الجنون: ما الذي يدفع العقل إلى هذه الهوة السحيقة؟

يجب أن ننظر إلى المجانين باحترام؛ فبعض الظروف قد تكون كافية لنصبح أحدهم.. من منا لم يواجه هوسًا أو هاجسًا أو اضطرابًا أو حتى إغراء يائس عندما ينظر بصدق إلى نفسه في المرآة؟ في زاوية مظلمة من العقل البشري، يختبئ عالم عجيب، متقلب كرياح الصحراء، لا حدود له ولا قيود. إنه الجنون، ذلك الحضور الغامض الذي يتسلل بخفة إلى النفوس، يحول الإدراك إلى لوحة سريالية مشوشة، مليئة بالألوان الحادة والتناقضات الصارخة. هو الهروب من قيود الواقع، والانغماس في عوالم ينسجها الخيال أو يفرضها الألم. الجنون ليس مجرد حالة عقلية تُشخّص، بل رحلة تبدأ بألمٍ دفين، أو حيرة ضاربة الجذور، أو حتى طموحٍ عارم تجاوز حدود الاحتمال. فما الذي يدفع بالعقل إلى هذه الهوة السحيقة؟ وهل الجنون لعنةٌ تطارد الإنسان، أم إبداعٌ جامح لا يفهمه إلا القليل؟
الخط الفاصل بين الواقع والجنون
هناك خيط رفيع يفصل بين الواقع والجنون، ليس ذلك غريبًا على أحد، لأننا جميعًا نظرنا إلى أعماق عقولنا في مرحلة ما.. ولحسن الحظ، يعود معظمنا من تلك الرحلة دون أن يفقد وضوح العقل، أو على الأقل هذا ما نعتقده.. لكن تلك الحيرة تبقى محفورة في ذاكرتنا، حيرة تشبه غموض مخاوف الطفولة المروعة، وتعود بنا إلى طفولة البشرية، إلى نذير الموت الذي كان يُفرض على الإنسان في عصور ما قبل التاريخ بسبب الطرد من القبيلة والشعور بالوحدة في مواجهة العالم..
ربما لا يكون الجنون سوى انهيار الهيكل الذي يدعمنا، وتصدع الحدود التي تحتوينا. عندما يتخلى العقل عن مهمته في إضفاء معنى على ما نعيشه، يغمرنا العالم بأعاصيره، ويسبب صدعًا في كياننا، ونفقد الإحساس بالهوية، وتنهار النفس أو تغرق في دوامة العبث واللامعنى..
استسلام الروح المنعزلة
ربما يكون الجنون استسلام الروح المنعزلة، أغنية غير مترابطة لروح غارقة في الوحدة؛ فلا أجسادنا ولا مشاعرنا ولا عقولنا مهيأة لتحمل عزلة شديدة. حتى أكثر الناس عزلة يحتاج إلى الشعور بخيط خفي يربطه بالكون: بالإنسانية، بالذكريات، بالكواكب، أو بالله. إذا تُرك الإنسان وحيدًا في مواجهة كل شيء آخر، فإنه يشعر فورًا بأنه مسحوق تحت وطأة ذلك الكل الذي لم يعد جزءً منه..
لا يمكننا أن نلجأ إلى أنفسنا فقط. نحن نحتاج إلى ضمان خارجي: شيء يصادق علينا، يعترف بنا، يسمو بنا… نحتاج إلى مرآة تعيد إلينا صورتنا لنتعرف عليها، وإلا سنبدأ في الشك، أننا ربما غير موجودين أصلاً. الجنون هو إدراك عدم وجودنا، أو ما هو أسوأ من ذلك، وجود بلا معنى..
يتسلل الجنون في لحظات معينة من القلق.. القلق الذي يهيمن على كل شيء، القلق بلا أمل. وعندما يعصف بنا، يبدو وكأن الأرض تتلاشى تحت أقدامنا. نتحسس طريقنا في الظلام ولا نجد شيئًا وسط الضباب. إنه رعب الأطفال المهجورين والضائعين، عواء الذئاب في أعماق الغابة. إنه الخوف بلا سبب، الخوف في أنقى صوره..
