أسلوب حياةفلسفة

الأسرار: قصة الصراع القديم بين التكتم والإفشاء

يحمل الكثير منا أسرارًا لا تعد ولا تحصى، ومن النادر وجود إنسان يعيش بلا أسرار. تُظهر الأسرار أن العالم خطير، وأننا ضعفاء، وأن هناك أعداء، وأن قوة الحقيقة يمكن أن تكون سبيلًا إلى النضج العقلي، ولكنها أيضًا تطغى علينا، وهذا يعتمد على مَن يعرفها ومَن يمارسها.

معركة الكشف والإخفاء

الصمت ليس كذبًا، وإن كان يشبهه كثيرًا، فالصمت إخفاء وتمويه، يخفي حقيقتنا عن أعين الآخرين. إذن يمكن اعتباره كذبة ضرورية أو على الأقل لها ما يبررها، فربما تكون هناك نظرات في العالم تسعى إلى إيذاءنا. إننا نحمل الكثير في داخلنا لا نريد الكشف عنه، ولهذا السبب تعلمنا جميعًا مهارة الإخفاء. ويتكرر الصراع القديم بين الإخفاء والكشف في شكل معركة، منذ أن أصبحنا ندرك الهاوية التي تفصلنا عن بعضنا البعض، وخاصة المقربين منا في كثير من الأحيان. فمعرفة أسرارنا تمنح الآخر الأفضلية علينا، ولهذا نفضل البقاء في الظل مع أسرارنا.

الغريب أن الأسرار، وكذلك الأكاذيب الناتجة عنها، تجعل الحياة ممتعة. وربما تكون هناك شجاعة كبيرة في قول الحقيقة، لكن السرية في حد ذاتها لا تجعلنا جبناء. إن الأسرار التي هي الإخفاء، ترتعش بدافع غامض يتطلب إظهارها للعالم. فالمرأة التي تغطي جسدها بغيرة هي التي توقظ الرغبة الشديدة في العري؛ فما يتم تغطيته يطلب الاعتراف. وكلما أخفينا أسرارنا أكثر، كلما زادت صعوبة حثها على الخروج إلى النور. أما الأغرب من ذلك أن معظم حياة الآخرين لا تهمنا، ولكننا نتوق إلى معرفة أي شيء يبدو لنا أنه مخفي عن عمد. وهكذا تبدأ رحلة الفخاخ والشك والقلق.

أسرار وأكاذيب

أجمل ما قيل في كتم الأسرار
علاقة الأسرار بالأكاذيب

الحقيقة هي أن أسرار المرء مصدر قلق، ولكن أسرار الآخرين هي مصدر فضول. وكلما زاد الجهد المبذول للحفاظ عليها، كلما زاد الفضول. ربما لا نملك الحق في التدخل في حياة الآخرين الخاصة، لكننا نريد ذلك على أي حال. ويمكن أن يعود السبب وراء ذلك، أن الآخرين لهم أهمية بالنسبة لنا، حيث نتوقع منهم أشياء. وفي واقع الأمر، فإن معظم الأشياء التي يفكر بها الآخرون أو يشعرون بها لا نبالي بها. ولكن عندما نشتبه في التستر المتعمد لشيء ما، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل سيؤدي ذلك إلى تورطي بطريقة ما؟ هل يخطط لشيء ما ضدي، أو شيء يمكن أن يؤثر علي؟

ومن ناحية أخرى، تحاصرنا الأسرار، مثل الأكاذيب. ومن أجل الحفاظ على سر، عليك أن تراقب نفسك باستمرار. فمن السهل أن تخون نفسك بطيش، وبتفاصيل غير متماسكة. دعونا لا ننسى أن الآخرين يراقبون دائمًا، والبعض الآخر خبراء في فك ألغازنا والتدخل فيها. وفي بعض الأحيان يتعين علينا أن نقدم تفسيرات ومبررات حتى لا تظهر أسرارنا، ولذلك فإن الأسرار تقودنا بسهولة إلى الكذب، ثم تأتي الكذبة الأولى فتتبعها الثانية، حتى تلتف الأكاذيب حول رقابنا. ومعظمنا أخرق في الكذب كما هو الحال في الاختباء.

من هذا المنطلق يتبين لنا أن في كل اعتراف هناك شيئًا يتحرر بداخلنا، وتقول الحكمة القديمة أن الحقيقة تحررنا، ولعل الحرية الأساسية هي ما تمنحنا إياه الصراحة والشفافية. لكن لا ينطبق ذلك على الجميع، فلا يمكننا أن نكشف عن جميع أسرارنا للجميع، بل مع مَن يستحق فقط.

