الكسل: البحث عن وجود خالٍ من أي تعب

You are currently viewing الكسل: البحث عن وجود خالٍ من أي تعب
هل يحررنا الكسل؟

تدين الأخلاق التقليدية الكسل باعتباره عبئاً وعائقاً أمام المشروع الإنساني. الكسل له حكمته الخاصة. إنه المقتصد الكبير الذي يساعدنا على إدارة حساباتنا من الطاقة بشكل جيد، طالما لم يصبح عادة مستمرة. وهو مثل كل شيء في الحياة يجب أن يكون متوازناً أو كما نصح أرسطو: “كل شيء في توازنه الصحيح هو هبة، ولكن إذا تطرف يصبح رذيلة ويجلب لنا مشاكل أكثر من الحلول”. إن الكسل المعتدل، إذا تم التعامل معه بحذر وذكاء، يعلمنا ألا نهدر الجهود بلا فائدة، وأن نديرها كما تستحق، وألا ندع النشاط الصحي يصبح نشاطاً فائضاً يقوض صحتنا وأرواحنا.

الكسل والمشروع الإنساني

يقول ديموقريطس:

“افعل القليل من الأشياء إذا كنت تريد الحفاظ على مزاجك الجيد”.

الحياة تحدث ببساطة من تلقاء نفسها، تدفعها الاحتياجات والمتطلبات إلى الأمام. وهدفها هو تنفيذ قوانينها الأساسية، ويوماً ما نجد أن الزمن قد حققها. إن الحياة لا تحتاج إلى حدوثها، فهي لا تحتاج إلى اهتمامنا، ولا إرادتنا، ولا رغباتنا أو متطلباتنا، وفجأة نكتشف أننا كبرنا، ونتساءل مذهولين: أين كنا عندما انقضى وجودنا في الحياة؟

تسحبنا الجاذبية لأسفل، في حين تسحبنا الحياة إلى الأمام، وترهقنا وتستهلكنا. إن ثقل الوجود هذا هو ما أسماه سارتر “الواقعية”. ويبدو لنا أنه يعارض مشروعنا الإنساني لأننا نلاحظ جاذبيته في كل مرة نريد أن نفعل شيئاً خاصاً بنا، ولا نستطع أن نفعل شيئاً إذا لم نقاوم هذه الواقعية. لكن الحقيقة هي أن الواقعية ليست مقاومة، بل هي المسار الطبيعي للأشياء. إنه المشروع الإنساني الذي يُبنى بالتمرد عليه، والاضطلاع بالعمل – العقيم في كثير من الأحيان، ولكن لا مفر منه – لعبوره ضد التيار. الحرية هي أن تكون مستعداً لمعارضة تلك الواقعية، مع كل العواقب. فالإرادة لا وجود لها إذا لم تتآمر ضد الواقعية. يشبه الأمر حمامة كانط التي رغبت أن تتخلص من مقاومة الهواء حتى تستطيع الطيران بحرية أكبر، ولكنها نسيت أنه دون وجود مقاومة الهواء لن يكن هناك طيران[1].

متعة الاستسلام

أضرار الكسل
مشكلة الكسل

ولهذا السبب نشعر أن مغامرة الإنسان صعبة ومتعبة. وهذا هو السبب في أن الكسل متعة. متعة الاستسلام، متعة ترك كل شيء يحدث من تلقاء نفسه، الراحة من المهمة الشاقة لإرادتنا، ولكنه أيضاً عدو لمشروعنا. إذا أردت تعليم ابني، عليّ أن أتغلب على الكسل في محاولة وضع حدود له، حتى يتعلم أن يضعها لنفسه. وإذا كنت أرغب في الحصول على أصدقاء، يجب أن أصبر عندما يثقلني هوسهم أو تفاهتهم، حتى الحب يحدث من تلقاء نفسه، ولكن يجب علينا العمل عليه إذا كنا لا نريد له أن يضعف، كما أشار إريك فروم بحكمة.

