فلسفة

نشأة الفلسفة: أصول الفكر الفلسفي ما قبل سقراط

عندما ينساب الفكر عبر عصور الزمن، يبدأ رحلة بحثه عن الحقيقة من أعماق الأسطورة إلى قمم العقلانية، حيث وُلدت الفلسفة كفجر جديد في سماء الإنسانية. تفتحت بذور الحكمة الأولى على أيدي الفلاسفة الأوائل في شواطئ بحر إيجه، وبين أمواج الأساطير اليونانية. هنا، بدأت العقول تبحث عن جوهر الكون وسر الوجود، متحررة من قيود الخرافة، لتضيء طريق العقل بنور المنطق والاستدلال. دعونا نخوض رحلة إلى مجاهل التاريخ لنتعرف على نشأة الفلسفة منذ البدايات..

عرّافة دلفي

ارتبطت الحكمة اليونانية بمهمة عرّافة دلفي، التي كانت مركزًا للتنبؤ السياسي والديني. كانت العرّافة، المعروفة باسم “بيثيا”، تصدر صرخات وعبارات غير مترابطة، يتم تفسيرها بواسطة كهنة معينين حضروا احتفال العرّافة. ولم تكن الإجابات التي تقدمها بيثيا واضحة أو مباشرة، مثل: “نعم، اذهب وهاجم ذلك البلد”، أو “لإنقاذ المدينة من هجوم الفرس عليك بناء أسطول”، وبدلاً من ذلك، كانت تقدم إجاباتها في شكل ألغاز غامضة. يمكن تقديم مثالين على ذلك: استشارة كرويسوس، واستشارة الإغريق خلال الحروب الفارسية.

كان كرويسوس (560 – 546 قبل الميلاد) آخر ملوك ليديا. يروى أنه أرسل استشارة إلى عرّافة دلفي عندما كان يستعد لغزو الأراضي الفارسية لمعرفة ما إذا كان الوقت مناسبًا. جاء رد العرّافة على النحو التالي: “إذا عبرت نهر هاليس (الذي يشكّل الحدود بين ليديا وفارس)، ستدمر إمبراطورية عظيمة”. فسرت الإجابة على أنها إشارة إلى الإمبراطورية الفارسية، لكن الإمبراطورية العظيمة التي دمرت في تلك المعركة كانت مملكته هو، حيث أصبحت ليديا تحت سيطرة الفرس.

أما الإغريق، عندما سألوا العرّافة عن كيفية تجنب التهديد الفارسي، جاء الجواب: “بجدار خشبي”. بعض الأثينيين، عندما غزا الفرس المدينة، لجأوا إلى الأكروبوليس ودافعوا عنها بجدار من الألواح الخشبية… لكنهم قتلوا جميعًا. بعد انتهاء الحرب مع الفرس، أدرك الإغريق أن “الجدار الخشبي” كان يعني بناء أسطول حربي يمكنهم من التحرك بسرعة في الحرب؛ وبفضل هذا الأسطول، تمكنوا من الانتصار على الفرس[1].

نرى أن حكمة العرّافة نشأت من “الجنون“، حيث تبدو حكمة العرّافة كحكمة غامضة، متعددة الأوجه، تفتقر إلى القصدية، وهي غير منطقية ومتعجرفة إلى حد ما. قدمت الحكمة اليونانية نفسها في البداية كلغز يعكس الغموض الذي لا يمكن إدراكه.

ظهور الجدل

تاريخ الفلسفة اليونانية
ظهر الجدل كلعبة تنافسية بين طرفين

لفهم العلاقة بين الحكمة والفلسفة، علينا أن نعود إلى بداية ظهور الجدل.. عندما نسمع مصطلح الجدل، قد يتبادر إلى أذهاننا هيغل أو حتى أفلاطون وطريقته في الصعود عبر “سلّم الأفكار”. لكن الجدل في بداياته كان شيئًا مختلفًا تمامًا. كان عبارة عن لعبة تنافسية بين طرفين، مواجهة لفظية حيث يسعى أحدهما إلى إثبات خطأ رأي الآخر.

