التحنيط عند الفراعنة: الطريق إلى العالم الآخر
كانت الحضارة المصرية القديمة واحدة من أكثر الحضارات المثيرة للاهتمام في التاريخ. ويشهد على ذلك التنظيم الاجتماعي والمعتقدات الدينية والآثار العملاقة، ومن بين الأشياء الكثيرة التي تلفت الانتباه إلى عادات هذا الشعب القديم يبرز التحنيط في مصر القديمة كواحد من الألغاز المثيرة للدهشة. فبفضل هذه التقنية الغريبة يمكننا الآن التعرف على عدد كبير من الشخصيات التاريخية التي كانت تعيش في ذلك الوقت، والتي حولتها هذه التقنية إلى أساطير. في السطور التالية نسافر معاً في رحلة عبر الزمن لنتعرف على أسرار التحنيط عند الفراعنة.
أهمية التحنيط في المجتمع المصري
هناك العديد من عادات مصر القديمة التي استطاعت أن تفاجئ الباحثين وتذهلهم في عصرنا الحديث. ويكفي أن نتذكر كيف نقلوا عالم الفرعون كله إلى القبر عندما مات، ليكون مرتاحاً في الحياة الآخرة. أو كيف كانوا يعبدون القطط كحيوانات مقدسة. لكن من بين كل هذه الأمور ربما يكون التحنيط عند الفراعنة هو الأكثر أهمية. فلقد وصل هذا الإجراء إلى مستوى لم يسبق له مثيل في الثقافة المصرية.
ساهم التحنيط عند الفراعنة على تمتع أعظم الفراعنة المصريين بالخلود، بفضل مجموعة من التقنيات الرائعة والسرية جنباً إلى جنب مع سلسلة من الطقوس، القادرة على إضفاء السعادة على أرواحهم في الدوات – العالم الآخر في الأساطير المصرية القديمة – وعلى أجسادهم المحنطة كذلك. فالمومياوات المصرية كانت بمثابة حفظ للجسم المقدس سواء للفراعنة أو الشخصيات التي تمتعت بالنفوذ والسلطة في ذلك المجتمع. وقد أصبحت التقنيات المستخدمة في عملية التحنيط معقدة للغاية لدرجة أنه بعد آلاف السنين، لا تزال الجثث محفوظة بشكل مذهل كما كانت منذ آلاف السنوات.
أصل التحنيط عند الفراعنة
كان التحنيط عملية دقيقة ومميزة للطائفة الكهنوتية العليا. فالمومياوات المصرية، كما نعلم، لا تنتمي إلى المجتمع العام، بل تنتمي إلى أعلى قممه. وعندما تموت شخصية عالية المقام تبدأ الأسرة بأكملها سلسلة من طقوس الأجداد. حيث تشرع النساء في العويل تماماً كما كانت تفعل إيزيس ونفتيس في الأساطير القديمة. ثم تتم التضحية بسلسلة من الحيوانات، وتطهير الأطفال، وبالطبع استدعاء المحنطين، وهي تجارة مشهورة تنتقل من الأب إلى الابن.
كانت أولى خطوات التحنيط في مصر القديمة هي تسليم الجثة إلى القائمين على عملية التحنيط. ويجب أن يفعلوا ذلك في حضور صانع هذه العملية المقدسة العظيم: أنوبيس، الإله المظلم لمدينة الموتى والمسؤول عن إرشاد روح الموتى إلى العالم الآخر: دوات.
كيف كانت عملية التحنيط عند الفراعنة؟
تبدأ عملية التحنيط بتعطير الميت ثم عمل شق في الجانب الأيسر من الجسم لاستخراج الأحشاء. كان هذا ضرورياً لتجنب فساد الجسم، ولهذا السبب أيضاً تُستخرج الدماغ باستخدام قضبان خاصة يتم إدخالها من خلال الأنف، ولكن ليس قبل إدخال سوائل خاصة لتسهيل هذا الاستخراج المعقد.
يقوم المحنطون بعد ذلك باستخراج أحشاء المومياوات المصرية المستقبلية. ولابد من تلاوة سلسلة من الدعوات على كل عضو مستخرج أثناء تنفيذ هذه المهمة الصعبة. أما الخطوة التالية في عملية التحنيط المصرية هي ملء تجويف البطن والصدر بزيوت وراتنجات الميموزا والعود، والعصائر الخاصة، والمر، والقرفة، والشمع المذاب، والتوابل المتنوعة. إنها مجموعة كاملة من الأطعمة الطبيعية التي يتم بها التخلص من أي شوائب من جسد المتوفى، وبالتالي تجنب تحلل الجسد.
