حكايات زانثيبي: زوجة سقراط سليطة اللسان

You are currently viewing حكايات زانثيبي: زوجة سقراط سليطة اللسان
هل ظلم التاريخ زوجة سقراط؟

كان سقراط أحد أعظم العقول في تاريخ اليونان القديمة، وهو النموذج الأول للرجل الحكيم، لكن يبدو أن حياته الزوجية لم تكن تسير على ما يرام، فالتاريخ يخبرنا أنه كان متزوجاً من امرأة سليطة اللسان، قوية الشخصية عانى على يدها أشد المعاناة، حيث كانت تسيء معاملته على الدوام، ولذلك أصبحت مثالاً للزوجة الخبيثة، فهل كان الأمر كذلك أم هناك مبالغة في قصتها. في السطور التالية نتعرف بمزيد من التفصيل على قصة زانثيبي زوجة سقراط المتمردة ذات الشخصية القوية.

ذُكرت زانثيبي زوجة سقراط في حوارت أفلاطون، وفي كتابات المؤرخ اليوناني زينوفون، وهما تلميذان من تلاميذ سقراط. عاصرها الاثنان وعرفاها حق المعرفة أكثر من هؤلاء المؤرخين الذين كتبوا عنها الكثير من الحكايات بعد مضي قرون عديدة. يتحدث أفلاطون عن زانثيبي دون أن يشير إلى طريقة معاملتها، في حين يشير زينوفون إلى شخصيتها القوية العاصفة دون أن يشير إلى أنها كانت على علاقة سيئة بسقراط أو أنها أساءت معاملته. ورغم أن معاصري زانثيبي لم يذكروا بحال من الأحوال أنها كانت زوجة شريرة إلا أن العديد من المؤلفين اللاحقين استخدموا المعلومات القليلة التي لديهم من أجل نسج صورة انتقلت من التمرد والقوة وسلاطة اللسان إلى مثال للزوجة الخبيثة.

لمحات من حياة زانثيبي زوجة سقراط

وُلدت زانثيبي حوالي عام 435 قبل الميلاد، وكانت أصغر من زوجها سقراط بحوالي 40 عاماً، أنجبت له من الأبناء ثلاثة: لامبروكليس، وسوفرونيسكوس، ومينكسينوس. ويُعتقد أن زانثيبي كانت من عائلة ذات مكانة عالية، وأحد الأسباب التي تدعم هذه الفرضية هو أن ابنها الأكبر لامبروكليس سُمي على اسم والدها بدلاً من اسم سقراط. حيث كان من المعتاد في أثينا القديمة تسمية الابن الأكبر على اسم الجد الأكثر شهرة.

يصور أفلاطون في الفيدو، وهي أحد حواراته زانثيبي كونها أم وزوجة طيبة، كذلك أشار إليه زينوفون في كتاباته إلا أنه كان يراها واحدة من أصعب النساء اللاتي يصعب التعامل معهن. وعلى الرغم من ذلك يُنظر إليها اليوم على أنها كانت زوجة مشاكسة وقمعية جعلت حياة سقراط بائسة.


لماذا تزوج سقراط من زانثيبي

لم يتزوج سقراط من زانثيبي لأنه انجذب إلى جمالها أو لأنه اعتقد أنها ستكون أماً متفانية، بل تزوجها بسبب مزاجها الناري وجدالها. حيث يُقال إنه اختارها لأنه كان يعلم أن طبيعتها الجدلية ستزيد من تفكيره الفلسفي. يعني اسم زانثيبي الحصان الأشقر، ولقد كان سقراط يستخدم اسم الحصان دوماً في الإشارة إلى زوجته، فعندما سُئل عن شخصيتها العنيدة أجاب أن من يريد أن يكون فارساً جيداً لا يمتطي الخيول سهلة الانقياد، ولكن أكثر الخيول جموحاً، وإذا تعلم المرء كيفية قيادة الخيل البري، فهذا يعني بالضرورة أن بإمكانه قيادة جميع أنواع الخيول. ولذلك فإن سقراط إذا استطاع أن يتعامل مع الطباع الصعبة لزوجته، يمكنه أن يتعامل مع أي إنسان.

اقرأ أيضًا: معضلة قنفذ آرثر شوبنهاور وبعض المعضلات الغريبة الأخرى

بعد الرعد يأتي المطر

وعلى الرغم من قول سقراط أنه تزوج من زانثيبي بسبب شخصيتها المشاكسة، إلا أنه كان نادراً ما يرد عليها. ففي كل مرة تشن عليه زانثيبي  هجوماً لفظياً وحشياً عليه، كان سقراط يبتعد بخنوع ويجلس على عتبة الباب. وفي أحد الأيام، أرسلته إلى السوق لشراء عدة أشياء. وعند عودته إلى المنزل، اكتشفت زوجته أنه نسي شراء أحد الأشياء. هنا ثار غضبها وانهالت عليه بالسباب، مما دفعه إلى المشي ببطء إلى عتبة الباب. جلس هناك وطمأن نفسه بأفكار فلسفية عميقة. ثم خرجت زانثيبي حاملة دلواً مليئاً بالماء وسكبته على رأس سقراط. رأى الجيران والمارة ما حدث وسألوا سقراط لماذا لم يقل أي شيء لزوجته. أجاب سقراط أثناء مسحه للماء من وجهه: “بعد الرعد يأتي المطر”.

