الكتابة المسمارية: نبذة تاريخية عن أقدم كتابة في التاريخ
كان اختراع الكتابة المؤشر الأهم على بداية ظهور الحضارة، لأنها أتاحت لنا الحفاظ على ذاكرة البشرية، وتركت سجلاً للمعتقدات والعادات المختلفة، ومنحتنا صورة عامة عن تطور الإنسان عبر مراحل التاريخ. مثلت الكتابة نهاية عصور ما قبل التاريخ وبداية التاريخ. ولكن ما هي الكتابة حقاً؟ يمكننا تعريف الكتابة على أنها مجموعة الإشارات المرئية – المرسومة أو المنقوشة – المستخدمة لنقل المعارف والرسائل بلغة معينة. وكان ظهورها استجابة لحاجة الإنسان لتسجيل الأحداث التي يمر بها في حياته ونقلها إلى الأجيال التالية، وهو ما أدى لظهور أقدم الكتابات في التاريخ الكتابة المسمارية، وهي التي مهدت الطريق للحضارة الأولى في العالم: الحضارة السومرية التي نشأت في بلاد ما بين النهرين، وهي منطقة من الشرق الأدنى التي تعرف الآن بالعراق ومنطقة الحدود الشمالية الشرقية لسوريا.
أصل الكتابة: بلاد ما بين النهرين أم مصر القديمة؟
قبل المضي قدماً في الحديث على الكتابة المسمارية علينا أولاً توضيح نقطة مهمة، وهي معرفة أصل الكتابة في التاريخ. فلا يزال الجدل محتدماً بين الخبراء حول مهدها. لكن لحسن الحظ تقتصر الاحتمالات الموجودة على مكانين: بلاد ما بين النهرين ومصر الفرعونية.
نشأت الحضارات القديمة الأولى على ضفاف الأنهار. واستقر البشر الأوائل هناك، ومارسوا الزراعة، مما مهد لظهور حضارات مهمة حول وادي النيل – الحضارة الفرعونية – والوادي الذي يقع ما بين نهري دجلة والفرات – الحضارة السومرية – وتشير العديد من الدراسات إلى أن الحضارة السومرية[1] أقدم من الحضارة الفرعونية. ففي حين يصل عمر الحضارة الفرعونية إلى ما يقرب من ثلاثة آلاف عاماً، تركت الحضارة السومرية سجلات مكتوبة منذ أربعة آلاف عاماً قبل الميلاد.
وقد استخدمت الحضارة السومرية في الكتابة الأبجدية المسمارية التي كانت تنقش على الشقوق الطينية والحجرية باستخدام الإسفين. وتتكون الكتابة المسمارية الأولى من صور توضيحية: أي أن كل رسم يتوافق مع مقطع لفظي. بينما أحد أقدم مظاهر الكتابة المسمارية هو لوح كيش، الذي نُقش حوالي 3500 قبل الميلاد على الحجر الجيري. ويعتبر أقدم بثلاثة قرون مما يعرف بلوحة “نارمر” التي نقشت عليها أولى الحروف الهيروغليفية المصرية. وبالتالي يكون لدينا شهادة على أن الكتابة في بلاد ما بين النهرين أقدم بكثير من الكتابة المصرية. ولكن في عام 1998 تم اكتشاف عينات من الكتابة الهيروغليفية البدائية في أبيدوس، وهي كتابات معاصرة للكتابة المسمارية، الأمر الذي أدى إلى تأجيج الجدل.
ما هي الكتابة المسمارية؟
الكتابة المسمارية هي أقدم أشكال الكتابة التي عرفتها البشرية حتى الآن، وقد ظهرت في بلاد ما بين النهرين القديمة. يعتمد نظام الكتابة المسمارية على الألواح الطينية والحجرية والمعدنية في بعض الأحيان. وقد سميت بالمسمارية، لأن الكتبة استخدموا في الكتابة قصباً مشطوفاً على شكل إسفين (قطعة من الخشب أو المعدن لها طرف مدبب، وطرف أكثر سمكاً تستخدم لتقسيم شيء ما أو الفصل بين شيئين أو الحفر على الأحجار والمعادن والألواح الطينية). يُشبه الأمر إلى حد ما النقش بمسمار على وسيط معين.
