رينيه ديكارت وخلاصة فلسفته: أنا أفكر إذن أنا موجود

You are currently viewing رينيه ديكارت وخلاصة فلسفته: أنا أفكر إذن أنا موجود
الفيلسوف وعالم الرياضيات رينيه ديكارت

رينيه ديكارت هو فيلسوف عظيم نال شهرة واسعة، وقد وصفه البعض بأنه واحد من أعظم الرياضيين في الأزمان قاطبة.  حيث ابتدع نظام الاحداثيات الديكارتية التي شكلت النواة الأولى للهندسة التحليلية. كما إنه صاحب المقولة الأشهر “أنا أفكر.. إذن أنا موجود” وهذه المقولة هي التي تلخص فلسفة رينيه ديكارت. في هذا المقال نخوض سوياً رحلة للتعرف على أفكار أبو الفلسفة الحديثة بشيء من التفصيل.

نبذة عن حياة رينيه ديكارت

ولد رينيه ديكارت عام 1596 في فرنسا، وتلقى تعليمه في مدارس “الجيزويت”[1].  حيث درس الفلسفة اليونانية القديمة وعلوم الرياضيات التي أبدى نبوغاً غير عادياً فيها، فلقد استهوته شفافية ونقاء ويقين الأرقام. مما أوحى إليه أن هذه الأرقام برغم بساطاتها إلا إنها تختزل بداخلها أكثر الأمور تعقيداً. كما أدرك أن لديها القدرة على اثبات وتأكيد أية حقيقة بسهولة ويسر. فليس هناك أبسط من إقناع شخص أن الخط المستقيم هو أقصر الطرق بين نقطتين.

هذا الولع بالأرقام والرياضيات بوجه عام كان السبب وراء اختراع ديكارت علم الهندسة التحليلية، كما إنه الذي اخترع الرسم البياني الذي مازلنا نستخدمه حتى يومنا الحالي. ويمكن القول بأن ديكارت كان بالفعل هو الأب الحقيقي لعلم الرياضيات الحديثة.

البحث عن الحقيقة

تنقل ديكارت في عدد من البلدان الأوروبية خلال فترات حياته. فلقد كانت لديه رغبة قوية في معرفة الحياة على حقيقتها، ويريد التوصل إلى معرفة يقينية حول طبيعة الإنسان والكون من حوله. التحق ديكارت بالجيش وتنقل معه في بعض مهامه العسكرية، وبعد ذلك أمضى بضع سنوات في باريس. وبعد رحلته الطويلة استقر أخيراً في هولندا. حيث رأى فيها المناخ الحر الذي يشجع على التعلم والتفكير. وفي هولندا أقبل ديكارت على دراسة الفلسفة، لكنه مع الأسف لم يحصل على النتيجة التي يمكن أن يطمئن إليها عقله. فلقد كان مقتنعاً مثل أفلاطون وسقراط بأن العقل هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن استخدامها للوصول إلى الحقيقة اليقينية. ولهذا السبب فإن ديكارت ينتمي إلى العقلانية في التفكير.

المنهج الفلسفي

أقام ديكارت في هولندا نحو 20 عاماً. وكتب في هذه المرحلة أطروحاته الفلسفية والرياضية. ولعل أهم كتبه هو “أطروحة الطريقة” الذي يشرح فيه منهجه الفلسفي المبني على “الاستنتاج المنطقي” للتوصل إلى الحقيقة ونشر أيضاً كتابه “التأملات”. وبدأ صيت ديكارت ينتشر حتى أصبح واحداً من أهم فلاسفة أوروبا في ذلك الوقت، مما جعل ملكة السويد تدعوه لكي يعلمها مبادئ الفلسفة والمنطق وهناك للأسف أصابه التهاب رئوي حاد بسبب برد السويد القارس وتوفي على إثر هذا المرض في عام 1650 ميلادية. وكان عمره آنذاك لم يتجاوز 54 عاماً.

دفن ديكارت في بادئ الأمر في السويد حتى طالبت فرنسا بنقل رفاته إلى هناك حيث دفن في مدافن “سان جيرمان”. ومن المعروف أن جسد ديكارت المدفون هناك لا يحمل جمجمة ديكارت الحقيقية التي سرقت وتداولتها أياد كثيرة – الكل يريد الاحتفاظ بجمجمة هذا الفيلسوف الذي جعل الدماغ أهم ما في الإنسان ورفع من شأن التفكير ليكون الدليل الوحيد على وجوده.