اقرأ أيضًا: السفسطائيون: كيف اكتسبوا هذه السمعة السيئة؟

زوجة جدلية وأم طيبة

أوضح أفلاطون أنه في الصباح الذي أُبلغ فيه بحكم الإعدام على سقراط، ذهب إلى زنزانته مع أكبر أبناءه – لامبروكليس – الذي كان مراهقاً في ذلك الوقت، وكما روى زينوفون في أحد أعماله، اشتكى له ابنه من تسلط أمه وشخصيتها السيئة والتوبيخ المستمر، فما كان من سقراط إلى أن طلب منه أن يتحلى بفضيلة الامتنان، لأن والدته تحبه وهي التي أحضرته إلى العالم واعتنت به حين مرضه، وصلت للآلهة من أجله، كل هذا دون أن تتلقى أي شيء في المقابل. وهكذا كانت زانثيبي أماً جيدة، وإن كانت متطلبة.

لم يعرف عن  زانثيبي شيئاً بعد وفاة الفيلسوف. هذا على الرغم من أنها عاشت فترة حداد على زوجها لقرابة السنة، وفي نهايتها دعت جيرانه وأصدقائه لتناول العشاء، كما هو معتاد. وفي تلك الأمسية تذكروا الرجل الحكيم وتحدثت المرأة عن الحب الذي شعرت به تجاه زوجها.

اقرأ أيضًا: فلسفة إبيكتيتوس: أفضل الطرق لتحقيق السلام الداخلي

هل كان سقراط زوجاً سيئاً؟

وكما وصفها أفلاطون في الفيدو كانت زانثيبي زوجة مخلصة، وظلت بجانب سقراط حتى إعدامه، لكن يبدو أن سمعتها السيئة كونها امرأة سليطة اللسان ومشاكسة على الدوام والتي التصقت بها على مدار قرون أتت من كتابات أنتيستنيس وكلاوديوس إليانو. ولكن كان الإجماع السائد حول هذه المرأة هي أنها كانت زوجة جدلية ومثيرة للمشاكل، وكانت مصدر الكثير من الصداع للفيلسوف. لكن لكي نكون منصفين، كانت هناك بعض الأسباب التي تجعل من سقراط زوجاً سيئاً إلى حد ما، وشخص يصعب العيش معه.

أراد سقراط أن يجادل

في ندوة زينوفون[1] سُئل عن سبب تحمّله لزوجته، فيجيب سقراط على هذا بوضوح أنه تزوج زانثيبي على وجه التحديد بسبب طبيعتها الجدلية. لقد كان تفكيره أنه إذا كان بإمكانه تحملها والتحكم في أعصابها النارية، فيمكنه التعامل بسهولة مع أي شخص آخر في أثينا. لذلك لم يتزوج سقراط من زوجته لأنه أحبها، أو لأنها كانت أماً مخلصة، أو حتى لأنها كانت جميلة، بل تزوجها حتى تصبح شريكة تدريب في رحلاته الفلسفية، وإن كانت على الأرجح غير راغبة. أنا لست مستشاراً للزواج، لكن إذا تزوجت امرأة ما لغرض وحيد هو الجدال معها، فلا تتفاجأ عندما ترمي وعاء الماء فوق رأسك.

لم يكن لدى سقراط عمل

تخبرنا السجلات التاريخية أن سقراط كان يعلم تلاميذه الفلسفة، ورفض قبول أي أموال مقابل خدماته. فعل هذا من مبدأ أن السعي وراء الحكمة والحقيقة هي المكافآت الوحيدة التي يحتاجها الفيلسوف. بينما يذكر سقراط مراراً وتكراراً أن لديه القليل جداً من المال[2]. هذا شعور نبيل إلى حد ما. لكن ماذا عن زوجته وأطفاله؟ إنهم أولئك الأشخاص الذين يعتمدون على سقراط في إعالتهم، ووضع الطعام على مائدتهم. لكن وقبل أن تقرر أن تخبرني أن الحصول على المال كان سيقضي على فضيلة سقراط الفلسفية، أود أن أذكرك أنه كان هناك الكثير من الفلاسفة الآخرين الذين يختلفون معنا.