تشبه الطريقة السقراطية في التوليد الذهني هذه الفكرة. كان أحد الأطراف يدّعي رأيًا معينًا، ثم يتدخل الطرف الآخر، “الجدلي”، في صراع لفظي لإظهار أن هذا الرأي خاطئ أو وهمي. يتم ذلك من خلال أسئلة قصيرة تبدو أحيانًا غير مرتبطة بالموضوع، ليتمكن الجدلي في النهاية من جعل خصمه يقع في تناقض يظهر أن رأيه الأصلي متناقض ذاتيًا.

يبدأ الجدل من أحد طرفي اللغز ليصل إلى الطرف الآخر؛ هدفه ليس التأكيد، بل النقض. كان الجدل لعبة تنافسية ذات طابع هدّام في بداياته، ولا يزال مرتبطًا بذلك العمق الغامض الذي تشير إليه الحكمة. يعلّق الجدل الأحكام حول الواقع، ويكشف عن خواء عالم الكلمات، مما يبعدنا عن استنتاج الحقائق ويدمر أساس المفاهيم التي نبني عليها حياتنا. يظهر الجدل الوجه السلبي والمدمر للحكمة. وربما نرى ذلك في قصيدة بارمنيدس ومفارقات زينون أبناء هذه المدرسة الجدلية. ومع ذلك كان ظهور الجدل هو بداية نشأة الفلسفة الفعلية.

بداية نشأة الفلسفة

ظهرت الفلسفة مع فلاسفة ما قبل سقراط في القرن السادس قبل الميلاد في آسيا الصغرى، تحديدًا على الساحل المطل على بحر إيجه في تركيا الحالية. شجع موقع هذه المنطقة الاتصال بين الثقافات المختلفة عبر طرق التجارة التي اجتازت البحر الأبيض المتوسط، فضلًا عن موقعها الجغرافي الذي يربط أوروبا بآسيا، مما ساعد في التواصل المباشر مع شعوب ذات عادات متنوعة. كما أتاح غياب طبقة كهنوتية تهتم بالعقيدة الدينية في الدين اليوناني القديم المجال لاستبدال التفسيرات الأسطورية، التي صاغها الشعراء، بتفسيرات عقلانية، وهي ما يعرف بالفلسفة.

لم تكن الحدود بين الفلسفة والدين والشعر واضحة في البداية. على سبيل المثال، اعتبر الفيلسوف الأول في الغرب، طاليس الملطي، أن أصل العالم هو الماء. لم تختلف هذه النظرية كثيرًا عما طرحه بعض الشعراء الدينيين الإغريق الذين اعتقدوا أن المحيط هو أصل الكون. لكن بالنسبة لطاليس، يمكن للماء أن يتحول إلى حالات صلبة وسائلة وغازية، مما يمنحه القدرة على تكوين كل المادة التي نراها؛ إضافةً إلى أن جميع الكائنات الحية تحتاج إلى الماء وتعتمد عليه في بنيتها البيولوجية. هذا النهج الجدلي هو ما يميز نشأة الفلسفة الجديدة، وهو مختلف جذريًا عن التفكير الأسطوري.

نشأة الفلسفة مع فلاسفة ما قبل سقراط

تاريخ الفلسفة اليونانية
ظهر السفسطائيون قبل زمن سقراط

كان من الفلاسفة ما قبل سقراط الذين أظهروا هذا الارتباط الأولي بين الأسطورة والفلسفة هم أتباع المدرسة الفيثاغورية. بالنسبة لفيثاغورس وأتباعه، فإن العالم المادي هو مجرد وهم، بينما توجد الحقيقة الكاملة في الرياضيات. وبينما انشغلوا بالبحث الرياضي الدقيق، كانوا يمارسون أيضًا طقوسًا للتطهير ولديهم معتقدات روحية مثل تناسخ الأرواح.

اختلفت نشأة الفلسفة في القرن الخامس قبل الميلاد بشكل أوضح وتمايزت عن الأسطورة مع فلاسفة مثل أنكساغوراس، الذي رأى أن الحركة الموجودة في الكون أُدخلت في البداية بواسطة “عقل” لا يتسم بالطابع الشخصي أو التدخلي الذي تمتاز به آلهة الأساطير. ووفقًا لأنكساغوراس، بمجرد أن أدخل هذا “العقل” الحركة في الكون، فلقد كف عن التدخل فيه[2].