اقرأ أيضًا: فلسفة باروخ سبينوزا: رؤية كل شيء من منظور الأبدية

ملخص فلسفة ديكارت

ديكارت ومذهب الشك
الفيلسوف رينيه ديكارت

تركت فلسفة ديكارت تأثيراً عظيماً على الفلسفة والفلاسفة الذين جاءوا من بعده. فهو يعد مؤسس الفلسفة الحديثة بلا منازع. نظراً لأنه استطاع أن يبني نظاماً فلسفياً حقيقياً ومتماسكاً. استند نظامه الفلسفي على أسلوب فكري ذي رؤية واضحة. حيث بدأ في تعريف الفلسفة على إنها تعني دراسة الحكمة ولا يقصد بالحكمة مجرد الفطنة في الأعمال، بل معرفة كاملة بكل ما في وسع الإنسان معرفته. وقد مثل الفلسفة وكأنها شجرة جذورها الميتافيزيقا وجذوعها العلم الطبيعي وأغصانها باقي العلوم. ويقصد بهذه العلوم الطب والميكانيكا والأخلاق. أي أن أكمل الأخلاق هي التي تكون على معرفة تامة بالعلوم الأخرى. ومن هنا نجد أن الفلسفة من وجهة نظر ديكارت هي العلم الكلي، والعمل هو المقصد الأسمى، أما العقل فهو أهم جزء لدى الإنسان، والحكمة هي الخير الأعظم.

منهج ديكارت في الرياضيات

كان ديكارت مولعاً بالرياضيات، وقد وجد فيها ضالته المنشودة وهي الوصول إلى حقيقة يقينية. ويمكن استخلاص منهج ديكارت الرياضي في أربع قواعد هي:

  • عدم القبول والتسليم بأي شيء على إنه صحيح ما لم نستطيع إدراكه إدراكاً واضحاً ومحدداً، سواء بالعلم أو الإدراك بالحدس المباشر أو غير المباشر.
  • تقسيم أي مشكلة من المشكلات المراد حلها إلى أكبر عدد ممكن من الأجزاء حتى نصل إلى أبسط الأفكار.
  • ترتيب الأفكار بدءً من أبسطها إلى أكثرها تعقيداً.
  • القيام بإحصاءات تامة ومراجعة شاملة وعامة في كل مسألة على نحو نتحقق معه أننا لم نغفل شيئاً.

من هذه القواعد نستنتج أن المنهج عند ديكارت استنباطي. وبعد تطبيق قواعد المنهج لابد أن نطرح ما ألفناه وتعلمناه لنشك في جميع طرق العلم وأساليبه. وهذا تبعاً للشك الديكارتي، والشك هنا لاختبار معارفنا وقوانا العارفة. حيث أن هدم الأساس يجر وراءه كل البناء. لذا فلا مناص من الشك في الحواس، والشك في استدلالات العقل. فطالما تعرضت لخداع الحواس واستدلالات العقل مرة فربما تخدعني أكثر من مرة. لكن كوني مخدوعاً يؤكد أنني موجود، وتلك البينة اليقينية الأساسية. وهكذا قرر ديكارت مبدأ “أنا أفكر إذن أنا موجود“.

بناء فلسفي كامل

شرع ديكارت في هدم البناء في بداية عمله من أجل يعود إلى تأسيسه مجدداً على أركان قوية، ليجعل منه نظاماً متكاملاً يسعى فيها للإجابة على جميع الأسئلة الرئيسية التي شغلت عقول الفلاسفة من قبله. لكن كيف كان البناء من قبل ظهور ديكارت. إذا عدنا إلى الخلف سنجد أن في العصور القديمة حاول أفلاطون وأرسطو إقامة بناء فلسفي، ثم جاء القديس توما الأكويني في العصر اللاحق ليحاول أن يقيم جسراً بين فلسفة أرسطو والمسيحية. ومن ثم جاء عصر النهضة ليضع لنا أخلاط متفرقة من هناك وهناك حول الطبيعة والعلم والله والإنسان. لكن كل هذه المتفرقات من الأفكار لم يقم عليها بناء فلسفي شامل ومتكامل حتى ظهر ديكارت ليقوم بهذه المهمة.

المعرفة اليقينية عند رينيه ديكارت

وكما نعرف أن لكل فيلسوف مشروعه الفلسفي الذي يهتم بمناقشته نجد أن فلسفة ديكارت تستند على أمرين: أولهما ما نستطيع معرفته عن ثقة ويقين بمعنى كيفية الوصول إلى المعرفة اليقينية. وثانيهما العلاقة بين الروح والجسد. في البداية كان ديكارت يستهدف الوصول إلى معرفة يقينية عن طبيعة الحياة، فبدأ بالتأكيد على الشك في كل شيء. بينما اعتبر الشك هو الخطوة الأولى للتحقق من صحة أي فكرة. حيث يمكننا قراءة فلسفة أفلاطون وفلسفة أرسطو وغيرهما من الفلاسفة لكن علينا ألا نأخذ هذه الأفكار على أنها حقائق مؤكدة. ربما تساهم هذه الأفكار في زيادة المعرفة إلا أنه يجب طرح كل تلك الأفكار جانباً كي نزيل الأنقاض من مواقع البناء لنشيد الأسس المتينة للبناء الجديد.

