فلسفة

هل يمكننا الوثوق في الحدس؟

يثير موضوع الحدس الكثير من الاهتمام؛ حيث نجد العديد من كتب المساعدة الذاتية تشجع على الثقة في الحدس، وتستشهد بالشخصيات التي وثقت في حدسها وحققت النجاح، مع العلم بأن الشخصيات التي وثقت في حدسها وفشلت لم تأت هذه الكتب على ذكرهم. لكن يتجاوز موضوع الحدس مجال علم النفس أو الروحانية. فماذا يعني الحدس؟ وهل له وجود؟ وإذا كان موجوداً، فهل يمكن الاعتماد عليه دائماً؟ دعونا نقترب أكثر من هذا الموضوع.

ماذا يعني الحدس؟

كتب بعض علماء الرياضيات والفيزياء عن اكتشافاتهم وشهدوا أنهم قدموا حلولاً لمشكلات صعبة بعد حدسهم، على سبيل المثال أينشتاين التي اعتمد على حدسه وتوصل إلى النسبية، في حين خطأ حدسه بشأن تمدد الكون، ونظرية الكم. كذلك هناك أوجست كيكوليه الذي اكتشف الصيغة الكيميائية للبنزين بعد أن استغرق في حلم يقظة، وغيرهم من العلماء الذين عولوا على الحدس في مشاريعهم العلمية. ومع ذلك ينتقد البعض الحدس، ويعتقدون أن الفرد لا يعتمد عليه إلا عندما يريد تجنب الجهد الذي ينطوي عليه التفكير التحليلي، ويعني الحدس بالنسبة لهم طريقة كسولة في التفكير. إذن ما الذي يعنيه الحدس؟

هناك العديد من المعاني التي ينطوي عليها مصطلح الحدس، ومنها على سبيل المثال:

  • الغريزة التي تحذرنا من الخطر، على غرار ما تفعله الكائنات الحية الأخرى.
  • الشعور بفكرة معينة تجاه الأشياء والناس تأتي من القلب وترتبط بالعواطف والمشاعر.
  • الحكم على أساس التحيزات الثقافية أو الأيديولوجية.
  • الذكاء البديهي، والقدرة على رؤية الأمور وفقاً للخبرة والمعلومات المسبقة حول الموضوع.
  • الصوت الداخلي أو المعرفة المباشرة دون تدخل واعي للعقل.
  • النظر إلى جوهر الأشياء أو التأمل.

لماذا نفضل الحدس على التحليل؟

مفهوم الحدس
الحدس والتفكير التحليلي

لنفترض أننا نعاني من مجموعة من الأعراض التي لا يستطيع الأطباء تشخيصها. لذا قررنا الذهاب إلى مركز طبي مرموق، وهناك عُرض علينا بديلين للتشخيص. الأول هو إدخال هذه الأعراض إلى جهاز متطور تعتمد برمجته على أحدث التطورات العلمية، والثاني ترك التشخيص في أيدي أخصائي معترف به يتمتع بخبرة سنوات عريضة. ما المسار الذي نختاره؟ ربما يفضل معظمنا الوثوق بالطبيب، فإذا فحصنا على يد طبيب من لحم ودم يمكن لدماغه أن تلتقط العلامات الدقيقة التي تعتبر مفتاح التشخيص الدقيق على الرغم من عدم علمه بها. لكن لماذا نفضل الحدس على التحليل؟ تتضمن الأساليب التحليلية التبسيط، وبالتالي لا يمكنها التقاط الثراء الكامل لسياق المشكلة.

اقرأ أيضًا: قصة الخوف من كل شيء

العقل والأفكار

ترافقنا الأفكار طوال حياتنا، وإذا لم تخضع لسيطرة الضمير والعقل والإرادة، فسوف تولد بداخلنا مشكلة تلو الأخرى، وتلقي بنا في غياهب الغموض بدلاً من الوضوح، وتولد لدينا الانزعاج بدلاً من الاطمئنان. تقول الحكاية الهندية القديمة: يذهب تلميذ لزيارة معلمه ويقول له: سوف اعتزل في الغابة لمدة ثلاثة أشهر للتفكير والتأمل. ما هو الموضوع الذي تنصحني بالتفكير فيه؟

يجيبه المعلم: فكر في كل ما تريده ماعدا القرود.

يبتهج التلميذ ويقول لنفسه: ما هذه السهولة! فليس لدي أشياء كثيرة للتفكير فيها!

ذهب التلميذ في طريقه، وعاد بعد ثلاثة أشهر وقال للمعلم: أنا يائس، لم أستطع فعل أي شيء سوى التفكير في القرود.