الأسرار المشتركة وقود الحب والصداقة

فن كتم الأسرار
الصداقة المشتركة وحفظ الأسرار

يتغذى الحب والصداقة إلى حد كبير من خلال الأسرار المشتركة، لأن الأسرار هي وحدة مؤلمة، تكافح للوصول إلى الآخر. إن الشخص المحبوب هو صديقنا المقرب، وشاهدنا، والمدافع عنا، وبفضله نبقى مرتبطين بالإنسانية. يشاركنا الصديق أسرارنا ويحررنا للحظات من أقنعتنا الثقيلة. يُنهي الاعتراف الجهد المكلف للسرية، وربما لهذا السبب يتعمد جزء منا البحث عن الشخص والطريقة التي يريح بها نفسه من تلك المهمة المرهقة؛ حتى لو كانت تنطوي على مخاطر.

نحن جميعًا بحاجة إلى المقربين. المشكلة هي أننا ننقل للآخرين توتر الإخفاء الذي كنا نتحمله بمفردنا في السابق. لذلك فإن معظم الأسرار تُصنع للخيانة: اعترافي للآخر يتطلب اعتراف الآخر لي. لكن في الواقع لا ينتهي هذا الأمر إلى معرفة كل شيء تقريبًا عن الآخرين، وما لا يعرفه الآخرون يحاولون إكماله بتفاصيل خيالية، لينتهي الأمر بحقيقة مطعمة بالأكاذيب.

الحقائق والأساطير

إن قصتنا هذه التي تم سردها بنبرة هادئة، ونصف مخترعة، هي ظاهرة مثيرة للاهتمام للغاية. وربما تتلاشى في غياهب النسيان، لكنها قد يؤدي أيضًا إلى تحويلنا إلى رسوم كاريكاتورية وأساطير، إلى شخصيات خيالية تتقاطع مع الشخصيات الحقيقية وتحل محلها أحيانًا. ويمكن للمرء أن يستفيد من الأساطير التي تعيد خلقه على سبيل المثال قول أحد الأشخاص عن شخص ما “من الأفضل ألا تضايقه، فهو حساس جدًا!”؛ “لا تجادل معه طويلًا، فهو سريع الغضب”. كما يمكن أيضًا أن تعوقه هذه الأساطير على سبيل المثال: “أنا لا أستطع التحدث معه، فهو حساس للغاية!”؛ “لن أخبره بأي شيء، فهو سريع الغضب”. إنها فكرة جيدة أن نتناقض مع ما هو متوقع منا من وقت لآخر، لذلك لن يتأكد الآخرون أبدًا من أنهم يعرفوننا تمامًا.

لا يمكن لأحد أن يعيش دون الاعتراف بأي شيء، حيث سيقع تحت طائلة الغرق في شعور الوحدة الأكثر إزعاجًا؛ وربما لا نستطع العيش أيضًا بالكشف عن كل شيء. ولعل القوة التي تمنحها لنا الأسرار هي، قبل كل شيء، إمكانية تصنيف سريتها: فهي تتطلب الكثير من الدقة، وربما الإتقان، لمعرفة ما يجب قوله والكشف عنه وما هو المناسب لبقائه في طي الخفاء على الأقل في الوقت الحالي. فكل لحظة لها متطلباتها، ولكل مناسبة ظروفها. هناك أشياء لا ينبغي لأحد أن يعرفها، وهناك أشياء يمكن الكشف عنها، وقد يكون الاعتراف سلاحًا ذو حدين، فهو ينقّي أنفسنا من الداخل، لكنه يمكن أن يرتد إلينا، وينقلب ضدنا، فكل ما تقوله يمكن أن يستخدم ضدك، لذا يكمن التحدي في معرفة كيفية التكتم والكشف.

هوامش

1.    Author: Kirsten Weir, (09/01/2020), Exposing the hidden world of secrets, www.apa.org, Retrieved: 06/28/2024.

2.    Author: Anita E. Kelly, (01/01/2002), The Psychology of Secrets, www.link.springer.com, Retrieved: 06/28/2024.

3.    Author: Angie Voela, (03/20/2023), In Defense of Secrets, www.ncbi.nlm.nih.gov, Retrieved: 06/28/2024.

 

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!