أرسطو واحد منهم، ففي صفحات كتابه “علم الأخلاق إلى نيقوماخوس”[3] يخبرنا أرسطو كيف يجب أن نتبع الحكمة والفهم من أجل مصلحتنا. فالسعي وراء المعرفة يقودنا إلى حياة سعيدة. لكن وجود سقف فوق رؤوسنا وطعام على طاولاتنا ليس شيئاً يمكننا تجاهله. فالرجل يحتاج إلى بعض المال سواء كان فيلسوفاً أم لا. وهذا لا يعني أن سقراط كان بحاجة إلى أن يصبح ثرياً، ولكن القليل من الدخل قد يكون جيداً.

ومع ذلك، من المحتمل أن زانثيبي لم تكن بحاجة إلى سقراط لإحضار الفلافل. حيث يُعتقد أنها تنحدر من عائلة ثرية، ونفترض ذلك لأن ابنها الأكبر لامبروكليس سُمي على اسم جده لأمه. وهذا الأمر غريب جداً، فالتقليد القديم يملي تسمية الابن الأول على اسم جده لأبيه. والاستثناء الوحيد هو إذا كان الجد للأم ثرياً أو يحظى باحترام كبير في المجتمع. فإذا كان هذا صحيحاً، فمن الممكن أن يكون سقراط كان يعتمد على أموال عائلة زوجته، وهنا يظهر سقراط وكأنه زوج عالة، وإن كان فيلسوفاً لامعاً.

شرب سقراط مع رفاقه

إذن، لدى سقراط زوجة مزعجة وليس لديه وظيفة. فما هي الخطوة التالية في هذا الكليشيه المتعب؟ يذهب للشرب مع رفاقه بالطبع!

أطلق عليها الإغريق القدماء ندوات. وقد كانت عنصراً ثقافياً أساسياً للفلاسفة والمواطنين العاديين على حدٍ سواء. بينما يحضر الندوة الرجال الذين كانوا يشربون من وعاء نبيذ مشترك، وبمجرد أن يشرب الجميع يبدأون في مناقشة فلسفية. سقراط في هذه الندوات مع جميع أصدقائه. لكن أين زانثيبي؟ أفترض أنها في المنزل بمفردها تتساءل متى سيتعثر زوجها المخمور على باب البيت.

أحب سقراط شخصاً آخر

يعترف سقراط بأنه يحب شخصاً آخر، وبالتحديد رجل، وليس امرأة. وهو السبياديس[4] القائد العسكري والشاب الوسيم، ولم يكن من غير المألوف أن يقيم رجلان علاقة رومانسية في عصر اليونان الكلاسيكية. ففي محاورة جورجياس لأفلاطون، يخبرنا سقراط كيف أنه عاشق السبياديس. لقد ظهر القائد العسكري بشكل مفاجئ خلال إحدى الندوات، وحكى عن إعجابه بسقراط وكيف حاول إغوائه في مناسبات عديدة. فهل تعتقد أن زانثيبي زوجة سقراط ستكون سعيدة لأن زوجها يتجول ليخبر أثينا بأكملها أنه يحب شخصاً آخر. هذا النوع من السلوك لا يشير إلى زواج صحي على الإطلاق.

اقرأ أيضًا: سيلفيا بلاث: الكاتبة التي أرادت أن تكون الإله

زانثيبي في النصوص الكلاسيكية

كانت زانثيبي واحدة من أكثر النساء تعرضاً للهجوم في النصوص الكلاسيكية، وتداول العديد من الأدباء والفلاسفة قصتها باعتبارها مثال للزوجة الخبيثة التي جعلت حياة زوجها حجيم مستعرة. ففي “حكايات كانتربري” لجيفري تشوسر، ذكر قصص النساء سيئات السمعة وكانت زانثيبي إحداهن. كذلك استخدم شكسبير شخصيتها في “ترويض النمرة” لمقارنة بطلته كاترينا بها، قائلاً إنها “مثل زانثيبي أو أسوأ.” كما ذكرها إدغار آلان بو في إحدى قصائده.

وفي الفلسفة نجد نيتشه يمزح قائلاً: “وجد سقراط المرأة التي يحتاجها، فلقد شجعته دائماً على إنجاز مهمته الأصلية، من خلال جعل منزله غير صالح للسكن وغير مضياف، وكانت هي التي علمته العيش في الشارع والتجول في كل مكان، مما جعله أعظم ديالكتيك في شوارع أثينا”.


في الختام ربما تكون الحكايات التي نُقلت عن زانثيبي حقيقية وربما تكون من وحي الخيال، إلا أن هذه المرأة كانت الرفيق الذي احتاجه الفيلسوف العظيم في جميع الأوقات لإثبات أن المرأة هي المكمل للرجل والمتساوي معه.

المراجع

[1] Symposium (Xenophon).

[2] Apology by Plato.

[3] Aristotle’s Ethics.

[4] Alcibiades.

اترك تعليقاً