فلسفة

نظرة تأملية حول كرة القدم والفلسفة

كرة القدم هي اللعبة الشعبية الأولى على مستوى العالم، والفلسفة تبدو وكأنها مجال أكاديمي مخصص للنخبة فقط من البشر، وشتان الفارق بين الاثنين، ومن هنا يتساءل المرء ما علاقة كرة القدم بالفلسفة؟ ربما يكره البعض هذه اللعبة ولا يعتبرها حتى رياضة. هدفي في الواقع هو استخدام كرة القدم كأداة للتحدث عن الفلسفة، ولإثبات أن هذا المجال ليس ملكية حصرية لأقلية نخبوية، بل العكس هو الصحيح، فالموقف الفلسفي طبيعي في البشر. حيث تساعدنا الفلسفة في اكتشاف القوانين التي تحكم الحياة، وبالتالي القوانين التي تحكمنا، ولهذا السبب فالمعرفة التي تقدمها لنا الفلسفة هي المفتاح لتجنب المعاناة غير الضرورية وبناء أخوة حقيقية بين جميع البشر. فهيا بنا نُلقي نظرة على كرة القدم والفلسفة.

كرة القدم والحياة

ما نراه اليوم في العديد من ملاعب كرة القدم بعيد كل البعد عما نفهمه عن الرياضة. حيث أصبحت هذه اللعبة أداة للتلاعب بالمجتمع. سمعت مدرب كرة قدم شهير يقول في مقابلة تلفزيونية أن كرة القدم تعني “أن تتلقى الكرة، وتتحكم فيها وتركض وراءها ثم تمررها”. لنتأمل قليلاً في هذا التصريح، وسندرك على الفور كيف أصبحنا فلاسفة واعين للحظة. إن هذا بالضبط ما تعنيه “الحياة”. نحن نتلقى الحياة في أجسادنا عند الولادة، ثم ننمو ونتطور ونتحكم في حياتنا، ونركض وراءها، ثم تأتي نقطة يتعين علينا أن نمرر حياتنا – الكرة – إلى شريك آخر. الحياة لا تتوقف أبداً عن الحركة، فهي تنتقل من واحد إلى آخر.

في كرة القدم يوصم اللاعب الذي لا يمرر الكرة باسم “الأناني” وبنفس الطريقة، هناك العديد من الناس الذين يصرون على العيش بشكل سطحي وليست لديهم رغبة في التعاون مع بقية المجتمع. يمكننا القول إن مثل هؤلاء لا يهتمون سوى بالذكاء الشخصي، والتعطش للشرف والفخر أكثر من اهتمامهم بالفريق.


القيم الإنسانية

كرة القدم في كرياضة هي لعبة جماعية. ولهذا السبب، يمكننا أن نتعلم منها القيم الإنسانية، مثل الشعور بالواجب والتضامن والمسؤولية والالتزام الأخلاقي، ليس فقط مع الآخرين، ولكن أيضاً مع أنفسنا. كما يمكننا أيضاً أن نتعلم قيمة الإخلاص. هناك تقاليد في الرياضات الأخرى، مثل لعبة الرجبي، تجسد كل ما سبق بشكل جيد للغاية. فمن المعتاد في العديد من فرق الرجبي أن يقوم لاعبو الفريق الزائر في نهاية المباراة بتنظيف غرفة تبديل الملابس الخاصة بهم، بغض النظر عما إذا كانوا قد فازوا أم لا، كدليل على احترام المنافس.

اقرأ أيضًا: 5 تمارين فلسفية لتنشيط ملكة الفكر

قانون الصدفة

قانون السبب والنتيجة
كرة القدم والفلسفة

في كرة القدم، يقفز جميع لاعبي كل فريق إلى ميدان اللعب بإستراتيجية معينة سواء على مستوى الهجوم أو الدفاع. يحدث نفس الشيء في الحياة. حيث تعلمنا الفلسفة أن لا شيء يحدث بالصدفة، ولكن كل شيء يحدث بالضرورة، وكل شيء يخضع لقانون؛ فإذا لم نكن على دراية بقانون ما فهذه مسألة أخرى. وفي كثير من الأحيان نطلق عليها اسم “الحظ” أو “الصدفة” إلى أن نصل إلى معرفة هذا القانون. ينطبق هذا الأمر كذلك على كرة القدم، فنقول: “إنها صدفة عظيمة، كم كان الخصم محظوظاً”.