تشتمل الكتابة المسمارية على سلسلة من العلامات المنقوشة على الألواح الحجرية أو الطينية. ولم يكن هناك حروف سومرية، بل كانت الكلمات عبارة عن صور، لذلك استغرقت كتابتها وقتاً طويلاً لأن هناك صورة مختلفة لكل كلمة. ولقد دون السومريون كذلك العمليات الحسابية مثل الضرب والقسمة والمسائل الهندسية. وبفضل هذه الكتابة تمكنوا من تطوير كل من اللغة السومرية والمعرفة الرياضية وتطبيقها في شتى مجالات حياتهم، ثم قاموا بتصدير كل ذلك إلى أجزاء أخرى من العالم.
اللغة والأبجدية
هنا ينبغي علينا توضيح نقطة هامة للغاية إلا وهي “الأبجدية ليست هي اللغة”. فالأبجدية هي نظام من الرموز والتهجئة يستخدم للتعبير عن اللغة في الكتابة. ومن الممكن كتابة عدد لا يحصى من اللغات بنفس الأبجدية، ومن أهم الأمثلة الواضحة على ذلك الأبجدية الإنجليزية، حيث يمكن من خلالها الكتابة باللغة الإنجليزية والألمانية والسويدية والفرنسية وغيرها من اللغات. ولذلك إذا رجعنا إلى الكتابة المسمارية، سنجد أنها كانت في الأصل النظام الحصري للغة السومرية، إلا أنها استخدمت فيما بعد في العديد من الثقافات واللغات الأخرى. وقد أصبحت الكتابة المسمارية هي الكتابة “الرسمية” لحضارات بلاد ما بين النهرين. وهكذا استخدم الأكاديون والحيثيون والفرس نظام الكتابة المسمارية لكتابة لغاتهم. بينما أدى هذا بالطبع إلى عدد من المشاكل: كان من الضروري في كثير من الأحيان تغيير الحروف الأصلية لتدوين أصوات غير موجودة في اللغة السومرية.
تعتبر الكتابة المسمارية واحدة من أقدم وأطول أنواع الكتابة في التاريخ. وقد تم استخدامها بشكل مستمر منذ فجر الحضارة السومرية، وبالتحديد في الألفية الرابعة قبل الميلاد، حتى القرن الأول الميلادي. حيث تعود آخر كتابة مسمارية معروفة إلى عام 75 ميلادية. وفي ذلك الوقت، تم استبدال نظام الكتابة هذا بالكامل بالأبجدية اليونانية واللاتينية.
اللغة المنطوقة والمكتوبة
تشير الدراسات العلمية إلى أن الإنسان بدأ في تطوير اللغة الشفهية منذ حوالي 100000 عام[2]. وكانت تستند في البداية على التواصل الإيمائي، وقد انتهى بهذا التواصل لاحقاً إلى دمجه في اللغة المنطوقة. ونظراً لطبيعة التواصل الشفهية، كان من الصعب جداً تحديد تاريخ أصل الكلام مقارنةً بأصل الكتابة. ومع ذلك، تحقق تقدم كبير في هذا المجال بفضل البقايا الأحفورية للجماجم البشرية. حيث يمكن لعلم الحفريات العصبية دراسة مناطق الدماغ الأكثر تطوراً. وبهذه الطريقة استطاع العلماء قياس القدرة اللغوية للإنسان. أما البقايا المكتوبة، فهي أكثر دقة، لأنه من خلال السياق الأثري ومن خلال تقنيات مثل التأريخ بالكربون 14، يمكن تحديد الحدود الزمنية بشكل أكثر دقة.
