمرار فيها لا يستحق كل هذا العناء، وأنه يجب التخلي عن كل شيء والتوقف عن القتال.

في خضم المأساة

خواطر عن حقيقة البشر
حادث تحطم الطائرة الأوروجويانية في جبال الأنديز

الناجون من حادث تحطم الطائرة الأوروجويانية في جبال الأنديز عام 1972، الذين أمضوا أكثر من شهرين في القمم، ولجأوا حتى إلى أكل لحم البشر، يقدمون لنا مثالًا مرعبًا ومثيرًأ للإعجاب في نفس الوقت عن المثابرة.. مَن منهم كان يتصور ذلك قبل أن يرى نفسه في خضم هذه المأساة؟ هل يمكن أن يتخيل أحدهم أنه سيواجه هذه المعضلة البدائية والوحشية المتمثلة في الاضطرار إلى الاختيار بين الحياة – رغم أنها غير محتملة – أو الموت – شبه المؤكد؟

في تلك الأوضاع الاستثنائية للصراع من أجل البقاء، ربما يستسلم البعض الآخر في وقت أقرب مما كانوا يعتقدون.. أو ربما سيتقاتلون فيما بينهم كالحيوانات المفترسة على الموارد القليلة، أو ربما لا يستطيعون، بسبب اليأس الطاغي، الحفاظ على رباطة جأشهم وحساب أفضل فرص النجاة. بصراحة، لا أحد يعرف كيف سيتصرف في مثل هذه المواقف حتى يجد نفسه فيها، ولهذا نأمل جميعاً ألا نضطر إلى مواجهتها أبدًا.

أفضل وأسوأ ما فينا

في كل الأحوال، يتضح أن الظروف الاستثنائية يمكن أن تبرز أفضل ما فينا أو الأسوأ.. الأكثر إثارة للإعجاب أو الأكثر انحطاطاً… ليس كل الأبطال أبطالاً بالاختيار، حيث يمكن أن يعتمد الثبات أو الانهيار في بعض الأحيان على الاستحضار المفاجئ لذكرى، أو استيقاظ غير متوقع لمشاعر معينة، أو صحة الجسد أو قوة الروح، أو اللجوء إلى معتقد ما، أو الحب الذي يجبرنا على المثابرة لحماية من نحب. من السهل فقدان السيطرة على النفس، وعندها نجد أن معظمنا لا يستحق الإعجاب. وبحسب ما قالوا، أثناء عملية إنقاذ الطائرة الأوروغويانية، لم يكن هناك مكانًا للجميع في المروحيات، وكان يجب إجبار بعض الناجين على النزول بالقوة وانتظار دورهم.. لقد صمدوا 72 يومًا، لكنهم كانوا مرعوبين من قضاء ليلة أخرى في ذلك المكان.

هل ما نحاول كتمه وينبثق تلقائيًا عندما نخفف حذرنا هو الأكثر تعبيرًا عما نحن عليه حقًا؟ بطريقة ما، نعم.. إنه ذلك الجوهر الذي يكمن خارج إرادتنا، وبالتالي بعيدًا عن التظاهر والتكلف.

الوجود من أجل الذات

تأملات عن حقيقة البشر
من أقوال سارتر

ومع ذلك، فإن هذا هو بالضبط ما يجعله “غير إنساني” إلى حد ما، لأن الإنسانية تكمن في ممارسة الإرادة، وفي الجهد الذي نبذله لنصبح ما نرغب أن نكونه، وهو ما أطلق عليه سارتر “الوجود من أجل الذات”.. أليس من المفترض أن نعتبر ذلك أكثر أصالة، وأكثر تعبيرًا عن ماهيتنا، وأكثر حقيقة، بقدر ما هو إنساني بحت؟ من ناحية أخرى، وكما رأينا وتحققنا مرارًا، فإن ما هو خارج عن سيطرتنا هش ومتقلب مثل السيطرة نفسها؛ فالخط الفاصل بين البطولة والجبن غالبًا ما يكون رفيعًا للغاية، وفي بعض الأحيان عرضيًا.. دفعة صغيرة، أو استجابة عشوائية، قد تدفعنا في اتجاه أو آخر، ومن هناك يصبح الأمر مجرد مسألة سقوط وتماسك، مثل كرات الثلج. إلى أي مدى كنا نحن من قرر في هذه الظروف الاستئنائية، أم أننا كنا مجرد لعبة في يد الظروف؟ إلى أي مدى يمكن أن نُمدح أو نُلام على هذا السلوك؟

الطبيعة المتقلبة للبشر

ربما ينبغي أن نعترف بوجود كلا البعدين: الإرادي والعرضي، التأملي وغير العقلاني، المُصنع والغريزي؛ وأن نعتبرهما مكملين لبعضهما البعض وبالتالي لا يكتمل أحدهما بدون الآخر. نحن متقلبون، عشوائيون إلى حد ما لا يمكن التنبؤ بسلوكياتنا.. نحمل داخلنا قوى هي نحن وفي الوقت ذاته ليست نحن، أو بالأحرى هي “نحن” مختلفة، غير متوقعة، مذهلة. إن ما يميزنا هو التعقيد، ويجب أن نقبل بأن طبيعتنا متعددة الأوجه ومتضاربة.

البعض قد أكد ذلك: العقل إلى جانب اللاعقل، الفكر المتشابك مع العاطفة… لخص هيرمان هيسه، بطريقة صوفية ميزته، ذلك في الإله الغنوصي أبراكساس في روايته دميان: إله يحكم الخير والشر معًا، الأعلى والأكثر أرضية. تحدث نيتشه عن “الإنسان المتفوق”، الذي يقبل شهواته ولكن في الوقت نفسه يسيطر عليها. الإرادة، جميلة وهشة، تتصارع مع الغريزة، “الأنا” مقابل “الهو” الفرويدي. الصراع الداخلي، الذي يُعاد إحياؤه دائمًا مثل طائر العنقاء، يكتب في كل لحظة المصير الإنساني.

يظل الإنسان لغزًا لا تنتهي قراءته، بحرًا من العمق تتلاطم أمواجه بين النور والظلام. حقيقة البشر ليست ثابتة، فهي تتغير بتغير الظروف، وتتجلى في المواقف الصعبة، حيث تختبر الأخلاق والنوايا. ربما لا نملك إجابة قاطعة عن حقيقتنا، لكن تأملاتنا فيها تجعلنا أكثر تفهمًا، أكثر تسامحًا، وأكثر استعدادًا لقبول أن الكمال ليس من صفات البشر. لعلّ الجمال يكمن في هذا الغموض، وفي البحث المستمر عن معنى إنسانيتنا..

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!