يقول بعض المؤرخين أنه في القرن السادس قبل الميلاد ولدت الفلسفة في بلاد الإغريق. وأكد هؤلاء الإغريق الحكماء أن كل ما يحدث في الطبيعة يخضع لقانون. وأشاروا إلى أن هناك أحداثاً تحدث بانتظام، وإذا كان الأمر كذلك فيمكن التنبؤ بالأحداث!

يمكننا هنا أن نلاحظ عندما نرى لاعب كرة قدم يسدد ركلة حرة مباشرة على مرمى الخصم، ويحاول أن يتغلب على الحاجز الذي صنعه لاعبو الفريق المنافس. ونرى كيف تسير الكرة في مسار محدد ومثالي لتدخل مرمى الخصم. هل تعتقد أن هذا الهدف كان مجرد صدفة أو حظ؟ هناك الكثير ممن يعتقدون ذلك، إلا أن الأمر ليس كذلك، هناك الكثير من التدريب والجهد وراء هذه اللعبة. هذا شيء يمكننا أن نتعلمه من كرة القدم، بمعنى أننا في حاجة ماسة إلى بذل مزيد من الجهد من أجل الوصول إلى أهدافنا.

اقرأ أيضًا: لماذا لا تقترب الفلسفة من الناس؟

جوهر الأشياء

كرس سقراط جزءاً كبيراً من حياته في البحث عن جوهر الأشياء. فلقد كان يبحث عن قاسم مشترك في مفاهيم مثل الحقيقة والعدالة والخير، وما إلى ذلك، بهدف تعريفها. على سبيل المثال، للوصول إلى تعريف الطيبة، علينا أن نحاول إيجاد القاسم المشترك بين جميع الرجال الذين نصفهم على أنهم طيبون. وقد أكد سقراط أنه لإجراء هذا البحث، فمن الضروري أولاً الاعتراف بجهلنا، وإيقاظ ضميرنا، وقبل كل شيء تعلم التفكير في النفس. لكن مع الأسف الشديد من الصعب تعليم شخص يعتقد أنه يعرف أكثر مقارنةً بشخص يعترف بجهله.


قيمة الإخلاص

أخلاق كرة القدم
ماذا تعلمنا كرة القدم

إذا سألنا ما هو الخير؟ فمن المحتمل أن يخبرنا الكثير من الناس أن الخير هو شعور. وبنفس الطريقة، إذا سألنا العديد من محبي نادي الاتحاد السكندري عن سبب حبهم لهذا النادي على الرغم من عدم فوزه ببطولات، فمن الطبيعي أنهم سيقولون إنها مسألة إخلاص وانتماء، أي مشاعر ليس لديها سبب في العادة. لكن إذا تعمقنا في الأمر قليلاً، فقد نصل إلى استنتاج مفاده أن العديد من مشجعي هذا النادي يشجعونه من باب الإخلاص لمدينة الإسكندرية التي يعيشون فيها، والإخلاص لبعض الآباء الذين كانوا دائماً في هذا الفريق أو من مشجعيه.

إن الإخلاص قيمة عالمية تنتقد في عصرنا الحالي. ولهذا السبب لم يعد يقال “أنا مخلص لقيم هذا الفريق” ولكن نسمع عبارات مثل “أنا مشجع متعصب لذلك الفريق”. لقد تحولت كلمة الإخلاص في مجتمع اليوم إلى كلمة “التعصب” والمتعصب هو الشخص الذي يدافع عن معتقد أو رأي بشغف مبالغ فيه، ودون احترام معتقدات وآراء الآخرين. ربما نفهم الآن ما يحدث في العديد من ملاعب كرة القدم، وكيف تصور اللغة المستخدمة المجتمع.

لقد علمنا جميع الفلاسفة أنه من الضروري البحث عن هذا النظام في الحياة من أجل تحقيق السعادة. وبالعودة إلى الإخلاص، يمكننا أن نتحدث عن الإخلاص على أنه تماسك بين الفكر والشعور والعمل، والإخلاص للمثل الأعلى. دعونا نتذكر برشلونة مع بيب جوارديولا. كانوا جميعاً مخلصين للفريق وللفكرة والشعور والعمل، وعندما ينكسر هذا الإخلاص، يخسرون في العادة. إن القيام بما يجب علينا، كوننا مخلصين لقيمنا الإنسانية، له أهمية أكبر بكثير مما نتخيله؛ الاختيار بين السلوك الأخلاقي وغير الأخلاقي سيحدد صلابة بنائنا الداخلي.