تاريخ ظهور الكتابة المسمارية
ظهرت الكتابة المسمارية حوالي عام 3300 قبل الميلاد. وقد تم اختراعها في البداية لحاجة كهنة سومر إلى الاحتفاظ بسجل دقيق لعدد البضائع التي تدخل وتخرج من مخازن الحبوب ومستودعات المعابد. ومع تعقيد الإدارة والمجتمع تطورت الكتابة المسمارية من الصور التوضيحية التي تمثل الكلمات والأشياء إلى الرموز التصويرية التي شكلت نظاماً قادراً على التعبير عن الأفكار المجردة. هذا الأمر كان سبباً للارتباك في بعض الأحيان. على سبيل المثال، كانت الدائرة تمثل الشمس، ولكنها تمثل أيضاً مفهوم الحرارة والوقت المرتبط بها. وبدلاً من إنشاء رموز جديدة، بدأ الكتبة في ضم رمزين أو أكثر لتكوين كلمات أكثر تعقيداً. وبهذه الطريقة، أصبحت الكلمات القصيرة تمثل مقاطع من كلمة أطول ذات معنى آخر، وأصبحت لها قيمة صوتية. وقد اشتمل هذا النظام في البداية على حوالي 1200 رمز.
استخدمت الكتابة لاحقاً في تدوين القوانين؛ وخير مثال على ذلك هو قانون حمورابي، المنقوش بالخط المسماري على شاهدة من البازلت الأسود والمحفوظة الآن في متحف اللوفر. وتتضمن المسلة السجل التشريعي الأول، وتتناول موضوعات مثل السرقة أو الزنا أو القتل. لكن سيتعين علينا الانتظار حتى الألفية الثالثة قبل الميلاد للعثور على أول وثيقة أدبية بحتة: ملحمة جلجامش، وهي القصة الأكادية لأسطورة سومرية تشكل أول مثال للأدب المكتوب في التاريخ.
الاكتشافات الأولى
حدثت الاكتشافات الأولى للكتابة المسمارية في القرن السابع عشر، عندما اكتشف بيترو ديلا فالي بعض الألواح في بقايا مدينة برسيبوليس عام 1621. وفي عام 1700، صاغ توماس هايد، من جامعة أكسفورد، مصطلح “الكتابة المسمارية” للإشارة إلى نظام الكتابة هذا، في إشارة إلى الشكل الإسفيني للحروف. ولكن كان علينا أن ننتظر حتى القرن التاسع عشر (1802) حتى يتم تقديم التفسيرات الأولى لهذه الكتابة. ففي ذلك العام، قدم جورج فريدريش جروتفيند (1775-1853) أول دراسة إلى الجمعية الملكية في جوتنجن، والتي أكملها لاحقاً مؤلفون مثل إميل برنوف.
كان الأمر الأكثر بروزاً هو حالة هنري رولينسون، وهو ضابط في الجيش البريطاني تجرأ في عام 1835 على الوصول إلى منحدر جبال زاغروس (إيران) حيث كان هناك نقشاً ضخماً للملك داريوس الأول مكتوباً بالمسمارية، ومنحوت في الصخر. كانت الأبعاد الهائلة للعمل (ارتفاع 15 متراً، وطول 25 متراً) ووعورة موقعه جعلت من الصعب على أحد الوصول إليه وفحصه. ولم يجرؤ أحد على ذلك سوى رولينسون. كُتب النص بالكتابة المسمارية بثلاث لغات مختلفة: العيلامية، والبابلية، والفارسية القديمة، مما جعل ترجمته أسهل، لأن الأخيرة كانت لغة أبجدية، وبالتالي، أسهل بكثير في التفسير. أما الاثنتان الأخريان فكانت لهما بنية مقطعية، ولهذا السبب تُعرف هذه النقوش باسم “حجر رشيد الفارسي”. ويتفق العلماء على أن رولينسون هو أول من فك رموز الكتابة المسمارية في بلاد ما بين النهرين. بينما تتمثل مساهمته الكبرى في اكتشاف أرقام وعلامات الكتابة المسمارية التي لها قراءات مختلفة اعتماداً على سياقها[3].
ألواح الكتابة المسمارية
كان تنفيذ مهمة كتابة العلامات المسمارية للأغراض الإدارية تتم على يد كتبة مدربين. وقد أدت زيادة المفردات المرتبطة بهذا السجل التجاري إلى انتشار هذا النظام الكتابي في أجزاء أخرى من العالم. وبعد تطور هذه الكتابة أنشأت الحضارة السومرية مدارس لتعلم أصول الكتابة المسمارية. وكان على الكتبة المبتدئين أن يتعلموا صنع ألواح طينية تكون مسطحة من جانب ومحدبة من الجانب الآخر، ثم تعلموا الكتابة عن طريق تقليد ما كتبه معلميهم.