هذا هو العقل العادي، في كثير من الأحيان يتصرف كالشخص المجنون، وفي أحيان أخرى يسبب الكثير من الحيرة والبلبلة، فهو ليس أفضل رفيق، ولكن لا يمكننا الانفصال عنه. وهو العقل الذي يحررنا من الأغلال كذلك. لقد حدد عالم النفس كارل يونج أربعة من وظائف العقل: الإحساس والتفكير والشعور والحدس. وهذه هي طرق الحصول على المعرفة من خلال تجاربنا الخاصة، ومن خبرات الآخرين. فنحن نتمتع بالحكم والعقل، لكن هذه الوظيفة قد تكون ضعيفة لدى معظم الناس وعرضة للتحيز. إنه أمر مثير للدهشة فعلاً، فعندما نقابل شخصاً ما للمرة الأولى، فإن الانطباع الأول لا يستغرق سوى بضع ثوانٍ فقط، وفي واقع الأمر نرتكب أخطاءَ لا تغتفر. عندما نحب أو نكره شخصاً غريباً منذ البداية، فذلك بسبب حقيقة أننا نربط سمته الجسدية أو طريقة حركته أو لباسه بشخص آخر. يربط دماغنا هذه المعلومات ببعضها البعض، ويمكن أن تكون التوقعات رهيبة.

لنفترض نادلة تفتخر بأنها تعرف دائماً من الذي سيقدم لها بقشيش، فلا تضيع وقتها مع العملاء المفترض أنهم لن يتركوا لها قرشاً واحداً. وتتحقق تنبؤاتها دائماً لأنها تعامل بشكل أفضل أولئك الذين تعتقد أنهم سيمنحونها البقشيش. وهذا ما يسمى النبوءة ذاتية التحقق.

اقرأ أيضًا: تاريخ البشرية في ثلاث أفكار رئيسية

الدماغ ومعالجة المعلومات

الحدس والدماغ البشري
كيف يعالج الدماغ المعلومات

أحد أكثر النظريات المستخدمة لشرح الدماغ شيوعاً هي نظرية النصف الأيمن والأيسر من الدماغ، ففي حين أن المسؤول عن التفكير التحليلي والمنطق واللغة هو النصف الأيسر من الدماغ، إلا أن النصف الأيمن هو المسؤول عن الإبداع والحدس والمشاعر. أما العقل الباطن فهو المكان الذي يتم فيه تخزين الأفكار والمشاعر. فكيف تؤثر العواطف على معالجة المعلومات في الدماغ؟ إن الاكتئاب يغير من القدرة العقلية للدماغ، وعندما نفكر ونقرر في نوبة غضب، نرتكب أخطاء وهو ما يطلق عليه الاختطاف العاطفي، حيث يصبح الناس ضحايا لانفجاراتهم العاطفية.

ولكن عندما تكون المعلومات متوفرة أو إذا كانت المشكلة معقدة، فمن الأفضل ترك نصف الدماغ الأيمن أو اللاوعي يعطينا رؤية إبداعية للمسألة. ألم يخطر ببالك أنك بعد المشي وجدت الحل لمشكلة معقدة لم يكن بمقدورك حلها؟ يقول الكثير من الناس أنهم إذا تركوا المشكلة بعد معاناتهم لفترة من الوقت في حلها، فإنهم يتوصلوا إلى حل في النهاية. فهل العقل الباطن أكثر حكمة؟

يجب ألا يغيب عن الأذهان أن حدس البصيرة ليس ظاهرة تحدث بانتظام، وإذا كانت كذلك فلن يضيع أحد الوقت في محاولة إصلاح المشكلات، وسنقتصر على انتظار الحل في اللاوعي. إذن ما الذي يحدث حقاً؟ لإيجاد حل للمشاكل الصعبة من الضروري رؤية المشكلة من منظور مختلف.

مثال على هذا التفكير الجانبي المزعوم حدث خلال معارك الحرب العالمية الثانية عندما أرادت القيادة العليا في أمريكا تعزيز طائراتها لحمايتها بقدر الإمكان من ضربات العدو، وللقيام بذلك قام مهندس طيران بفحص الطائرات التي عادت من المعارك الجوية وأحصى الأجزاء التي تظهر في الغالب علامات الاصطدام، ثم أوصى بتعزيز تلك التي لا يبدو أنها تالفة. بدت النصيحة مقلقة للضباط: لماذا يعززون ما بدا أقل تلفاً؟ السبب بسيط للغاية، استنتج الخبير إنه لم تُظهر أي طائرة تقريباً أضراراً في تلك الأجزاء لأن الأجزاء التالفة لم تعود من هناك.

