فلسفة أنبادوقليس ونظرية العناصر الأربعة في الفلسفة
أنبادوقليس هو أحد فلاسفة الطبيعة في عصر ما قبل سقراط؛ ويعود الفضل إليه في تأسيس نظرية العناصر الأربعة وهي العناصر التي تنشأ منها الطبيعة (الماء والهواء والتراب والنار). في هذا المقال نخوض معاً رحلة داخل عقل هذا الفيلسوف أنبادوقليس للتعرف أكثر على فلسفة أنبادوقليس.
من هو أنبادوقليس
عاش أنبادوقليس في الفترة (190 – 430 قبل الميلاد في صقلية. ونشأ في كنف عائلة عريقة كان لها علاقة بالسلطة القائمة؛ لكنها كانت ضد الديكتاتورية بجميع أشكالها. لذا دافع أنبادوقليس بشراسة عن الديمقراطية وقاوم الأرستقراطية. وقد حامت حول أنبادوقليس الكثير الشائعات خلال حياته وبعد مماته، حتى أصبح مصدراً لا ينضب للأساطير. حيث يُقال عنه أنه كان يستطيع شفاء المرضى وتسخير الرياح والتحكم في هطول الأمطار. ويعتقد كذلك أنه كان يؤمن بتناسخ الأرواح واتحادها في النهاية مع القوى الأسمى. وكان هذا الاعتقاد هو السبب في موته الغريب. حيث ألقى بنفسه داخل فوهة بركان ليثبت فقط لتلاميذه صحة اعتقاداته.
كان لأنبادوقليس أسلوب شعري مميز. فهو قد جمع أفكاره وآرائه الفلسفية في كتاب لكن لم يصلنا منه سوى قصيدتين فحسب أولهما، عن الطبيعة وثانيهما التطيهرات. وقد أشاد أرسطو بأسلوبه الرائع للدرجة التي جعلته يصف أنبادوقليس بأبو الخطابة. وفي السطور التالية نستعرض سوياً بعض أفكار أنبادوقليس الفلسفية.
فلسفة أنبادوقليس
تبدأ فلسفة أنبادوقليس من محاولته التوفيق بين رأى بارمنيدس وهيراقليطس. وكي نوضح الفكرة علينا في البداية أن نستعرض أفكار هذين الفيلسوفين. فلقد كان كل من بارمنيدس وهيراقليطس يعتنق كل منهما تصوراً حول طبيعة الوجود. حيث نرى بارمنيدس يؤمن إيماناً قاطعاً بالعقل الذي يشير إلى استحالة حدوث أي تغير حقيقي في الطبيعة. في حين أن هيراقليطس كان يرى أن الطبيعة تتغير باستمرار.
ولتبسيط الفكرة نقول إن بارمنيدس يرى أن من المستحيل وجود أي تحول حقيقي في الطبيعة. وبالتالي فإن حواسنا خادعة بصورة أو بأخرى، ولا يمكن التعويل عليها، لأن ما نراه من تغيير ما هو إلا وهم. أما هيراقليطس فيرى على العكس تماماً أن كل الأشياء تتغير وتتحول وهو ما نراه بأعيننا. لذا فكل الأشياء في تحول مستمر، وينبغي لنا أن نثق بحواسنا وما نراه.
كان من الصعب اتخاذ موقف من هذين الموقفين المتعارضين بشدة، فمن منهما على حق ومن منهما على خطأ. فكل منهما قدم العديد من الحجج التي تؤيد موقفه. لكن ظهر أنبادوقليس وحاول أن يخرجنا من هذا المأزق الفلسفي. وأوضح أن كلا من بارمنيدس وهيراقليطس كانا على صواب في إحدى النقاط، وعلى خطأ في النقطة الأخرى. ومن هنا حاول التوفيق بينهما.