كانت الألواح في البداية صغيرة ومربعة الشكل إلى حد ما، وتحتوي على معلومة واحدة فقط، ومع تعقيد المجتمع والإدارة تطورت الألواح لتصبح أكبر حجماً ومقسمة إلى أعمدة وأعمدة فرعية وخطوط. حيث كان شكلها مستطيلاً، ولها زوايا مستديرة تقريباً. تعلم الكتبة بعض النصوص الرئيسية من معلميهم، بالإضافة إلى بعض التفاصيل الفنية، وأسماء الآلهة والملوك، وبمجرد انتهاء تدريبهم ينتقل الكتبة للعمل في مراكز الخزف، والمنسوجات، وأحواض بناء السفن، ومراكز النقل.
كيفية الكتابة بالخط المسماري؟
كانت طريقة كتابة الرموز المسمارية – في البداية على الأقل – عمودية[4]، مثل الكتابة اليابانية. حيث يضع الكتبة اللوح الطيني في يدهم اليسرى، ويمسكوا الإسفين بيمينهم، بإصبعي الإبهام والسبابة. وقد حد هذا الوضع من الزوايا التي يمكنهم كتابة العلامات بها، اعتماداً على الأوضاع التي يمكن أن تتخذها يدهم اليمنى. ومن ثم يشرعون بالكتابة في الزاوية اليسرى العليا، ومن هناك ينتقلوا إلى الأسفل.
ثم ينتقلوا بعد ذلك إلى الحافة العلوية للعمود التالي لمواصلة الكتابة عمودياً. يفعلون ذلك حتى يملؤوا لوح الطين، ثم يتم قلب اللوح رأساً على عقب عمودياً على طول حافته السفلية. وهكذا تبدأ دورة أخرى من الكتابة في الزاوية اليمنى العليا، بنفس الطريقة السابقة، ولكن باتباع الأعمدة من اليمين إلى اليسار، بدلاً من اليسار إلى اليمين.
استخدامات الكتابة المسمارية
لم تتوقف استخدامات الكتابة المسمارية على الشؤون الإدارية والتجارية فحسب، بل امتدت لتشمل العديد من أنواع الوثائق الأخرى. تختلف هذه الوثائق عن الإدارية في كونها نوعاً أدبياً من الروايات والسجلات والقصص الملحمية، ومن أبرزها ملحمة جلجامش، وأسطورة زيوسودرا، وتشترك كلتا القصتين في ذكرهما لقصة الطوفان العظيم الذي قامت به الآلهة، وهما بمثابة خلفية واضحة لقصة الطوفان العالمي وسفينة نوح التي ذكرت في الكتب المقدسة.
هناك نوع آخر من الوثائق غير الإدارية والأدبية هي الوثائق القانونية التي تحتوي في طياتها على أول مجموعة من القوانين في التاريخ، ولعل أبرزها قانون أورنمو وشريعة حمورابي. كانت شريعة حمورابي[5] هي أول وثيقة مسمارية مكتوبة تم العثور عليها في عام 1901. يعود تاريخ هذه الوثيقة إلى عام 1700 قبل الميلاد، وتعتبر أول كتابة في تاريخ البشرية. تشتمل شريعة حمورابي على مجموعة من القوانين التي سجلها حمورابي ملك بابل على الحجر وتحتوي على القواعد التي تحكم مملكته سواء كانت قوانين البيع والشراء، أو تطبيق القصاص على المجرمين، أو شؤون الجيش وغيرها. الجدير بالذكر أن الملك الآشوري آشور بانيبال كان متيماً بجمع الوثائق المكتوبة؛ ونظراً لذلك عثر علماء الآثار تحت أنقاض قصر سنحاريب[6] على مكتبة تحتوي على ما لا يقل عن 22 ألف لوح طيني مكتوب بالكتابة المسمارية، وتعتبر أكبر مجموعة تم العثور عليها من هذا النوع من الكتابة.
المراجع
[2] What is human language, when did it evolve and why should we care?
[3] The Earliest Contributions to the Decipherment of Sumerian and Akkadian.
[6] Sennacherib’s Palace at Nineveh: The Primary Sources for Layard’s Second Campaign.