شهدت اليونان في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد ازدهارًا ثقافيًا، وبرز في هذا السياق السفسطائيون، وهم معلمون متنقلون قدموا أنفسهم كمربين جدد للشباب الإغريقي. وقد علّموا تلاميذهم كيفية الدفاع عن أنفسهم في المجال السياسي مقابل أجر. وكان لدى السفسطائيين موقفًا نسبيًا فيما يتعلق بالأخلاق والسياسة والمعرفة بشكل عام. ولعل من أشهر العبارات التي تُنسب إلى السفسطائي بروتاغوراس:

الإنسان هو مقياس كل الأشياء..

كان الأثيني سقراط من أبرز من واجه السفسطائيين، حيث كان يؤمن بإمكانية الوصول إلى معرفة موضوعية للفضيلة والحقيقة. ومن خلال عبارته الشهيرة

أنا لا أعرف سوى أنني لا أعرف شيئًا..

كان يريد أن يوضح أن المعرفة بالفضيلة ممكنة، لكنه لم يدّعِ الوصول إليها، معتبرًا نفسه أكثر حكمة من أولئك الذين يعتقدون أنهم يعرفون الفضيلة، مثل السياسيين والسفسطائيين والشعراء، في حين أنهم في الواقع يجهلونها. وبسبب نقده اللاذع للطبقة السياسية الأثينية، حكم على سقراط بالموت في شيخوخته، لكن تلميذه أفلاطون استمر في انتقاد الديمقراطية والنسبية الأخلاقية.

أصول الخطابة

كان جورجياس من أفصح أهل زمانه، وله مؤلف “عن الطبيعة أو عن اللاوجود”. تعد أعماله ذات طابع جدلي بامتياز، حيث أسس ثلاثة مبادئ رئيسية:

  1. لا شيء موجود.
  2. إذا وُجد شيء، فهو غير قابل للمعرفة.
  3. إذا كان من الممكن معرفته، فهو غير قابل للتواصل عبر اللغة.

بدأت الخطابة مع جورجياس، وهي الوريثة الشرعية للجدل، ولكنها تختلف عنه في عدة جوانب مهمة. أولاً، لا تسعى الخطابة إلى تدمير وهم التأكيدات، بل تهدف إلى بناء نظرية تغري جمهورًا واسعًا. لم تعد الخطابة تحمل الطابع التنافسي الصارم للجدل ولا طبيعتها الهدامة. ثانيًا، الخطابة ليست مجرد لعبة أو صراع مرح بين خصمين؛ بل تسعى من خلال الإقناع إلى امتلاك القوة التي توفرها جاذبية الكلمات.

تنطلق الخطابة من الشك التدميري الظاهري الذي يتسم به الجدل، لكنها تبتعد عن الغموض العميق المرتبط بالألغاز، لتدخل الساحة العامة، سواء في الأغورا أو في المجالس. باختصار، تسعى الخطابة إلى السلطة. ومع ذلك، تظل الخطابة تعبيرًا شفهيًا، وبالتالي تعبيرًا حيًا. تدرك الخطابة ذاتها جزئية النظريات التي تطرحها، وتخترع تقنيات للإغراء والإقناع دون أن تهدف إلى الوصول إلى “الحقيقة”..

اتخذت الفلسفة هذا المنحى مع أفلاطون. حيث استمرت الفلسفة في محاولة الإقناع، واحتفظت بتلك “الرغبة في القوة” التي تمتلكها الخطابة. كانت الفلسفة خطابًا أخذ نفسه على محمل الجد. وقد حدث هذا التحول بسبب استخدام الكتابة. فلقد كان من النادر استخدام الكتابة قبل أواخر القرن الخامس قبل الميلاد. لم يكتب سقراط أي شيء، وعندما كانت تُستخدم، كانت تُعتبر وسيلة لتقوية الذاكرة أكثر من كونها أداة علمية.

ومع انتشار الكتابة في القرن الخامس قبل الميلاد، بدأ الناس بقراءة الخطابات كما كتبت. وهكذا ظهرت الفلسفة كما نعرفها: خطابًا مكتوبًا. هذا التحول جعل الفلسفة تأخذ خطوة أبعد تبعدها عن الحياة، عن الحكمة، وعن الألغاز.

