فلسفة الحب: أرق عزاء في هذه المتاهة

You are currently viewing فلسفة الحب: أرق عزاء في هذه المتاهة
تعريفات الحب عند الفلاسفة

ما هو الحب؟ سؤال طرحناه جميعاً على أنفسنا في وقت من الأوقات. فعلى الرغم من أننا شعرنا به واختبرناه، لا يمكننا الاتفاق على ماهيته، أو سماته الأساسية. وفي بعض الأحيان لا نعرف حتى ما إذا كان ما نشعر به هو الحب أو أي شيء آخر، حيث يمكن الخلط بين العديد من المشاعر الأخرى والحب. في السطور التالية نطرح قضية فلسفة الحب عند الفلاسفة بشيء من التفصيل.

مفهوم الحب

لا أحد يستطيع أن ينكر أننا لا نتفق على تعريف ذلك اللفظ الذي تلوكه ألسنتنا. وإذا حاولنا حصر عدد تعريفات الحب التي قدمها الباحثون على مدار التاريخ للحب لأصبح لدينا متحفاً لغوياً عظيماً. حيث تشير تعريفات الحب في المعجم الفلسفي إلى أن الحب ينحصر في ثلاثة معان أساسية: الميل الانجذابي الذي يحقق أي إشباع مادي، والعاطفة القلبية التي تنطوي على دلالة جنسية، وأي اتجاه نفسي يتعارض مع الأنانية. وعلى الرغم من ذلك إلا أننا نعترف باستحالة حصر مفهوم الحب في هذه المعان الثلاثة، فنظرة واحدة إلى تعريف الحب عند أفلاطون أو تعريف الحب عند فرويد أو تولستوي أو شوبنهاور سنجد مزيداً من الاختلافات التي لا حصر لها.

تشير بعض المعاجم الأخرى إلى تعريف الحب على إنه “شعور عميق يعتري الإنسان ويجعله في احتياج إلى كائن آخر والاتحاد معه. وهو ما يجعلنا سعداء ويمنحنا الطاقة للعيش معاً والتواصل والإبداع”. وبعبارة أبسط وأكثر إيجازاً: “الشعور بالعاطفة والميل والتفاني تجاه شخص ما أو شيء ما”.

هذه التعريفات المختلفة للحب يمكن أن نستنتج منها شيئان مشتركان يميزان الحب: أولهما، أن الحب هو شعور بمعنى أنه شيء محسوس؛ وثانيهما، أن الحب شيء محسوس للآخر، أي إنه شيء يربطنا بالآخرين. ومن هنا يمكننا الاستنتاج أن الحب من حيث المبدأ هو شعور بالارتباط بالآخر.

لكن مثل هذا الاستنتاج غير حاسم على الإطلاق. فالمشاعر بشكل عام لها علاقة بالآخرين، لأننا مخلوقات اجتماعية. حيث يلعب كل من التعاطف والشفقة دوراً مهماً في الحياة الاجتماعية للإنسانية، وقد خصصنا مكاناً لكل واحد في قصصنا، في خيالنا وفي طريقتنا في فهم العالم الداخلي المعقد الذي يميز جنسنا البشري.


فلسفة الحب والعلم

فلسفة الحب والعلم
تعريف الحب بين العلم والفلسفة

وفقاً للعلم، فإن الحب هو نتاج عمل هرمونين مختلفين في الدماغ: الأوكسيتوسين والفازوبريسين، اللذان تنتجهما وتطلقهما الغدة النخامية. يتواجد كلا الهرمونين بكميات كبيرة في ذروة الحب الرومانسي، ويجلبان الشعور بالسعادة والرضا. يمكن أن يكون الهدف من هذه الآلية هو إقامة علاقات مستمرة بين الزوجين، من أجل تزويد الأبناء بقاعدة دعم أكبر، وبالتالي فرص أكبر للنجاح الحيوي.

قد يكون هذا التفسير العلمي دقيقاً، لكنه في الواقع يقول القليل جداً عن ماهية الحب. إن اختزال الشعور الذي تحدث عنه البشر في حياتهم وقصصهم لآلاف السنين إلى تفاعل كيميائي لهو ظلم كبير. ربما يشبه إلى حد ما اختزال الوعي الإنساني بالنشاط الكهربائي في الدماغ. لذا فهو مفهوم قاصراً ولا يرنو إلى التعريف الشامل للحب.

لا يترك التفسير المادي والعضوي لظاهرة نفسية مجالاً كبيراً للتفكير في الفروق الدقيقة. هل الحب حقاً شعور بالسعادة والرضا؟ عليك أن تسأل عطيل الغيور أو روميو وجولييت، اللذان فضلا الموت على ألا يكونا مع بعضهما البعض. إذن، لا يمكن اختزال تجربة الحب في تفسيرها الفسيولوجي، تماماً كما لا يمكن تفسير الانتقال من المادة المنظمة إلى الحياة نفسها.

