أفلوطين: كيف أثرت نظرية الفيض الإلهي على الديانات التوحيدية؟

You are currently viewing أفلوطين: كيف أثرت نظرية الفيض الإلهي على الديانات التوحيدية؟
الفيلسوف المصري أفلوطين

أفلوطين هو فيلسوف يوناني ولد بمصر، تأثر بفلسفة أفلاطون بعد أن درس جميع محاوراته. ولهذا السبب أسس مدرسة الفكر المعروفة باسم “الأفلاطونية الجديدة“. كما أثر مفهوم أفلوطين للعقل الإلهي ونظرية الفيض الإلهي والغرض من الوجود البشري تأثيراً هائلاً على الديانات التوحيدية الثلاثة في العالم. في هذا المقال نخوض معاً رحلة شيقة للتعرف على فلسفة أفلوطين.

من هو أفلوطين

يعد أفلوطين هو واحد من أهم الفلاسفة الذين مثلوا الروح اليونانية بعد الميلاد. ولد في عام 203 ميلادية في ليكوبوليس، ومات في عام 270. ويُقال إن أصله مصري. درس أفلوطين الفلسفة في الإسكندرية. ثم شد الرحال بعد ذلك إلى روما ليستقر فيها. ومن الملاحظ أنه وفد من الإسكندرية، أي تلك المدينة التي كانت ساحة تلاقت فوقها الفلسفة اليونانية مع الصوفية الشرقية على مدى عدة قرون.

ذهب أفلوطين إلى روما جالباً معه مذهباً في الخلاص ربما سيشكل منافساً قوياً للديانة المسيحية التي جاءت هي الأخرى لتبشر بفكرة أخرى عن الخلاص. ورغم هذه المنافسة الشرسة إلا أنها لم تمنع الأفلاطونية الجديدة من أن تترك أثراً ملموساً في اللاهوت المسيحي.

ومات أفلوطين عن عمر يناهز ست وستين عاماً بعد أن ترك مؤلفاً تحت عنوان “تاسوعات أفلوطين“. وهذا المؤلف عبارة عن ست مجموعات تنقسم كل مجموعة منها إلى تسع رسائل بداخلها خلاصة فلسفة أفلوطين.

يمكن القول عن فلسفته أنها امتداد للفكر الفلسفي في الإسكندرية. وقد مهد لهذه المدرسة الجديدة فيلون السكندري، حتى جاء أفلوطين ليشيد أساس هذا الفكر. ولذلك يعتبر فيلون هو أقرب فيلسوف إلى أفلوطين. لكن فيلون بدأ بالحقيقة الدينية، ولم يأخذ في الواقع بسبيل الفلسفة إلا لأجل الاستعانة بها لخدمة الحقيقة الدينية. وهذا أخذ مساحة واسعة من تفكير فيلون؛ أي أن فيلون أنزل الدين على الفلسفة. إلا أن ثمة تشابه كبير بين فيلون وأفلوطين مع ملاحظة اضطراب فيلون بين فكرة الله المشخص التي قدمتها له الديانة اليهودية، وبين فكرة الله المجرد الذي لا يمكن تسميته، لأن أي صفة من شأنها أن تقلل من كمال الفكرة. وأفلوطين استطاع أن يفصل كذلك آثار هذه القوى الإلهية في الأشياء، ويرتب ذلك كله في نظام منطقي معقول يكاد يكون نسيجاً واحداً محكم الأجزاء. بينما فيلون تأثر بأخلاق الفلسفة الرواقية. وقال بفكرة الكشف والوجود واصفاً التجربة الصوفية بأنها هي الأساس في معرفة حقيقية.


أفلوطين والأفلاطونية الجديدة

الأفلاطونية الجديدة هي مصطلح حديث يحدد عودة الفكر الأفلاطوني، ممزوجاً بعناصر من التصوف والمسيحية، وقد ازدهرت هذه المدرسة الفكرية في القرن الثالث الميلادي مع أعمال أفلوطين، وانتهت بإغلاق أكاديمية أفلاطون من قبل الإمبراطور جستنيان في 529 م. وهنا يجب التأكيد على أن مصطلح “الأفلاطونية الجديدة” هو تسمية حديثة ولم يكن أفلوطين ولا أولئك الذين جاءوا بعده قد أطلقوا على أنفسهم اسم “الأفلاطونية الجديدة” ولكنهم كانوا يعتبرون أنفسهم طلاباً ومعلمين لفكر أفلاطون.