كان أفلاطون، الذي يعتبر في كثير من النواحي أول فيلسوف، واعيًا بهذا التغيير. وكان يرى الفيلسوف على النقيض من الحكيم؛ فالحكيم هو رجل وصل إلى الحكمة، أما الفيلسوف فهو من يسعى إلى بلوغها لكنه لم يصل إليها بعد. ويظهر الحنين في كتابات أفلاطون إلى زمن هيراقليطس وإمبيدوكليس.. زمن الحكمة المفقودة. الفيلسوف في أدبيات أفلاطون ليس إلا طامحًا للحكمة، حكيمًا محبطًا وعاجزًا[3].

فلسفة أفلاطون

نشأة الفلسفة
أرسطو وأفلاطون

تحتل الأخلاق مكانة مركزية في فلسفة أفلاطون – بمعنى كيفية عيش حياة سعيدة وصالحة. تقوم الأخلاق الأفلاطونية على فكرة أن الإنسان يتألف من ثلاثة أرواح: روح عقلانية، وهي جوهر الإنسان، روح غضبية، وهي مقر الدوافع العدوانية كالغضب، وروح شهوية، وهي مصدر الرغبات. ومن الطبيعي أن تسيطر الروح العقلانية على الشهوية بمساعدة الروح الغضبية. ويتطلب تحقيق الفضيلة سيطرة العقل على الرغبات، وهذا يؤدي إلى حياة طيبة وسعيدة لا يمكن لأحد أن يسلبها من الحكيم.

ورغم أهمية الأخلاق عند أفلاطون، فإن السياسة كانت لها أولوية أكبر، لأنها تتناول الفضيلة الاجتماعية مقارنة بالفضيلة الفردية. في كتابه “الجمهورية“، يصمم مدينة مثالية تقسم فيها الطبقات الاجتماعية وفقًا للأنواع المختلفة من الأرواح لدى الإنسان: الحكام الفلاسفة يمثلون الروح العقلانية، والجيش يمثل الروح الغضبية، والطبقة الإنتاجية تمثل الروح الشهوية. وتتحقق العدالة الاجتماعية فقط عندما يحكم الأكثر حكمة بمساعدة الحراس.

فلسفة أرسطو

أما أرسطو، تلميذ أفلاطون، فقد وضع نظرية أخلاقية تقوم على أن الإنسان كائن عقلاني، ومن خلال العقل فقط يمكنه الوصول إلى السعادة. وفقًا لأرسطو، فإن الطريق إلى السعادة يكمن في السعي لتحقيق التوازن بين الإفراط والتفريط. على سبيل المثال، الشجاعة هي الوسط بين الجبن والتهور.

في السياسة، اعتقد أرسطو أن أفضل نظام هو الذي يحكم فيه الأفضل. ومع ذلك، نظرًا لصعوبة تحديد من هم الأفضل، كان يعتقد أن الشعب مجتمعًا يمكن أن يحكم نفسه جيدًا. فعلى الرغم من أن الأفراد قد يكونون متواضعي القدرات، إلا أن الجماعة تستطيع أن تناقش وترى ما قد يغيب عن الفرد. ولكن في المجتمعات الفاسدة، تصبح المشاركة العامة غير مجدية. علاوة على ذلك، بينما قد يبرع الخبير في القضايا التقنية، فإن سكان المدينة أنفسهم قد يكونون أقدر على الحكم على شؤونها لأنهم يعيشون فيها.

هكذا، كانت نشأة الفلسفة كنهر خالد، يتدفق من منابع الأساطير الأولى ليشق طريقه عبر الزمن، حاملاً معه عطش العقل لمعرفة الحقيقة. من طاليس وأفلاطون إلى أرسطو، كانت هذه الرحلة مسيرة إنسانية نحو فهم أعمق للكون والذات. ورغم تغير الأزمنة وتبدل المذاهب، يبقى صوت الفلاسفة الأوائل همسًا في أذن الإنسانية، يذكّرها بأن البحث عن الحكمة ليس مجرد فعل عقلي، بل هو مسار نحو السعادة والكمال الإنساني.

مراجع

[1] هيرودوت – ترجمة أمين سلامة –  مراجعة كمال الملاخ.

[2] نشأة الفلسفة العلمية – هانز ريشنباخ – ترجمة فؤاد زكريا.

[3] ولادة الفلسفة – جورجيو كولي – ترجمة عفيف عثمان.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!