فلسفة

فلسفة بارمنيدس: لا يولد شيء من لا شيء

بارمنيدس هو فيلسوف يوناني عاش قبل 500 عام تقريباً قبل الميلاد؛ وقد كان من فلاسفة الإغريق الذين سمعنا عنهم قبل عصر سقراط. وينسب إليه بداية الصراع بين فلسفة الوجود وفلسفة الصيرورة. في هذا المقال نخوض سوياً رحلة داخل عقل هذا الفيلسوف للتعرف على فلسفة بارمنيدس.

من هو بارمنيدس

ولد بارمنيدس في مستعمرة إيليا اليونانية بجنوب إيطاليا. أما تاريخ ولادته فلا يعرف على وجه التحديد إلا أن أقرب التقديرات تشير إلى إنه ولد في القرن السادس قبل الميلاد. ويقال إنه كان تلميذا لأكسانوفان فتأثر به وسار على خطاه في مذهب وحدة الوجود. وقد حظي بارمنيدس بتقدير أفلاطون للدرجة التي جعلت هذا الأخير يهديه إحدى محاوراته التي أطلق عليها اسمه “بارمنيدس”. بينما كان بارمنيدس أحد أشهر الفلاسفة الذين عرفوا باسم الفلاسفة “الإيليين” نسبة لموطنهم في مستعمرة إيليا. وقد ترك لنا كتابه “في الطبيعة” وهو عبارة عن قصيدة شعرية احتوت على أفكاره الفلسفية.


فلسفة بارمنيدس

كان فلاسفة الطبيعة؛ وعلى وجه التحديد فلاسفة ملطية الثلاثة يعتقدون أن أصل العالم مادة أولية واحدة فحسب هي التي نشأ عنها كل الوجود. وقد اختلفوا فيما بينهم في تحديد هذه المادة؛ لكن السؤال الأهم الذي لم يستطيعوا الإجابة عليه هو” كيف يمكن لمادة واحدة أن تتحول فجأة إلى شيء مختلف عنها تماما؟ ونستطيع أن نطلق على هذا السؤال مشكلة التغير.

ومن هذه المشكلة أو السؤال تبدأ فلسفة بارمنيدس. حيث إنه واحد من الفلاسفة الذين انصرفوا إلى مناقشة هذه المشكلة. يرى بارمنيدس أن كل ما هو موجود قد وجد دوما من قديم الأزل. وكما نعرف جميعاً أن هذه الفكرة لم تكن جديدة على أهل اليونان فلقد شاع التصور الذي يقول بأن كل ما هو موجود في العالم خالد أبدي. وكان بارمنيدس يقول: لا يولد شيء من لا شيء. كما أن الشيء الموجود لا يمكن بدوره أن يتلاشى في العدم.

نظرية التغير في فلسفة بارمنيدس

مضى بارمنيدس بهذه الفكرة إلى أبعد مدى ممكن. حيث وصل إلى إنكار حدوث أي تغير حقيقي في العالم. فالتغيير لديه هو أن يستجد شيء لم يكن له وجود من قبل. وهو يعتقد بأن كل شيء قديم منذ الأزل. ومن المستحيل إذن أن يوجد شيء ثم يصبح شيئاً آخر غير ذاته. لكن التحولات والتغيرات هي السمة الأساسية في الطبيعة؛ فهي تتحول إلى الابد وهذا الأمر يدركه بارمنيدس نفسه من خلال حواسه. لكنه لم يستطيع أن يوفق بين ما يدركه بحواسه وما يقوله عقله الذي ينكر التغير ويرفضه. ومن هنا جعله الاختيار بين حكم الحواس والعقل إلى اختيار حكم العقل.