اقرأ أيضًا: السفسطائيون: كيف اكتسبوا هذه السمعة السيئة؟

فلسفة الحب عند فلاسفة الإغريق

يمكن أن يرجع تعقيد مفهوم الحب إلى وجود أنواع مختلفة من الحب. على سبيل المثال ميز الإغريق القدماء بين ثلاثة أنواع من الحب.

  • إيروس (أو العشق).
  • أجابيه (أو المحبة).
  • فيليا (أو الصداقة).

 يشير الحب الإيروتيكي إلى الرغبة العاطفية الجنسية التي تعتمد على السمات المرغوبة للموضوع المحبوب، وهو حب أناني. أما أجابيه فهو حب غير مشروط، تأملي وسخي، يدفع الحبيب إلى بذل كل شيء من أجل سعادة المحبوب، وقد اتخذه المسيحيون نموذجاً لمحبة الله لجميع المؤمنين. وأخيراً، فيليا وهو ما يحدث بين أفراد الأسرة وبين الأصدقاء أو الزملاء.

كل تلك الاعتبارات المختلفة تقودنا إلى افتراض أن الحب قد يكون مفهوماً ثقافياً بالإضافة إلى حقيقة بيولوجية (تفاعل كيميائي حيوي) وحقيقة نفسية (شعور). وتشكل هذه العناصر الثلاثة حدود ماهية الحب: تلك الأرضية المشتركة بين الحقائق الثلاثة، دون الاهتمام بأي من الثلاثة يأتي أولاً أو أيهم الحقيقي.

فلسفة الحب إذن تشير إلى نقطة التقاء محددة بين ثلاثة جوانب أساسية للإنسانية: البيولوجية (الجسدية)، والنفسية (العاطفية) والاجتماعية (الثقافية). لكن إذا أمعنا النظر في تقسيم الإغريق نجد أنه يرتكز على أنواعه الثلاثة بطرق مختلفة: ربما لأن ما ميزه الإغريق على أنه ثلاثة أشكال مختلفة من الحب لم يكن أكثر من ثلاثة جوانب من نفس المثلث.

اقرأ أيضًا: الفلسفة الأبيقورية: ليست كل الملذات جديرة بالاختيار

التفكير في الحب

التفكير في الحب
الحب في الفلسفة

على الرغم من التعريفات المختلفة للحب كما أشرنا إلى بعض منها، إلا إنه من الصعب قبول هذه التعريفات دون أن نتساءل: هل الاتحاد حقاً هو ما نحققه مع من نحبهم؟ وهل الجاذبية التي يمارسونها علينا “طبيعية” حقاً؟ ماذا لو لم يكن الحب متبادلاً؟ أو غير موجود؟ وإذا كان الحب يجلب لنا الفرح، فلماذا يكون مؤلماً جداً في بعض الأحيان.

الحب كان موجوداً دائماً. لقد اكتشفنا قبور أحباب مدفونين في نفس المكان، أو بقايا عشاق فوجئوا بالكارثة واختاروا ببساطة أن يكونوا معاً في مواجهة الألم والموت. لقد قرأنا القصص القديمة عن آلام العشاق المرفوضين، أو غضب الغيورين، أو إصرار الراغبين في الانتقام للحبيب المقتول. لطالما عرفنا أن الحب من أعظم الأشياء في الحياة.

ومع ذلك، لم نفكر دائماً في الحب بنفس الطريقة، ولم نفكر في الحوادث المأساوية التي ورثتها لنا القصص الرومانسية. قد يكون الحب حقيقة، شيئاً عاطفياً له جذور واضحة في الجسد، ولكن يجب علينا التمييز بين الحب والطريقة التي نتعلم بها التفكير في الحب.

أسئلة بلا إجابات

تريستان وإيزولت، زوجان أسطوريان من حكايات القرون الوسطى، هما فارس وسيدة نبيلة يعشقان بعضهما البعض بجنون. ومع ذلك، فهي متزوجة من الملك، وهو نفس الملك الذي يخدمه تريستان، وبالتالي فإن حبهما مستحيل وغير ممكن. وعندما يمنحهم القدر، القاسي أو الكريم، حسب ما تراه، ليلة واحدة معاً، فإن الفارس غير الأناني سيضع سيفه بين جسده وجسد حبيبه، لئلا يحدث شيء بين الاثنين لا ينبغي.