الرعب من الوحدة
ربما تتشابه كل المخاوف وتأتي من المشاعر الأساسية ذاتها. إن الرعب من الوحدة يمكن أن يعادل الشعور بأنك محاصر؛ وفي الحالتين لا يوجد مخرج وتبدو النهاية وشيكة. بالنسبة للطفل الصغير، فإن عدم تلقي التحفيز أو العاطفة يعادل عدم الوجود؛ فهو يعرف نفسه فقط من خلال النظرة الحنونة للآخرين، ولا يتصور نفسه محبوبًا إلا لأن الآخرين يظهرون حبهم له. فما الذي يجعلنا نحن البالغين نعتقد أننا نتمتع بنضج عاطفي يفوق الطفل؟
تحاول عقولنا باستمرار صياغة التجارب بطريقة متماسكة، لكن في الجنون، يستسلم العقل ويتحرك في تدفق مفكك. توجد منطقة وسطى: الشعور بالغرابة، تلك الحالة الضبابية بين العقل والعاطفة، حيث لم تنحرف الأحكام تمامًا ولكن بدأت بعض الوصلات في الانفصال. يحدث الرعب في ذلك الشفق: لا تزال الهياكل القديمة صامدة، لكننا نحاول جاهدين ألا ننظر إلى الأماكن التي نعلم أنها بدأت تتصدع..
العقل يغرق في الوحل
أمام رعب تلك المنطقة الغامضة، يبحث العقل عن نقاط ارتكاز.. يتخبط بين التشنجات، ويغرق في الوحل، ويحاول يائسًا الوقوف على قدميه. وفي أقصى الحالات، قد يخترع العقل انسجامًا صلبًا خاصًا، وينسحب من الواقع غير المتماسك، ويدخل في حالة من جنون العظمة؛ أو قد يتأرجح بين هويات مختلفة، أو يتنصل من الهوية المعروفة، وبالتالي يصاب بالفصام… ومع ذلك، لحسن الحظ، فإن معظم الحالات ليست بتلك الحدة؛ ففي بعض الأحيان، يمكن العثور على الأمان في طقوس معينة أو أفكار متكررة، تزداد قسرًا كلما كان الاعتماد السابق على هذه الآليات أكبر أو كانت درجة القلق الذي يدفع النفس للجوء إليها أعظم..
وبدلاً من رفض تلك الأمراض رفضًا قاطعًا، ينبغي علينا الاستماع إليها والثقة بها، حتى لو كانت اختلالات عقلية. لأنها، طالما لم تصل إلى مستوى التشويش، فلا تزال تؤدي وظيفة ما. وهي استراتيجيات فعالة، رغم ما قد تبدو عليه من بدائية، تحاول من خلالها النفس البحث عن توازن جديد.
ما بين الاتزان والتعقل
الحياة صعبة على الجميع؛ فكيف لنا أن نواجهها دائمًا بوضوح التفكير والمنطق الصارم؟ ألسنا جميعًا مجانين بعض الشيء إذن؟ قال لي شخص ما ذات مرة “من المستحيل ألا ينتهي بنا الحال جميعًا إلى العصاب، منذ أن أدركنا أننا سنموت”. تبدو ملاحظته صحيحة نوعًا ما، لكنها ناقصة.. إن المصدر الأكبر للقلق ليس فكرة الموت، التي تبدو لنا بعيدة وغير قابلة للتصديق، بل الحياة المباشرة، بوحشيتها وغيومها وما تنطوي عليه من قسوة وشكوك..