خداع الحواس

كانت الحجة الرئيسية التي ارتكنت إليها فلسفة بارمنيدس هي أن الحواس خادعة وتعطينا صورة كاذبة عن العالم، وهي صورة لا تتفق بأي حال من الأحوال مع ما يمليه العقل، أما دوره كفيلسوف فهو أن يسلط الضوء على خداع الحواس بكل أشكاله. فالعقل ينكر إمكانية التحول وبالتالي فالتحولات التي تدركها الحواس خادعة وغير حقيقية. لذا فإن هذا الإيمان الشديد والثقة بالعقل الإنساني يسمى العقلانية. فالعقلاني هو من يرى العقل الإنساني هو المصدر الرئيسي لمعرفتنا بالعالم.

من عدم الوجود إلى الوجود

نقطة البداية في منطق بارمينيدس هي الافتراض البسيط بأن الكون موجود. وبما أن الكون موجود فهو بالتالي لا يمكن أن يتطور من حالة عدم الوجود إلى حالة الوجود. بعبارة أخرى، لا يمكن لشيء ما أن ينبثق من لا شيء. يقول بارمينيدس بأن الاستنتاج المنطقي الوحيد هو أن الكون وكل ما بداخله يجب أن يكون موجوداً دائماً.

باستخدام نفس المنطق، يجادل بارمينيدس بأن الحاضر موجود. المستقبل والماضي من ناحية أخرى غير موجودين في الوقت الحاضر. وبالتالي، يترتب على ذلك أن المستقبل لا يمكن أن يصبح حاضراً أبداً (لا يمكن لحالة عدم الوجود أن تظهر إلى الوجود). وبالمثل، لا يمكن للحاضر أن يحول نفسه إلى الماضي (لا يمكن للوجود أن يتخذ شكل عدم الوجود). لذلك لا يمكن للكون أن يوجد إلا في الوقت الحاضر. إذا قبلنا الاستنتاج بأنه لا يوجد ماض أو مستقبل، فسيترتب على ذلك أيضاً أنه لا يمكن أن يكون هناك شيء اسمه التغيير.

لتوضيح الأمر ببساطة، يستخدم بارمينيدس منطقه المنطقي لرفض مفهوم الوقت بأكمله. فبدلاً من كون ديناميكي يولد ويتطور ويموت، ينظر بارمينيدس إلى الكون على أنه وحدة دائمة، ثابتة، وغير قابلة للتجزئة.

اقرأ أيضًا: فلسفة هيراقليطس: كل الأشياء في تغير مستمر

استنتاجات منطقية في فلسفة بارمنيدس

قد تبدو الاستنتاجات التي توصل إليها بارمينيدس بعيدة المنال للغاية، ومضادة للحدس، ويصعب قبولها بشكل عام. فكل ما علينا فعله هو أن ننظر حولنا لنرى الكثير من الأدلة التي تتعارض مع مزاعمه. فكر في أمواج المحيطات التي تضرب الشاطئ بلا كلل أو بخار الماء الذي يرتفع إلى السماء، ويشكل الغيوم ويتساقط مرة أخرى على شكل مطر. في الواقع، يبدو أن كل شيء في الطبيعة في حالة تغير مستمر. ببساطة لا يوجد أي أثر لهذا الكون الثابت الذي لا يتغير والذي يتحدث عنه بارمينيدس.

لقد كان بارمينيدس مدركاً جيداً لهذه المفارقة. وقد قاده تفكيره المنطقي إلى استنتاج مفاده أن التغيير مستحيل، ومع ذلك استمر في تجربة التغيير في كل مكان من حوله. ومع ذلك، لكونه عقلانياً، اعتقد بارمينيدس أن السبب، وليس الخبرة، هو الذي يجب أن يكون مصدر المعرفة الرئيسي لدينا. وقد قاده ذلك إلى استنتاج أن حواسه كانت تخدعه وأن أي تغيير قد نشهده يجب أن يكون مجرد وهم.

قد يبدو الأمر مذهلاً، لكن العديد من علماء الفيزياء المعاصرين قد توصلوا بالفعل إلى استنتاجات قريبة بشكل مخيف من ادعاءات بارمينيدس منذ حوالي 2500 عام. حيث نذكر أن ألبرت أينشتاين نفسه جادل بأن الوقت ليس له وجود مستقل، ولكنه يشكل بعداً رابعاً في سلسلة متصلة من الزمكان، حيث يتعايش الماضي والحاضر والمستقبل.