التوفيق بين الرأيين
يرى أنبادوقليس أن سبب الخلاف الكبير الناشئ بين الفيلسوفين هو افتراض أن هناك مادة واحدة هي أصل كل الأشياء الموجودة في الطبيعة. وهذا الاعتقاد هو ما أدى إلى تلك الهوة الكبيرة بين ما يمليه علينا العقل من جهة وبين ما نراه بحواسنا من جهة أخرى. فمن الجلي أن الماء لا يمكن أن يتحول إلى سمكة أو فراشة. والواقع أن الماء لا يمكن أن يتغير. فالماء النفس سيظل على نفس حالته من النقاء. إذن كان بارمنيدس مصيباً عندما أكد على عدم تغير أي شيء.
أما بالنسبة لهيراقليطس فلقد اتفق معه أنبادوقليس كذلك في نقطة الإيمان بما تدلنا عليه حواسنا. لذا ينبغي أن نثق بما نراه بأعيننا، وفي هذه الحالة نحن جميعاً نرى أن الطبيعة تتغير باستمرار. ومن هنا توصلت فلسفة أنبادوقليس إلى استنتاج هام وهو أن فكرة وجود مادة أولية واحدة هي فكرة ينبغي رفضها. فلا الماء وحده يمكن أن يتحول إلى سمكة ولا الهواء وحده يمكن أن يتحول إلى فراشة. فالطبيعة لا يمكن أن تنشأ بأي حال من الأحوال من عنصر واحد. ومن هنا جاءت فكرة نظرية العناصر الأربعة التي نشأت منها كل الموجودات.
اقرأ أيضًا: كيف تساهم الفلسفة في حل مشكلات البشر؟ |
نظرية العناصر الأربعة
يعتقد أنبادوقليس أن كل الموجودات أو العناصر الموجودة في الطبيعة تنشأ من أربعة عناصر أو “أصول” كما أطلق عليها، وهذه العناصر الأربعة هي الماء والهواء والتراب والنار. وكل التغيرات التي تحدث في الطبيعة إنما تحدث نتيجة امتزاج هذه العناصر الأربعة وانفصالها. أما التغير الموجود في الطبيعة والتنوع فيها فيأتي نتيجة لتغير نسب هذه العناصر الأربعة وتفاوتها. فعندما تموت شجرة مثلاً أو حيوان تنفصل هذه العناصر الأربعة المكونة لهذه الأشياء وتتفرق من جديد لتكون عنصراً جديداً. ولذلك نرى التغير الموجود في الطبيعة. لكن هذه العناصر الأربعة تظل ثابتة لا تتغير فهي الأصل حتى بتحول أي شكل من الأشكال التي تدخل في تكوينها.
ومن هذا المبدأ نرى أن لا شيء يتغير ويقصد هنا أن العناصر التكوينية تظل ثابتة. إن ما يحدث بالفعل هو أن العناصر الأربعة تتحد وتنفصل ثم تمتزج وتتفرق من جديد في دورة لا نهاية لها. ولتبسيط هذا الأمر نعطي المثل التالي:
إذا كان لدينا رساماً ليس لديه سوى اللون الأحمر فقط، فمن المحال أن يرسم أشجاراً خضراء، لكن إذا كان لديه الألوان الأصفر والأسود والازرق فيكون لديه فرصة الرسم بمئات الألوان المختلفة إذا ما استطاع تغير نسبها في كل مرة يرسم فيها. ولنتصور هذه الفكرة بمثال آخر: فإذا كنا نحاول إعداد كعكة وليس لدينا سوى الدقيق فهل نستطيع أن نفعل ذلك، بكل تأكيد نجد أن من المستحيل أن نصنع كعكة فقط من الدقيق أما إذا كان لدينا اللبن والسكر والبيض فمن السهولة أن نصنع من هذه المواد الأربعة أنواعاً وأشكالاً لا حصر لها من الكعك.