فإذا كنت أريد أن أشعر بالرضا عن أداء عملي بشكل جيد، فيجب عليّ أن أبذل جهداً للتشكيك في ذلك كل يوم، وأن أجمع أخطائي وأصنفها بعناية كما يفعل علماء الأحياء مع عينات من البِركة، وأن أتصور محاولات جديدة كما يفعل المهندسون، إنها حرب لا نهاية لها. وإذا أردت أن أفهم هذا اللغز من خلال التأمل عليّ أن أبدأ بالتفكير حتى وإن كنت أفضل الاستمرار في النوم.

تعليم ابني والسعي وراء احتياجاته، وتفاهات أصدقائي، وتطوير عملي، وكثافة الأفكار المربكة، كل هذا جزء من الواقعية. يمكنني ببساطة أن اترك كل ذلك وراء ظهري وأتجاهل كل شيء وأطفئ المنبه وأخلد إلى الكسل والنوم، ولكن إذا فعلت ذلك فإنني أخون نفسي، وأهمل مشروعي، وأفشل في قيمي. أنا لا أتخلى عن فعل محدد فحسب، بل أتخلى عن كل ما يتعلق بتنفيذ هذا العمل، وفي هذه الحالة أكون قد تخليت عن ممارسة إرادتي، ومع كل تخلي فإن إرادتي تتضاءل رويداً رويداً.

قيمة العمل

العمل هو أحد أكثر العقائد رسوخاً في المجتمع، ولا يحتاج إلى شرح فالكل يعرفه ويشترك فيه. وقد دعت الكتب المقدس إليه، فإذا نظرنا إلى العهد القديم نجد في سفر التكوين:

بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أُخذت منها. لأنك تراب وإلى تراب تعود[2].

ولكن يمكننا دحض هذا الأمر بسهولة دون مغادرة الكتاب نفسه. حيث يشير لوقا ومتى في العهد الجديد إلى ما يلي:

تأملوا الغربان: إنها لا تزرع ولا تحصد، وليس لها مخدع ولا مخزن، والله يقتاتها. كم أنتم بالحري أفضل من الطيور![3].

وفي آية أخرى:

تأملوا الزنابق كيف تنمو: لا تتعب ولا تغزل، ولكن أقول لكم: إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها[4].

وفي القرآن نجد دعوة صريحة إلى العمل:

وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون[5].

وجميع الكتب السماوية تمقت الكسل وتحبذ على العمل “الجيد”.

كان ينظر إلى العمل في الحضارات القديمة على إنه إذلال، وهذا ما كان عليه أفلاطون وأرسطو، ويتفق معهم العديد من معاصريهم العاطلين عن العمل. ويذكر المنظر السياسي والثوري الفرنسي بول لافارج في عمله الأشهر “الحق في الكسل” قائلاً:

احفظ قوة الذراع التي تقلب حجر الرحى ونم بسلام! أتمنى أن يحذرك الديك عبثاً أنه ضوء النهار.. دعونا نعيش حياة والدينا ولنفرح عاطلين بالعطايا التي تمنحها الآلهة[6].

يقول أفلاطون في كتابه “الجمهورية” قائلاً:

لم تخلق الطبيعة صانعي أحذية ولا حدادين؛ وكل المهن المماثلة تحط من قدر من يمارسها.

الأدب مليء بتلك الدعوات للتخلي عن الذات ووضع النفس في أيدي القدر بحثاً عن وجود خالٍ من كل تعب. وقد سعى الكثير من المحتالين والعاطلين عن العمل في العصور القديمة إلى أن يكونوا أسياداً لكل شيء وفوق كل شيء.

الحق في الكسل

فلسفة الكسل
كتاب الحق في الكسل لبول لافارج

يوضح كتاب “الحق في الكسل” الذي كتبه السياسي بول لافارج – المعروف بزواجه من ابنة كارل ماركس وانتحاره معها – أن اللوم يقع على الحضارة الرأسمالية التي تحالف فيها الكهنة مع الاقتصاديين وعديمي الأخلاق الذين دعوا إلى العمل، وهذا هو سبب كل انحطاط فكري، وكل تشوه عضوي.