أدرك ديكارت أننا لا نستطع الوثوق في الحواس، فهي يمكن أن تخدعنا، فعندما نحلم نشعر بأننا نعيش تجربة حقيقية، فما الذي يفرق بين انطباعاتنا أثناء اليقظة عن انطباعاتنا أثناء الحلم؟ لقد كتب ديكارت قائلاً: “عندما أتامل هذه المسألة لا أجد صفة واحدة تميز تميزاً مؤكداً بين حالة اليقظة وحالة الحلم. فما هي الوسيلة التي يمكن من خلالها التأكد من أن الحياة ليست سوى حلماً مستمراً؟

أنا أشك.. إذاً أنا موجود

انطلق ديكارت من الشك في كل شيء حتى أصبح كل شيء حوله مشكوك في صحته. ومن هنا خطرت له حقيقة يقينية مؤكدة وهي أنه يشك، وإذا كان يشك فلابد إنه يفكر وإذا كان يفكر فهو بالضرورة كائن مفكر. وقد توصل إلى أن كونه كائناً مفكراً ربما يكون حقيقي أكثر من العالم المادي نفسه. ذلك العالم الذي ندركه بحواسنا.

من هنا تساءل مرة أخرى إذا كان هناك أي شيء يستطيع إدراكه بنفس هذا الحدس اليقيني الذي عرف به إنه كائن مفكر. وسرعا ما توصل إلى فكرة أخرى وهي فكرة محددة وبسيطة وهي أن ذهنه لديه فكرة عن كائن كامل. هذه الفكرة موجودة على الدوام في ذهنه. وبما أنه كائن ناقص فلا بد من وجود كائن كامل استطاع أن يغرس هذه الفكرة في ذهنه. وهنا أصبحت فكرة وجود الله حقيقة يقينية موجودة في ذهنه مثلما يعلم علم اليقين أنه كائن مفكر.

فكرة الكمال عند رينيه ديكارت

ربما انتقده الكثير فيما بعد بشأن هذه النقطة بالذات، فديكارت قد تسرع في الوصول إلى هذا الاستنتاج، ولكن لم يكن الأمر يتعلق بالبرهنة على أي شيء بل باعتقاده أن جميع البشر يملكون فكرة ما عن الكائن الكامل، وطالما هذا هو الحال فمن المفترض أن تكون هذه الفكرة لها أصل ووجود. ففكرة الكمال لا يمكن أن تأتي سوى من كائن كامل، ومن هنا كان اعتقاد ديكارت أن فكرة الله هي فكرة فطرية موجودة داخل كل إنسان. لكن هل وجود فكرة ما في ذهن الإنسان تفترض وجوده بالفعل. هنا يخبرنا ديكارت أننا لا يمكننا أن نتصور فكرة كائن كامل يفتقد إلى أهم الصفات وهي الوجود. لذا فإن وجوده ضرورة.

إذن توصل ديكارت إلى فكرتين هما الكائن المفكر والكائن الكامل، ومن ثم اتخذ من هاتين الحقيقتين نقطة انطلاق في بحثه الفلسفي.

الحواس والرياضيات

شرع بعد ذلك في النظر إلى الواقع أو الطبيعة من حوله. فهل تعد الموجودات في الطبيعة كالشمس والقمر مجرد أوهام وخيالات أم إنها حقيقة يقينية. فمن المتعارف عليه أن ديكارت لم يعتمد على الحواس نظراً لخداعها لنا كما أشار إلى ذلك. هنا يأتي دور الرياضيات التي أبدع فيها ديكارت. حيث يقول إن كل الموجودات في الطبيعة لها صفات محددة يمكن للعقل إدراكها وهو يقصد بتلك الصفات العلاقات الرياضية مثل الطول والعرض والارتفاع. وهذه الحقيقة الواضحة والمحددة مثل الحقيقة التي تقول إن هناك كائن كامل. لكن الموجودات في الطبيعة لا تمتلك صفات عينية فقط بل هناك صفات كيفية، مثل اللون والرائحة. وهذه الصفات ترتبط بصورة ما بالحواس التي لا يعتمد عليها ديكارت. وبالتالي لا تصف هذه الموجودات بصورة صادقة.