لكن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه بعد أن استعرضنا نظرية العناصر الأربعة في فلسفة أنبادوقليس هو: لماذا أربعة عناصر بالتحديد؟ ولماذا هي النار والماء والتراب والماء وليس غيرها؟
اقرأ أيضًا: الفلسفة الكلبية: حل المعاناة عن طريق تدمير الكون |
من أين جاءت فكرة العناصر الأربعة؟
إذا عدنا قليلاً إلى الوراء نلاحظ أن فلاسفة الطبيعة الإغريق كانوا يحاولون التوصل إلى المادة الأولية التي تنشأ منها الموجودات في الطبيعة، فمنهم من اقترح أن الماء هو المادة الأولية ومنهم من اقترح الهواء ومنهم من رأى أن النار هي العنصر الأول. فلقد كان طاليس وانكسيمانس كلاهما مقتنع بأن الماء والهواء من عناصر الطبيعة الأساسية. أما بالنسبة للنار فكان الاعتقاد السائد لدى الإغريق أن الشمس ذات أهمية قصوى لحياة الكائنات الحية، كما لاحظوا أن جسم الانسان ينتج عنه حرارة تتفاوت نسبتها في كل وقت.
أما أنبادوقليس فلقد شاهد الأخشاب وهي تحترق وتتحلل رويداً رويداً حتى لا يبقى منها سوى الرماد، ومن هنا جاءت فكرة التراب. وخلال ملاحظته لاحتراق هذه الأخشاب كان يستمع إلى طقطقتها فاعتقد أنها هذه الطقطقة بسبب الماء، ولما رأى أن احتراق الأخشاب ينتج عنه دخان فربط بينها وبين الهواء. ومن هنا جاءته فكرة تجميع هذه العناصر الأربعة معاً ليصنع منها نظريته. وبعد أن أوضح أنبادوقليس أن كل التغيرات التي تحدث في الطبيعة تأتي نتيجة تفاعل أو اتحاد العناصر الأربعة وتفرقها لم يتبقى سوى أمر أخير عليه تفسيره، وهو لماذا تتجمع هذه العناصر لتخلق حياة جديدة؟
اقرأ أيضًا: السفسطائيون: كيف اكتسبوا هذه السمعة السيئة؟ |
الحب والكراهية في فلسفة أنبادوقليس
للإجابة على هذا السؤال أوضحت فلسفة أنبادوقليس أن هناك قوتين متعارضتين تؤثران في الطبيعة هما: الحب والكراهية. فالحب هو قوة التجميع والتوحيد أما الكراهية فهي قوة الفصل والتفرقة. وربما نلاحظ أن الفيلسوف أنبادوقليس هو من أوائل الفلاسفة الذين استطاعوا التمييز بين “العنصر” و “القوة” وهو التمييز الذي يقيمه العلم الحديث بين “المواد الأولية” وبين “القوى الطبيعية”. فالعلم الحديث يعتقد أن جميع الظواهر الطبيعية يمكن ردها إلى التآلف بين المواد الأولية والقوى الطبيعية المختلفة.
كذلك تساءل أنبادوقليس عن كيفية إدراكنا للأشياء من حولنا؟ فلماذا نرى؟ وكيف نرى؟ وقد حاول الإجابة على هذا السؤال وفقاً لنظرية العناصر الأربعة كذلك. حيث يقول إن العين البشرية مكونة – مثل كل شيء في الطبيعة – من التراب والماء والهواء والنار وبالتالي فإن عنصر التراب في العين سيدرك عنصر التراب فيما نراه، وكذلك يفعل عنصر الهواء والماء والنار. أما إذا فقدت العين أي عنصر من هذه العناصر الأربعة لسبب او لآخر مثل المرض على سبيل المثال فإنها لن تستطيع رؤية الطبيعة في كليتها.
المراجع:
- فلاسفة يونانيون – العصر الأول – د. جعفر آل ياسين.
- الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون – د. عزت قرني.