اقرأ أيضًا: فلسفة القطط والبحث عن المعنى في الحياة

الفوضى والنظام

هناك لاعبو كرة قدم، بوجودهم على أرض الملعب، يجلبون النظام إلى فريقهم. لننظر مثلاً إلى لاعب مثل أبو تريكة مع منتخب مصر أو لاعب مثل تشافي مع منتخب إسبانيا، إنهم مثال للاعبين الذين يوجهون الفريق إلى الفكرة التي يريد المدير الفني للفريق تنفيذها. يقال عن مثل هؤلاء إنهم “يجعلون الفريق يلعب”. إذا تأملنا في مثل هذه الحالات سنجد أن هؤلاء اللاعبين هم الذين يشيرون إلى الطريق. ويجلبون النظام إلى الفوضى، لأن الأمر لا يتعلق فقط بتسجيل الأهداف، بل يتعلق بكيفية اللعب. فرحة الهدف هي لحظة، لكن الاستمتاع بلعب الفريق يمكن أن يستمر لمدة تسعين دقيقة من المباراة. وفي الحياة كذلك لا يتعلق الأمر بالعيش أكثر أو العيش أقل، إنه يتعلق بكيفية العيش.

اقرأ أيضًا: فلسفة إبيكتيتوس: أفضل الطرق لتحقيق السلام الداخلي

عالم المال وكرة القدم

الرأسمالية وكرة القدم
كيف دمر عالم المال كرة القدم

في بداية هذا المقال قلت إن ما نراه اليوم في العديد من ملاعب كرة القدم بعيد كل البعد عما نفهمه عن الرياضة. فهناك سحابة من المصالح الاقتصادية الغامضة التي غزت الرياضة جميعها. وأسوأ شيء هو أن المذهب التجاري يشمل الناس أيضاً؛ هناك حديث عن بيع أو شراء لاعب كرة قدم كهذا، أو أن قيمة لاعب كرة القدم هذا تصل إلى الملايين…؛ إنه يعطي الشعور بأننا في سوق العبيد. اقتحم المال عالم كرة القدم اليوم بطريقة دمرت جوهر هذه الرياضة، والقيم الكلاسيكية لها.

وبنفس الطريقة، فإن الوضعية في القرن التاسع عشر قادت الإنسان إلى الاقتراب من الحياة من وجهة نظر نفعية، مما تسبب في عدم الاهتمام بالبحث عن الجوهر؛ سقراط المسكين! أي أننا معنيين فقط بالحقائق – نتيجة المباراة – وهذه بالتأكيد مشكلة، لأن الأحداث تتغير، وإذا لم نبحث عن أسباب تلك الأحداث، فلن نتقدم أبداً.

اقرأ أيضًا: نظرة على فلسفة الفن والجمال

أسلوب حياة أخلاقي

أريد أن أنهي هذا التأمل الموجز بحدث وقع قبل بضع سنوات في إحدى مباريات دوري كرة القدم للهواة: لاعب لديه الكرة في منطقته جزاءه؛ فجأة يسمع صفارة ويظن أن الحكم أوقف المباراة. ثم يتوقف ويمسك الكرة بيده، يذهب إليه الحكم ويطلب تنفيذ ركلة جزاء؛ لقد أتت الصافرة من المدرجات. ولا يمكن إلغاء ضربة الجزاء، حاول اللاعب أن يخبر الحكم بما اعتقده، ولكن لا سبيل للعودة. أتى مهاجم الفريق المنافس المسؤول عن تنفيذ ركلة الجزاء واقترب من حارس المرمى، ثم حدث شيء لا يُصدق.

أخبر المهاجم حارس المرمى أنه سيلعب الكرة في الناحية اليمنى حتى يتمكن من إنقاذها. لكن الحارس لم يصدقه، واعتقد أنه يريد التلاعب به. وفي الحال لعب المهاجم الكرة ضعيفة في الناحية اليمنى ليلتقطها الحارس. كنت محظوظاً بما يكفي للدردشة مع هذا الحارس الذي قال لي: إنه لم يستطع فهم أسباب سلوك المهاجم المنافس. وفي ذلك الوقت، لم يكن لدي إجابة. أحياناً الصمت هو أفضل إجابة. لكني سأخبركم اليوم، كما أشرت من قبل، أن المهم ليس الفوز أو الخسارة، المهم هو كيف تلعب. الشيء المهم هو اختيار طريقة حياة تسمح لنا ببناء مبنى داخلي متين، بأساس أخلاقي عميق.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!