اقرأ أيضًا: فلسفة القديس أوغسطين: هل استطاعت حل مشكلة الشر في العالم؟

الثنائية الديكارتية

يؤكد رينيه ديكارت على أن حقيقة الواقع الخارجي تختلف اختلافاً جذرياً عن حقيقة واقع الفكر. ومن هنا أكد على وجود شكلين مختلفين للواقع أو جوهرين هما الفكر أو الروح؛ والمادة أو الامتداد. أما بالنسبة للروح أو النفس فهي وعي خالص ولا تشغل حيز في المكان ولذلك لا يمكن تقسيمها إلى أجزاء أصغر، أما المادة فهي لا تملك وعياً. وكلا الجوهران يصدران عن الله لإن الله وحده مستقل عن أي شيء آخر. وبرغم انبثاق الروح والمادة من مصدر واحد إلا أن كلا منهما مستقل عن الأخر. وكان ينظر إلى الحيوانات على إنها تنتمي إلى الواقع المادي. فجميع حركتها هي حركة آلية، وبالتالي فهي لا تمتلك وعياً.

أما الإنسان فهو مخلوق ثنائي يفكر من جهة ويشغل حيز من المكان من جهة أخرى. ويملك جسداً كما يملك روحاً. واعتقد ديكارت أن هناك تفاعلاً مستمراً بين الروح والجسد. وأن الروح ترتبط بالمخ، ولابد أن نشير إلى أن ديكارت كان له السبق في محاولته الجادة لفهم طبيعة مخ الإنسان بل أن أطروحته عن الإنسان تعتبر البداية لعلم الفسيولوجيا أو علم وظائف الأعضاء.

رينيه ديكارت والمخ البشري

يصف رينيه ديكارت الغدة الصنوبرية وهي جزء مخروطي موجود في المخ البشري، ولا يعرف له وظيفة محددة حتى الآن. اعتقد ديكارت أنها المركز الذي يتحكم في الإشارات التي تصل إلى المخ بعد استجابة الجسد للمؤثرات الخارجية. وهذا يعني أنه كان على دراية بخطوط التواصل بين الجسد والمخ وتبادل الإشارات أو الرسائل بينهما من خلال “طرق الإحساس”. حيث يستقبل الجسد في بادئ الأمر المؤثر الخارجي عن طريق الحواس (السمعالابصار اللمسالشمالتذوق). ويستجيب الجسد لهذا المؤثر بإرسال إشارة إلى المخ يفهم منها المخ نوع الإشارة التي لابد له أن يرسلها إلى الجسد كي يتحرك. كحركة اليد غير الارادية إذا أدرك الإنسان أن اليد قريبة من النار ومن الممكن بهذا أن تصاب باللسع او الحرق.

الإدراك الحسي

وهذا يدل بوضوح على أن ديكارت لم يغفل الادراك ولغة الحواس واستجابة الجسد لها، ولكنه كان مقتنعاً بأن من الممكن للمخ أن يخدع إذا اعتمد في حكمه على هذا الادراك الحسي. ولهذا أعطى العقل الكلمة الأخيرة للتوصل إلى الحقيقة على أسس منطقية.

من هنا أدرك ديكارت أن هناك تفاعل متصل بين الروح والجسد. لذا نجد أن الروح يمكنها أن تتأثر باستمرار بالمشاعر والانفعالات المرتبطة باحتياجات الجسد. إلا أن الروح تستطيع أيضاً أن تنفصل وتتمتع بحرية مستقلة. فالهدف هو أن يمسك العقل بدفة القيادة. فلو أني أعاني من الصداع فإن مجموع زوايا المثلث سيظل دوماً 180 درجة. وإذا تداعى الجسد وبدأ يتلف ويشيخ فإن مجموع 2 + 2 سيظل 4. فالعقل لا يضعف ولا يصيبه ما يصيب الجسد.

اقرأ أيضًا: فلسفة سينيكا: كيف تحقق أقصى استفادة من الحياة؟

في الختام وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت إلى فلسفة ديكارت إلا أن هذا لا يمنع كونه واحد من أهم الفلاسفة في التاريخ. وقد ساهمت أفكاره في تطور العلوم الحديثة وخاصةً في مجال الرياضيات وعلوم الحاسب الآلي.


المراجع:

  • التأملات في الفلسفة الأولى – رينيه ديكارت – ترجمة عثمان أمين.
  • فلسفة ديكارت ومنهجه – دراسة تحليلية ونقدية – مهدي فضل الله.
  • ديكارت – مقدمة قصيرة جداً – توم سوريل – ترجمة أحمد محمد الروبي.

هوامش

[1] الجيزويت أو اليسوعيين هي واحدة من الجماعات المسيحية التي تأسست في القرن السادس عشر، وهي التي أعطت اهتماماً كبيراً للتربية والتعليم غير دورها الطبيعي في تعليم الدين. كما قامت بإدارة الكثير من المشروعات الخيرية في العالم كله. ومع ذلك يؤخذ عليها نظام النشأة الصارمة والتزمت الذي يحد من حرية واستقلال الفكر.

اترك تعليقاً