الغريب في الأمر أن بول لافارج لم يقدم العمال على أنهم ضحايا أبرياء لهذا التحالف المذكور، بل يدين طبقة العمال المنهكة وغير الواعية إلى الحد الذي جعلهم متواطئين في مصيرهم. ويكرر باستمرار “اعملوا أيها العمال لزيادة ثرواتهم ومآسيكم الفردية.. اعملوا كي تصبحوا أكثر فقراً وبؤساً”. كما انتقدهم في مطالبتهم بالعمل اثنتي عشرة أو أربع عشرة ساعة فقط..

كم من الوقت يجب أن نعمل؟

لقد كان توزيع العمل ومدته من القضايا التي تظهر أن الفلسفة في الشارع. حيث تقوم الأحزاب السياسية بدراستها ودمجها في برامجها. وتعامل بعض الفلاسفة مع هذه الموضوعات وقدموا أرقاماً كثيرة. قال توماس مور في كتابه “اليوتوبيا” أن سكان ذلك المجتمع المثالي قسموا النهار والليل إلى 24 ساعة، وتخصيص ست ساعات فقط للعمل. وهذا هو المكان الذي يذهب إليه اقتراح لافارج: لماذا لا يتم توزيعه بالتساوي على مدى اثني عشر شهراً وإجبار جميع العمال على الاكتفاء بست أو خمس ساعات يومياً طوال العام؟ رغم أنه تحدث في موضع آخر عن العمل ما لا يزيد عن ثلاث ساعات في اليوم وباقي اليوم للتسكع والأكل والكسل.

لكن يبدو أن الرقم أربعة هو الرقم الأمثل بالنسبة للفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل الذي يقول في مقالته في مدح الكسل:

في عالم لا يُجبر فيه أحد على العمل أكثر من أربع ساعات في اليوم، سيكون كل شخص لديه فضول علمي قادر على إرضائه، وسيكون كل رسام قادراً على الرسم دون قلق. والاستخدام الحكيم لوقت الفراغ هو نتاج الحضارة والتعليم.

الكسل والتقدم الحضاري

الكسل والتقدم الحضاري
كيف أفاد الكسل البشرية

يوضح راسل أن التقدم الحقيقي للمجتمع ليس نتاج العمل، كما يظهروه لنا، بل هو نتاج أوقات الفراغ، وهو نوع من أوقات الفراغ النشطة المرتبطة بالرغبات والمصالح الطبيعية للبشر. كان الترفيه في الماضي مرتبطاً بالامتيازات الطبقية لطبقة المرفهة، وعلى الرغم من كل مساوئ الترفيه إلا أنه ساهم تقريباً في كل شيء نسميه حضارة. صقل الفنون، واكتشاف العلوم، وتأليف الكتب، وابتكار الفلسفات، وصقل العلاقات الاجتماعية حتى تحرير العبيد والدفاع عن المظلومين بدأ بشكل عام من أعلى، ولولا طبقة الترفيه، لما خرجت البشرية من البربرية والهمجية. لقد كانت العبودية واحدة من تلك الهمجية، وهو ما يثير السؤال الكلاسيكي: هل كان من الممكن أن تحقق هذه الحضارات المجيدة إنتاجها الحضاري والفكري لو لم تكن العبودية موجودة؟

الكسل أفضل ترياق

الكسل ليس سيئاً، بل هو جيد جداً في بعض الأحيان. إنه ليس سيئاً من حيث الاستسلام والتخلي، وهو جيد لأنه يعلمنا حدودنا، ويساعدنا على تحملها، ويجبرنا على الراحة عندما نبالغ في تطلعاتنا إلى المستحيل. الكسل هو ملجأ ناعم ورقيق في فترات ما بعد الظهر أوقات الهزيمة والخسارة، إنه المكان الذي نلتقي فيه مرة أخرى بمقاييسنا الحقيقية، وبمكاننا الحقيقي، نحن الذين نظرنا إلى أنفسنا على أننا قادرون على كل شيء.