تأثر أفلوطين بنظرية أفلاطون عن المثل، حيث ميز أفلاطون بهذه النظرية بين عالم المثل وعالم الحواس، ففصل فصلاً تاماً بين الروح والجسد. وبذلك أصبح الانسان كائناً مزدوجاً: فجسده مكون من الطين والتراب مثل أي شيء أخر في عالم الحواس، ولكنه يمتلك أيضاً روحاً خالدة. وقد كان أهل اليونان يؤمنون بهذه الفكرة حتى قبل ظهور أفلاطون بزمن طويل، إلا أن أفلاطون استطاع أن يصيغ هذه الفكرة ويرتبها. وهذه الفكرة كذلك لم تكن غائبة عن أفلوطين كما أشرنا من قبل إلى دراسته لفلسفة وأفكار أفلاطون، هذا بالإضافة إلى إطلاعه على العديد من الأفكار المشابهة من خلال زيارته إلى بعض مدن آسيا. ومن هنا استقى فكرته وفلسفته.

اقرأ أيضًا: باروخ سبينوزا: رؤية كل شيء من منظور الأبدية

نظرية الفيض الإلهي

يعتقد أفلوطين أن العالم يقوم في المسافة الممتدة بين قطبين متقابلين. فمن جهة يسطع النور الإلهي الذي يطلق عليه اسم “الواحد” أو “الله” في بعض الأحيان. ومن الجهة الأخرى يسود الظلام المطلق الذي لا يتلقى شيئاً من نور الواحد. ويرى أفلوطين أن الظلام ليس له وجود فعلي، فما الظلام سوى غياب الضوء. أما الروح الإنسانية فهي تتلقى قبساً من نور الواحد، في حين أن المادة هي الظلمة التي ليس لها وجود حقيقي، أما الصور والأشكال الموجودة في الطبيعة فما هي إلا بريق باهت من الواحد. 

مثال توضيحي

ولتبسيط الفكرة يمكننا أن نتخيل أننا أوقدنا ناراً ذات ليلة في صحراء، ومن ثم بدأ الشرر يتطاير من هذه النار في كل اتجاه. ففي دائرة واسعة سوف ينير الضوء المنبعث من النار ظلمة الليل. وكلما ابتعدنا عن مكان النار فإن بإمكاننا أن نرى الضوء الخافت الصادر عنها. إلى أن نصل إلى موقع بعيد عن النار وفي هذه الحالة لن نرى سوى نقطة ضوء واهية أما إذا واصلنا الابتعاد عن النار فلن نرى شيئاً بعد ذلك. فعند نقطة معينة سيختفي الضوء تماماً في عتمة الليل. وفي هذا الوقت لن نستطيع رؤية أي شيء مهما كان.

التطبيق على نظرية الفيض الإلهي

لنتصور الآن أن الواقع الذي نحيا فيه يُشبه هذه النار، إن ما يشتعل ويضيء هو الله. أما الظلمة المحيطة به فهي المادة التي خلق منها كل شيء سواء النبات أو الحيوان أو الإنسان. وعلى مقربة من الله توجد المثل التي هي الصور الأولية التي خلقت على هيئتها جميع الكائنات. وما روح الإنسان إلا قبس من هذا النور، وأينما نكون نرى شيئاً من هذا النور الإلهي. ويكفينا أن ننظر إلى المخلوقات الحية من أزهار وأشجار وحيوانات وجمادات، وغيرها مما يوجد في الكون لنرى هذا القبس الإلهي يتجلى فيها. لكن هذا السر الإلهي يسطع في أبهى صوره داخل أرواحنا نحن البشر. ففي الروح نكون أقرب شيء إلى الله، وفي الروح نستطيع أن نتوحد مع سر الحياة العظيم، بل يمكننا في حالات نادرة أن نشعر أننا لسنا سوى هذا السر الإلهي ذاته.