تخيل مشاهدة فيلم. فنحن نرى حركة وأحداثاً تتكشف واحدة تلو الأخرى، لكن في الواقع، يظل الفيلم نفسه على حاله تماماً، مع بدايته إلى نهايته وكل شيء موجود بالفعل. وبالمثل، فإن بارمينيدس والفيزيائيين ذوي التفكير المماثل قد يجادلون بشكل أساسي بأنه من وجهة نظرنا الذاتية فقط نشعر وكأن الأشياء تتغير، في حين أن التغيير على المستوى الأساسي لا يمكن أن يحدث.

اقرأ أيضًا: فلسفة أنبادوقليس ونظرية العناصر الأربعة في الفلسفة

الميتافيزيقيا عند بارمنيدس

كان التأثير الأكبر في فلسفة بارمنيدس على الميتافيزيقا – دراسة المبادئ الأساسية للواقع والوجود – في تأسيس حججه على المنطق. حيث يعتبر أنه “أب” الميتافيزيقيا. ووفقاً لبرتراند راسل الذي يقول في كتابه (في تاريخ الفلسفة الغربية):

ما يجعل بارمنيدس مهماً تاريخياً هو أنه اخترع شكلاً من أشكال الحجة الميتافيزيقية، بشكل أو بآخر، حيث يمكن العثور على أفكاره في معظم الميتافيزيقيين اللاحقين وصولاً إلى هيجل. وغالباً ما يقال إنه اخترع المنطق، لكن ما اخترعه حقاً كان ميتافيزيقيا قائمة على المنطق.


في النهاية ندرك أن بارمنيدس قد اقترح ثلاث أفكار رئيسية في الفلسفة. فهو أسس الميتافيزيقا من خلال تأسيس مفاهيم مجردة باستخدام المنطق بدلاً من الخرافات والأساطير. كما اقترح أنه لا يوجد تغيير لأن كل شيء موجود. كما اقترح مفهوم الواحد، وهو شكل من أشكال الوحدانية.

اقرأ أيضًا: قصة فلسفة أرسطو من البداية إلى النهاية

المراجع:

  • فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط – أحمد فؤاد الأهواني.
  • تاريخ ما قبل التاريخ – عبد الله حسين.
  • قصة الفلسفة اليونانية – زكي نجيب محمود.
  • نظرة في تاريخ الفلسفة اليونانية – علي بوسلمان الجبيلي.
  • تاريخ الفلسفة: من قبل سقراط إلى ما بعد الحداثة – إبراهيم الزيني.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

‫2 تعليقات

  1. في الحقيقة أنا بارمانيدسي من زمان من قبل أن أتعرف على بارمانيدس ولا أرى لما وراء هذا الوجود وجودا آخر ( الوجود موجود في وحدة متكاملة متوازنة واللاوجود غير موجود كما يقول بارمانيد س نفسه لكن أرى – مع الأسف_في ما أرى بعض التاقض في فكر بارمانيدس حين تقولون عنه كما يقول بارتراند رسل أيضا بأنه يؤمن بوجود الميتافيزيقا أو يؤسس لها في حين أن الميتافيزيقا لا وجود لها أبد ا كما أرى .

  2. ما تتحدث عنه هو جزء صغير في فلسفة بارمنيدس الميتافيزيقية.. وهذا الجزء هو قضية الوجود.. أما ما يُقال على أنه أب الميتافيزيقيا فهذا الأمر يعود إلى فلسفته حول قضية الوجود وقضية النفس الإنسانية وقضية المعرفة.. فإذا تمعنا في هذه الجوانب نرى أنه استطاع بمهارة يضع الأسس المتينة للميتافيزيقا حتى وإن بدا أن هناك تناقض فيما يقوله بارمنيدس نفسه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!