يذكرنا الكسل بأن كل ادعاءاتنا تقريباً تحتوي على شيء مبالغ فيه ووهمي، وأنه على المدى الطويل سينتصر العالم علينا دائماً، مثل القلاع التي بنيناها على رمال البحر، فعندما يرتفع المد تنهار كل هذه القلاع في لحظة. الكسل يعيدنا إلى حالة الخسارة، فهو استسلام هادئ للحدود، وعودة دافئة لسلام القيلولة، عودة للوقت المسموح له بالمرور هباءً، عودة لاستسلامنا بلطف أمام المستقبل. إنه يخلق طبقة رقيقة وناعمة من التفاهم والتسامح مع العالم. الكسل هو عدو الأنا الفائضة، والغطرسة المفرطة، والاستبداد الصارم لعنادنا على البيئة البريئة. إن الكسل يهدئنا، ويوحدنا، ويروّح عنا، ولهذا فهو أفضل ترياق ضد التعصب والتعسف المسعور.

يحمل الكسل في طياته الكثير من البهجة والفرح والحكمة، ولكن يجب عليك أن تدفع ثمنه. فالاستسلام له يعني التخلي عن إرادتك، وإذا أصبح عادة فهو يؤدي إلى تآكل جميع العادات الأخرى ولن يسمح لها بالتطور والازدهار. قام سكان كونيغسبرغ بضبط ساعاتهم على موعد مرور الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. قد يبدو لمعظمنا أن الفيلسوف كان صارماً للغاية في مواعيده وعمله، ولكن ربما بدون هذا النظام الصارم لم يكن ليتمكن من وضع أعماله العظيمة التي تركها لنا. فإذا انتهى الكسل إلى سدة الحكم، فسيسرق مشروعنا ويؤسس إمبراطورية الواقعية، التي قلنا إنها عكس المشروع الإنساني.

الاحتراق بلهب سريع

سلوكيات بشرية
لا ضرر ولا ضرار

يمكن أن يحدث الضرر من الكسل عندما نُهمل ما يحتاجه أو يتوقعه الآخرون، وعندما نفشل في الوفاء بمسؤولياتنا أو بوعودنا. يؤدي بنا الكسل إلى الخسارة أو التسبب في الخسارة. فماذا سيكون الحال إذا أهملت الأم في رعاية أطفالها؟ وماذا يحدث عندما نهمل من نحب؟ وكيف سيكون حالنا إذا أهملنا نظافتنا؟ يقول أحد الحكماء “نحن كائنات العمل والمهام، نحن المستكشفون والغزاة، لقد خلقنا للرغبة والبحث والبناء”. وقال كانط: “من لا يعمل يشعر بالملل”. فكيف يمكن أن نحصل على الكسل دون الشعور بالملل أو الحزن؟ لا يمكن ذلك. فلا يمكننا أن نخوض رحلة دون طاقة، فالكسل هو دودة تقوض ركائزنا، وتذيب محاولاتنا، وتعطل رحلتنا. ومن الجيد أن نستسلم له من وقت لآخر؛ ومن السيئ ألا نتمكن من الهروب منه عندما يكون ذلك مناسباً، أو عندما نريد.

يقول جان جاك روسو أن مواجهة الكسل والتغلب عليه تحتاج إلى الإصرار والمثابرة، وهي فضائل، ومثل كل الفضائل يجب أن تكون ذكية. فليس كل شيء يستحق جهدنا، يجب علينا أن نتعلم كيفية التمييز بين ما يستحق الجهد حقاً وما لا يستحقه. أولئك الذين يتنافسون في الألعاب الرياضية يعرفون ذلك جيداً، حيث يتعين عليهم أن يتعلموا توفير طاقتهم في بعض الأحيان لاستخدامهما عندما تكون هناك حاجة إليها. معظم مشاريعنا عبارة عن سباقات لمسافات طويلة؛ لذا يجب علينا تجنب الاحتراق بلهب سريع جداً حتى لا ينتهي بنا الأمر إلى التحول إلى رماد بسرعة.