الحالة البشرية ليست مهيأة للتوازن، وهذا أمر جيد، لأن الحياة ليست متوازنة. يجب علينا أن نخترع حالة جديدة في كل لحظة: الاستثناء مقابل الثبات. إذا كانت الاستثناءات هي القاعدة، فإن التكيف يجب أن يكون في إضفاء طابع استثنائي على كل سلوك. إن العالم متغير، وشاق، ومؤلم، ومتناقض للغاية لدرجة أن العقل البشري الضعيف لا يمكنه الاستقرار في هيكل متماسك. سوف يهلك… الشيء النادر هو الاتزان والتعقل..
لكننا لسنا جميعًا مجانين بنفس القدر. هناك عوامل تجعلنا أكثر أو أقل عرضة للاضطراب: درجة أعلى من الضعف، أو ميل وراثي، أو نشأة في مستنقع دمر العمود الفقري النفسي. يمكن أن تقودنا ضغوط البيئة جنبًا إلى جنب مع هشاشتنا الفطرية إلى جنون يتجاوز الحدود المقبولة، وليس “الطبيعي”، لأن أحدًا لا يعرف ما هو الطبيعي حقًا، رغم كل النظريات التي تحاول رسم خط فاصل..
ضياع طريق العودة
هناك أشخاص ينكسرون ولا يجدون طريق العودة. كان لي صديق يقول عنهم، بين الشفقة والحسد، أنهم محظوظون لأنهم حلوا كل شيء؛ فمن يئس من البحث، لم يعد مضطرًا إلى البحث مجددًا. قال بعطف: “أولئك تخلصوا من المعاناة”… ولعل هذا هو السبب وراء صعوبة إنقاذ المجنون وإعادته للواقع، وليس بالضرورة لأن الحياة في الجنون مريحة – يجب أن نسأل كل منهم على حدة – ولكن لأن هناك قانونًا للانهيار العقلي يجعل من الصعب جدًا الحفاظ على توازن غير مستقر مقارنةً بإصلاحه بعد انهياره..
سيكون من السخرية تمجيد المجنون وعدم اعتبار الأمراض النفسية والعقلية الكبرى كضياع خطير. الأمر غير الواضح، وربما يكون صديقي في هذا على حق، أنها ليست الأكثر إيلامًا، فما يؤلم أكثر هو الوعي: هل يمكن تصور جنون أعظم من بقاء الشخص واعيًا، ولا يعرف كيف يجد سبيل الخروج من متاهته الخاصة؟
يمكن أن تكون الأوهام والهلوسة جزئية أيضًا. هناك مناطق مجنونة في النفس تتحرر من الإرادة، وأوقات مجنونة تهب فيها العواصف دون أن نتمكن من فعل أي شيء سوى الاحتماء وانتظار أن تهدأ.. هناك أوقات تحاصرنا فيها الحياة أو تدفعنا إلى الحافة، وربما يتسلل الجنون في أضعف لحظاتنا أو حتى يساعدنا على التحمل. لحسن الحظ أننا نجد طريق العودة، أحيانًا بسبب شدة الإرهاق، وأحيانًا بعد رحلة طويلة وشاقة بفضل الأقدار، أو قدرتنا على العلاج..
الجنون، ذلك اللغز العصي على الفهم الكامل، ليس إلا انعكاسًا لصراع داخلي بين العقل والقلب، بين المنطق والشعور، بين الحلم والواقع. قد يكون صرخة احتجاجٍ ضد قسوة الحياة، أو انسحابًا هادئًا إلى عوالمٍ أرحم وألطف. وفي كل الأحوال، هو دعوة للتأمل في هشاشة النفس البشرية وقوتها في آنٍ واحد. فمهما تعددت أسبابه واختلفت مظاهره، يبقى الجنون مرآة تُظهر جوانب خفية من الإنسان، وتجعلنا نعيد التفكير في ماهية العقل وحدوده. ربما علينا أن نتعلم ألا نخشى الجنون، بل نفهمه ونتعامل معه كجزء من أعماق النفس التي لا تنضب أسرارها.