بعد أن عرضنا فكرة أفلوطين عن الواحد ونظرية الفيض الإلهي لنتأمل قليلاً فيها. من هنا سنجد أنها تشبه إلى حد كبير فكرة كهف أفلاطون. حيث كلما اقتربنا من مدخل الكهف اقتربنا من المصدر الذي تنبثق منه كل المخلوقات في الكون. ولكن على عكس أفلاطون الذي يقسم الواقع إلى جزئين مستقلين متمايزين فإن مذهب أفلوطين يتميز بتجربة يختبر فيها الوجود بكليته التامة الشاملة. فالكل واحد لأن الكل هو الله فحتى الظلال في أعماق كهف أفلاطون تتلقى وهجاً باهتاً من الواحد.

اقرأ أيضًا: فلسفة القديس أوغسطين: هل استطاعت حل مشكلة الشر في العالم؟

التصوف

وقد مر أفلوطين في حياته بأحوال نادرة شعر فيها بأن روحه تتوحد مع الله، ونحن نسمي هذه التجربة عادة تجربة صوفية. ولم يكن أفلوطين هو وحده الذي خبر هذا النوع من التجارب. ففي كل العصور وفي جميع الثقافات نصادف أناساً يخبرونا بأنهم مروا بهذا النوع من التجارب، ورواياتهم عن تلك التجارب قد تختلف في التفاصيل إلا أن السمات الجوهرية تظل واحدة فيها.

كانت النشوة التي ادعى أفلوطين أنه مر بها خطوة أخرى إلى الأمام. كان اتحاداً كاملاً مع الله، اللامتناهي، الوحدوي، والخير الكلي. وقد كان من المستحيل وصف هذه التجربة. فبما أن الله مكتفٍ ذاتياً تماماً ولا يحتاج إلى أن يكون مدركاً لأي شيء، فإن الإنسان الذي يصل إلى ذروة الاتحاد معه يجد نفسه في حالة من الاكتفاء الذاتي والوحدة التي لا توصف. إنها تجربة تعادل الاتحاد الصوفي مع الله.

اقرأ أيضًا: فلسفة توما الأكويني وبراهينه الخمسة على وجود الله

أفلوطين ومشكلة الشر

بالنسبة لأفلوطين، فإن ما نسميه “الشر” سببه ارتباطنا بأشياء هذا العالم التي تمنع تكريسنا الكامل للعقل الإلهي. إن أهداف رغباتنا وعواطفنا ليست – في حد ذاتها – سيئة، ولكنها تمنعنا من هدف حياتنا؛ وهو إدراك العقل الإلهي. وبهذه الطريقة، فإن ما يسمى بـ “مشكلة الشر” (التي مفاداها إذا كان الله كله خير، فلماذا يوجد شر في العالم؟). هنا يخبرنا أن الشر يأتي من البشر وليس من الله، وذلك من خلال اختيار ربط أنفسهم بالمتع الأرضية وأمثال تلك الملذات بدلاً من الارتباط بالعقل الإلهي. إذن البشر هم سبب “الشر” على الرغم من أن الأشياء الحسية التي تغرينا يقدمها العقل الإلهي.

في هذا، تتشابه معتقدات أفلوطين مع معتقدات بوذا الذي قال: “من الرغبة يأتي الحزن، ومن الرغبة يأتي الخوف. من يتحرر من الرغبة لا يعرف حزناً ولا خوفاً ” وادعى أن التعلق بأشياء هذا العالم كان السبب الكامل لمعاناة الإنسان. وبالمثل، افترض أفلوطين أن هدف المرء في الحياة هو الاتحاد الصوفي مع العقل الإلهي (كما هو الحال مع نيرفانا بوذا) وادعى أنه قد حقق هذا الاتحاد بنفسه أربع مرات في حياته.


إن التركيز الأفلاطونية الجديدة على رفض الجسدي لصالح الروحاني، والاعتراف بالحقيقة المطلقة، وكذلك الاعتراف ببعض القوانين الروحية المحددة، جاء جميعها من أعمال أفلاطون، ولكن في ظل عقل أفلوطين القوي، تم توليفها وتطويرها إلى نوع من التصوف الفلسفي/ الديني. وقد أثر هذا الفكر الأفلاطوني على الهياكل العقائدية للديانات التوحيدية الثلاث الكبرى، اليهودية والمسيحية والإسلام. ولذلك فإن التصوف الديني لأفلوطين لا يزال يجتذب الناس حتى يومنا هذا، ويتبناه الكثير من أتباع جميع الأديان.

اترك تعليقاً