بدون عجلة وبدون توقف

لكي يكون للحياة لون، لا بد من العاطفة؛ ولكن الإفراط في العاطفة يمكن أن يسلب حياتنا. والحماسة المفرطة تؤدي إلى انخفاض المثابرة، ولن تكن لها قيمة أكبر. تقول الحكمة:

بدون عجلة، وبدون توقف.

أو كما يقول بوذا:

إذا شددت الخيط قليلاً، فلن يُصدر صوتاً، وإذا شددته أكثر من اللازم سينقطع.

إن المثابرة الصبورة ستفعل لمشاريعنا أكثر بكثير من الحماسة المفرطة، يقول كونفوشيوس:

إن من يعرف كيف يسيطر على نفسه يشبه النجم القطبي، الذي يبقى في مكانه وكل النجوم تدور حوله.

في مسرحية “موزارت وسالييري” لبوشكين، عاتب سالييري الله لأنه لم يكافئ تفانيه المطلق في الموسيقى وتضحياته العظيمة طوال حياته. لكنه لم يدرك أن ما فقده حقاً هو ما تركه على طول الطريق. كان من الأفضل له أن يتمشى من وقت لآخر، أو ينغمس في محادثة لطيفة غير مهمة مع صديق، أو يغازل فتاة، أو يأخذ قيلولة. ففي بعض الأحيان عليك التضحية من أجل الذهاب بعيداً، ولكن عليك أن تكون حريصاً على عدم التضحية بنفسك. يمكن أن يساعدنا الكسل في موازنة هذه التجاوزات. والمثابرة يمكن أن تنقذنا من الكسل. إن الحياة مصنوعة من إيقاعات، والحكمة تتمثل في تعلم الرقص عليها.

السيطرة على الكسل

فلسفة العمل
أهمية العمل في حياة الإنسان

يخبرنا الكسل عن دوافعنا الحقيقية التي تستحق العناء. إنه تمرد على الالتزامات المفروضة علينا بشكل تعسفي – والتي نفرضها نحن أيضاً على أنفسنا، مدفوعين بالطموح. لذلك فهو ثقل موازن للإنتاجية التي تختزلنا إلى آلات أو أدوات، وهو تذكرة بأن الحياة الطيبة قصيرة وبسيطة. يحلم الكسلان بالمتع الصغيرة، وفترات الراحة الممتعة، والساعات الحلوة المخصصة لعديمي الفائدة وغير المنتجين.

إذا كان علينا أن نتعلم السيطرة على الكسل، فذلك حتى لا يفقدنا الكسل المفرط انعدام التوازن، فالحياة أيضاً مهمة، أو كما قال الفيلسوف الإسباني خوسيه أورتيجا:

يتكون المشروع الإنساني أيضاً من أهداف وجهود، وبدونها يمكن أن ينتهي بنا الأمر إلى عدم معرفة ما نحن عليه أو ما نفعله، أو الأسوأ من ذلك، يمكن أن نقع في اللامبالاة المطلقة والملل، وهو في حد ذاته جحود ونكران للجميل أيضاً.

يؤدي الكسل إلى الملل وهذا الأخير هو أرض خصبة للانحرافات، ولقد اعتبره بودلير أنه أسوأ شر للإنسان. لذا عليك أن تعرف ما يجب فعله وما لا يجب فعله؟

أسوأ الشرور

ولكن لماذا يجب أن يشمل الإنجاز البشري العمل؟ ألا يكفينا الطعام الجيد، والنزهات الممتعة بصحبة، والأحلام الهادئة، كما أراد الأبيقوريون؟ لا، هذا لا يكفي، وقد أخذ أبيقور نفسه هذا في الاعتبار، حيث كان يذهب مع تلاميذه كل صباح للعمل في الحقول، وكان لكل شخص مهمته، لأنها أيضاً حاجة الإنسان لأن يشعر بأنه مفيد ومنتج، وأن يخلق المشكلات ويواجهها لإيجاد الحلول، وأن يكون لديه مشاريع ويسعى إلى تحقيقها.