تكتمل هذه العملية بإدخال ملح النطرون، وهو نوع من الكربونات أو الكبريتات التي تمتص سوائل الجثة لتجف تماماً. ولهذا كان علينا أن نضيف خصائص المناخ المصري نفسه، حيث أن الرياح الجافة تساعد في جفاف الأجساد. وفي بعض الأحيان كان يكفي ترك الجثث لفترة في الصحراء لتحدث هذه العملية من تلقاء نفسها.
في المرحلة التالية تترك جثث المومياوات المصرية دون إزعاج لمدة أربعين يوم بعد لفها بعناية بألياف الكتان. ومن أجل إكمال رمزية التحنيط المصري، توضع جواهر صغيرة مثل الجعران الذي يمثل ولادة جديدة لحياة جديدة.
ماذا يحدث للأحشاء والأعضاء؟
بعد أن تعرفنا على مراحل عملية التحنيط في مصر القديمة، فإن السؤال المثير للفضول أكثر هو ماذا يحدث للأحشاء والأعضاء التي استخرجت من الجثة؟ بعد انتهاء عملية التحنيط تتلقى الأحشاء والأعضاء معاملة خاصة جداً. حيث تُغسل بنبيذ النخيل والتوابل، ثم ترسب فيما يسمى الأواني الكانوبية، وهي أوعية ثمينة مصنوعة من المرمر أو الديوريت أو الفخار أو الحجر الجيري، هي ترمز للآلهة الجنائزية.
لم توضع جميع الأعضاء المستخرجة من الجثة كلها في وعاء واحد، بل يجب أن تكون أربعة أوعية لكل عضو وعاء منها. على سبيل المثال وعاء للمعدة ووعاء للرئتين ووعاء للكبد وآخر للأمعاء. أما بالنسبة للقلب فلا يستخرج من الجثة. حيث ساد الاعتقاد بأن القلب هو مقر روح الإنسان، ولذلك يترك بداخل الجثة.
الأواني الكانوبية
كانت الأواني الكانوبية في البداية وبالتحديد في العصور القديمة ذات أغطية عادية بلا نقوش أو رسومات، ومع دخول العصور الوسطى ظهرت النقوش والرسومات عليها، كما ظهرت أغطية على شكل رؤوس بشرية. وفي العصور الحديثة صنعت الأغطية على شكل أبناء حورس الأربعة حابي وامستى ودوموتيف وكبحسنوف باعتبار أن كل ابن حارس على عضو معين.
كان وعاء حابي عبارة عن رأس قرد وكان مسؤول عن حراسة الرئتين، أما وعاء امستي على الحاوية التي ترسب فيها الكبد. وكبحسنوف برأس صقر على حاوية الأمعاء، وأخيراً دوموتيف على شكل رأس بن آوي على حاوية المعدة. ثم توضع بعض المواد التي تمنع تحلل هذه الأعضاء، وتترك بجانب المومياء.
ولم يكن يقتصر هذا التكريم على البشر فحسب، بل كان من الشائع أيضاً تحنيط الحيوانات المقدسة في الثقافة المصرية القديمة مثل القطط أو الثيران أو التماسيح وأبو منجل.
في الختام لا يسعنا سوى القول بأن هناك العديد من الرموز الثقافية التي تختبئ وراء التحنيط في مصر القديمة. ولا شك أن هذه الثقافة مليئة بالتفاصيل الرائعة التي تستحق التركيز عليها. ويكفي أنها كانت واحدة من أعظم الحضارات في تاريخ البشرية.
المراجع
1. Author: Maxime Rageot, Ramadan B. Hussein, Susanne Beck, Victoria Altmann-Wendling, Mohammed I. M. Ibrahim, Mahmoud M. Bahgat, Ahmed M. Yousef, Katja Mittelstaedt, Jean-Jacques Filippi, Stephen Buckley, Cynthianne Spiteri & Philipp W. Stockhammer, (02/01/2023), Biomolecular analyses enable new insights into ancient Egyptian embalming, www.nature.com, Retrieved: 02/20/2024. |
2. Author: Katie Hunt, (02/01/2023), Discovery of embalming workshop reveals how ancient Egyptians mummified the dead, www.edition.cnn.com, Retrieved: 02/20/2024. |
3. Author: Nick Petrić Howe & Benjamin Thompson, (02/01/2023), How mummies were prepared: Ancient Egyptian pots spill secrets, www.nature.com, Retrieved: 02/20/2024. |
إذن لم يعد التحنيط سر كما يصوره البعض
نعم لم يكن التحنيط سراً، لكن طريقة حفظ الجثث كانت العملية الأهم