اقرأ أيضًا: كيف يؤثر النمو السكاني العالمي على مصير البشرية؟

مشكلة التفكير الحدسي

التفكير الحدسي
هل يمكن الاعتماد على الحدس

ينبغي ملاحظة ثلاثة أمور هامة: أولاً، أن الخطأ الكبير هو التنظير قبل الحصول على المعلومات، وبدون إدراك ذلك، يبدأ المرء في تحريف الحقائق لتناسب النظريات بدلاً من محاولة جعل النظريات تتناسب مع الحقائق. ثانياً، عليك تجنب التأثر بالضغط الاجتماعي. لقد أجريت العديد من الدراسات الميدانية، عل سبيل المثال، السماح لعينة من الأشخاص بسماع رأي خاطئ حول طول حبلين، وعندما يُسأل واحداً تلو الآخر، على الرغم من أن نظرهم يخبرهم بخلاف ذلك، فإن أكثر من 50% أجابوا بشكل خاطئ وفقاً لما سمعوه. دعونا نضع في اعتبارنا إذا حدث ذلك مع طول الحبل، فماذا يمكن أن يحدث مع قيم الشخص أو أهدافه أو مشروعاته…؟

ثالثاً، الجرأة على البحث عن أدلة قد تزعج حدسنا. من الخطر المحتمل للتفكير الحدسي هو السرعة التي نصل بها إلى الاستنتاجات، ويصاحب ذلك شعور بالثقة. لماذا لا نستخدم عادة عدم التأكد؟ لأننا لا نحب الفشل، فإن له تكاليف عاطفية لا نريد تحملها. والعديد من السلوكيات الخرافية تستند على هذا الأساس. لقد فعلت شيئاً نجح معي، على سبيل المثال ربطت حذائي الأيسر قبل الأيمن ففزت في اللعبة، وبهذه الطريقة لا نتحقق من السبب وراء النجاح أو الفشل لأنها طريقة سهلة، ليس عليك سوى ربطهما بهذا الترتيب لتحقيق النجاح.

اقرأ أيضًا: نظرة على فلسفة الفن والجمال

أسباب الغياب

نمتلك جميعنا الغرائز والتفكير والمنطق، والمشاعر الإنسانية وكذلك الحدس العقلي والحدس الروحي. بينما كل هذه الأشياء مجتمعة هي ما تجعلنا نفكر في أشياء عظيمة مثل: الخلود، الموت، أصل الكون، الله، معنى الحياة. إذن هل الحدس موجود؟ إنه موجود بالفعل، ولكنه جزء من العقل، وليس في حالة نشاط دائم، لأن بعض جوانب العقل نائمة والبعض الآخر نشط. ومع ذلك فإن الشكل الأكثر واقعية للعقل هو المنطق. لكن ما الذي يجعل الحدس غائب، وثقيل، ورمادي، وغير بديهي؟ هناك عدد من الأسباب وراء ذلك.

  • التضليل: إنه خداع عقلي على النفس، يأتي من الفوضى، والجهل والتعصب، من نقص الجهد العقلي. بينما يمكن التغلب عليه من خلال المراقبة الذاتية مع التفكير الواعي.
  • المشاعر السلبية: عواطفنا هي مصدر مهم للمعلومات، وصنع القرار لا يخلو من تأثيرها. فلا يمكننا تجاهلها، ويجب علينا العمل على التخلص من أسوأها.
  • الجشع: ويعني الميل المفرط إلى المادية، وشهوة الامتلاك، وتؤدي هذه الصفة إلى الإدمان والعبودية من خلال خلق احتياجات وهمية ومبررات خاطئة لمواصلة امتلاك الأشياء والأشخاص. وعندما لا يكون الشخص راضياً يمكن أن يصبح متلاعباً، وقاسياً، وهوما يولد بداخله الحسد والغيرة.
  • الكراهية والنفور: وهي شعور برفض ما لا يسعدنا، ويسبب لنا مزاجاً سيئاً وكراهية بل وحتى قسوة في بعض الأحيان. إن التعاطف هو ترياق عظيم للتماهي مع مصائب الآخرين.
  • القلق: هو التفكير فيما كان يمكن أن يكون وما لم يكن، وهو أحد تأثيرات عصرنا الحديث. بينما يمكن التخلص من القلق في ممارسة العيش هنا والآن. وكما يقول الرواقيون: إذا كان له علاج، فلا تقلق، وإذا لم يكن له علاج، فلا تقلق.
اقرأ أيضًا: الطريق إلى تحقيق الذات في الحياة

إذا تمكنا من تحرير أنفسنا من هذه المشاعر فسنحقق السيطرة على الرغبات والمخاوف والأنانية. حيث يرتبط الارتقاء الروحي دائماً بالصعوبات التي نتغلب عليها. إن الحدس هو الفتح الأساسي للنفس، الشعور بأنك جزء من الطبيعة، التصرف بشكل طبيعي وغريزي في كل موقف هو نتيجة الحدس. إنه القوى التي تساعدنا عندما نتعثر، النبل، اللطف، القوة، الطيبة، وضوح الأفكار.. فهل يمكننا الوثوق في الحدس؟

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!