يعطينا سبينوزا المفتاح: يجب نشر القوة البشرية حتى تصبح واعية بذاتها وتصبح فرحة، لأن من يجرب قوته الخاصة، يفرح. ويجب أن يكون الكسل شريكاً في تلك السلطة، وينبغي إدارته والتأكد من اعتداله، وتوجيهه نحو ما هو مهم، أما إذا أصبح الكسل عائقاً لأفعالنا المهمة، فهو يعمل ضدنا وليس لصالحنا.

إن الوقوع في مستنقع الكسل هو من أسوأ الشرور التي يمكن أن تلحق بحياة الإنسان، وقد أطلق الرهبان في العصور الوسطى على هذا الموقف الخامل والمهجور مللاً، وكانوا يخشونه لقدرته على تقويض الحماس والمعنى. فهذا الموقف يتوافق مع مزاج مكتئب وممل وضبابي وحزين في النهاية. ونحن نرى ذلك بوضوح عند الأطفال، فعندما لا يجدون ما يفعلونه سرعان ما ينتهي بهم الأمر إلى الحزن والبكاء.

حياة بلا معنى

معنى الحياة
كيف تكون الحياة بلا عمل

لكن على العكس من ذلك فإنسان اليوم الذي اعتاد على العمل المستمر والتحفيز الدائم، لا يتحمل التوقف، ولا يعرف ماذا يفعل بالوقت ويصيبه الملل سريعاً، وهو ما يقوده إلى الإحباط واللامبالاة التي يمكن أن تؤدي إلى الاكتئاب والأنشطة اليائسة المدمرة للذات مثل الإدمان. يتعلق الاكتئاب والإدمان بعدم قدرتنا على الاستمتاع بالكسل وما يجلبه من ملل. ويبدأ الشخص في البحث عن محفزات مصطنعة لأنه فقد الأهداف والقوة التي يجدها في نفسه بطريقة بناءة. إذا نظرنا إلى بعض الأمثلة في حياتنا المعاصرة نجد مثلاً أن كثيراً من الناس عندما يفقدون وظائفهم، يغرقون في حالة من الاكتئاب الذي يمنعهم من استغلال ذلك الوقت في أشياء أخرى، أو الاستعداد بصبر لاحتمال مهنة جديدة. وبطبيعة الحال، في هذه الحالات، فإن فقر الأهداف في الحياة يؤدي إلى الافتقار إلى الخيال لتصور أهداف جديدة.

يغرق الإنسان عندما تُفرغ الحياة من المعنى، من العمل، من المهام، ولهذا السبب من المهم أن يكون لديك دائماً شيء تفعله، وإذا لم يكن الأمر هناك شيئاً، عليك أن تخترعه. وقد يكون الطريق للخروج من مستنقع الإدمان في العثور على محفزات جديدة تحفزنا ونكرس أنفسنا لها بنشاط مثل وظيفة مرضية، نشاط فني، التعاون في جمعية خيرية، ولهذا السبب فإن الكسل بجرعة سيئة يمكن أن يجرنا إلى اللامعنى والارتباك. وعند هذه النقطة يكون الكسل عدونا ويسحبنا إلى الأسفل، وفي هذه الحالة يتعين علينا أن نبذل جهداً لمعارضته، حتى لا نسمح لأنفسنا بالانجراف في هذا الطريق.

نحن بحاجة إلى الراحة، نحتاج إلى تكريس أنفسنا للأشياء التي لا فائدة منها مثل لعب الورق، النوم أمام التلفزيون، قراءة الشعر، الدردشة بلا هدف. بل نحتاج إلى عدم القيام بأي شيء، والشعور بالملل قليلاً، والسماح للعقل بأن يتجول في الذكريات القديمة أو الأحلام المستحيلة. يجب أن نعطي إرادتنا استراحة، يجب أن نفعل الأشياء من أجل متعة القيام بها، يجب علينا أن نضع حداً للالتزامات التي تفرضها علينا حياتنا المثقلة كنمل عامل في خدمة الملكات.

مجتمع التعب

يصف الفيلسوف بيونج تشول هان هذا المجتمع الذي نعيش فيه بمجتمع التعب، ويقول إننا حيوانات عاملة نتشارك في فرط النشاط وفرط العصاب، ولا نستطع أن نحتمل فراغ الخمول والكسل لأننا نخشى أن نجد فيه فراغ أنفسنا. فالإنسان في عصر الحداثة وما بعد الحداثة يعمل كثيراً وينتج كثيراً ويحقق الكثير، ويتضمن فرط النشاط هذا أوقات الفراغ المفترضة، فإذا لم تخرج لتناول مشروب في حانة ليلة السبت، أو لم تذهب لتناول العشاء في منزل أحد الأصدقاء، وإذا شاهدت فيلماً على التلفزيون أو قرأت كتاباً، فستكون عطلة نهاية الأسبوع الخاصة بك قد مضت هباءً، لقد فقدت جزءاً من حياتك إذا لم تذهب في الإجازة الأخيرة في رحلة واقتصرت على المشي في الحديقة.

يطلب منا هذا المجتمع ألا نجلس مكتوفي الأيدي، وأن ننتقل من هنا إلى هناك، ولا نتوقف عن القيام بأشياء كثيرة. يقول هان:

ينتج عن مثل هذا المجتمع تعب وإرهاق مفرط، ويتسبب في فراغ وجودي خاص، لا يقل عن فراغ الكسل المطلق، وهو ما يتجلى في التوتر والاكتئاب الذي يصيب معظمنا.

ينصحنا هان بالتمرد على هذا الوضع، وربما يساعدنا الكسل فيما يسمى “التعب الأساسي” حيث يجب الاعتراف أولاً بأننا متعبون، ثم نأخذ حرية الراحة”. ويقدم لنا الوصفة السحرية لإشراق الروح، فيقول إن علينا أن نشعر وكأننا متجولون، أو نخرج إلى الطرقات لرؤية العالم، أو نتوقف للتأمل في المناظر الطبيعية والتفكير في جمالها، أو الشعور بمعجزة وجودنا هنا على هذه الأرض. وهذا هو ما تقترحه التقاليد القديمة للحياة التأملية في مواجهة الاضطراب الإنتاجي. فهل هناك أي شيء أقل إنتاجية وأكثر راحة من التأمل؟ لكننا لا نجد الوقت أبداً، تماماً كما لا نجد الوقت للاتصال بصديق قديم أو للجلوس واللعب مع أطفالنا. لا يتطلب منا سوى القليل من التمرد الكسول الذي يساعدنا على الوقوف في وجه النشاط المهووس لعصر الرأسمالية.

هوامش

[1] نقد العقل الخالص – إيمانويل كانط.

[2] الكتاب المقدس – العهد القديم – سفر التكوين (3:19).

[3]  إنجيل لوقا (12: 24).

[4] إنجيل لوقا (12: 27).

[5] القرآن الكريم – سورة التوبة – الآية 105.

[6] الحق في الكسل – بول لافارج.

المراجع

1.    Author: Jacob T. Snyder, (07/31/2021), Defending Uselessness: Rousseau’s Harmless and Happy Idleness, www.journals.sagepub.com, Retrieved: 04/30/2024.

2.    Author: BYUNG-CHUL HAN, (06/30/2015), The Burnout Society, www.sup.org, Retrieved: 04/30/2024.

3.    Author Pierre Saint-Amand, (05/29/2011), The Pursuit of Laziness: An Idle Interpretation of the Enlightenment, www.press.princeton.edu, Retrieved: 04/30/2024.

4.    Author: Tad Brennan, (06/28/2005), The Lazy Argument, www.academic.oup.com, Retrieved: 04/30/2024.

5.    Author: Bertrand Russell, (10/05/1932), In Praise of Idleness, www.harpers.org, Retrieved: 04/30/2024.

 

اترك تعليقاً