كم منا اليوم سيتخذ نفس القرار؟ وكم منا سيقع فريسة لغضب الغيرة مثل عطيل؟ كم عدد من يفضلون الانتحار على العيش بدون المرأة التي يحبونها؟

من الصعب الإجابة على هذه الأسئلة، لكنها توضح أن الطريقة التي نفكر بها – وربما نشعر بها – تجاه الحب ليست “فطرية” تماماً كما قد يفترض المرء، ولكنها غارقة في تقاليدنا وثقافتنا بأكملها. لقد تعلمناها دون أن نعرف جيداً كيف. هل يعني ذلك أن الحب، مثل الشرف مفهوم ثقافي، مفهوم يمكننا التخلص منه يوماً ما؟

ما هو مؤكد هو أنه بعد 12000 عام من بدء سيطرتنا على الكوكب، ما زلنا نشعر بالحب، على الرغم من أننا لا نعرف ما إذا كان هو نفسه أم لا. فلا يمكن حتى لأجهزتنا المعاصرة الأكثر موثوقية – العلم – أن تعطينا بعض الإجابات المفيدة في هذا الصدد. لكن ما فائدة اختزال الحب إلى سلسلة من التفاعلات الكيميائية في الدماغ؟ إلى شكل تطوري للسلوك الاجتماعي يضمن معدلات بقاء الأبناء؟

قد تكون تفسيرات صحيحة، لكنها لا تخبرنا شيئاً عن الحب الذي نشعر به. أليس من الحب ما نشعر به تجاه ذلك الصديق الذي يمرض، وهذا يقودنا إلى الاعتناء به دون توقع أي شيء في المقابل؟ أليس الحب هو الذي يقودنا أحياناً إلى التخلي عمن نحبه حتى لا نؤذيه أو نضر به؟

اقرأ أيضًا: أقوال عدمية عن الحـب والصـداقة والوحـدة والديـن والحيـاة

أشكال الحب

أشكال الحب
الأشكال المختلفة للحب

يبدو أن الحب يحدث بعدة طرق مختلفة. على سبيل المثال، يميز البوذيون الحب الجسدي والجنسي والعاطفي (جاما)، الذي تحركه الأنانية ويعد عائقاً أمام التنوير، عن الحب الخير وغير المشروط (ميتا) الخالي من المصالح الأنانية. ومثل الهندوسية التي تفضل دائماً النوع الثاني على الأول.

من ناحية أخرى، تقترح وجهات النظر الأكثر حداثة مثل تلك الخاصة بعلم النفس الاجتماعي أننا نميز بين مختلف “النماذج الأولية الودودة” أي الطرق التي يتجلى بها الحب: الحب المرح، الذي يتجنب الالتزام ويسلي نفسه؛ حب الصداقة والرفقة، الذي يشترك في الأذواق ومستوى معين من الالتزام؛ والحب الجنسي الذي تسود فيه العاطفة الجسدية والعاطفية، القائمة على المتعة الجمالية والرومانسية.

قد تكون هذه الأشكال والتصنيفات الأخرى للحب مفيدة، ربما، لفهم وعيش ما يجعلنا الحب نختبره. لكنها لا تخبرنا ما هو الحب، ومن أين يأتي ولماذا نختبره.

لذا، ربما يكون الشعراء هم الأشخاص المناسبون لهذه المهمة، حيث أن أشعارهم تعطي اسماً لما ليس له اسم، ويقولون ما لا يوصف، ويجعلون ما هو غير موجود موجود. ربما يكون لغز الشعر هو اللغة الحقيقية للحب: ليس لأنها لغة جميلة ورومانسية ومتعالية فحسب، بل لأن “الحب” كلمة غامضة، لا يمكن ترجمتها أساساً إلى كلمات.

“الحب” هو الاسم الذي نطلقه على التجارب المختلفة، وهذا واضح. وربما هذا هو السبب في أنه اسم يقول أكثر عن هويتنا، وعن تاريخنا الذاتي ولحظتنا التاريخية، أكثر مما يقول عن ماهيته. ربما تكون كلمة جامحة نستخدمها لعدم وجود كلمة أخرى حقيقية، وهو الصوت الذي نلجأ إليه عندما يبدو العالم أكبر بكثير مما نحن عليه.

اقرأ أيضًا: الفلسفة الكلبية: حل المعاناة عن طريق تدمير الكون

الحب الرومانسي

هذا النوع من الحب يشير إلى الارتباط بين شخصين، وهو اندفاعي وغير عقلاني يزدري الواقع ويتغذى على الوهم. لكنه مع ذلك له جاذبية كبيرة، لأنه يستند بشكل أساسي على شعور بالقيمة بالإضافة إلى شعور بالحميمية، ولذلك يشعر الشخص بقيمة عالية لذاته من خلال نظرة حبيبه إليه.

إن الحب الرومانسي حب مزيف لأنه قائم على أساس الجاذبية الجسدية، وليس على المعرفة الحقيقية بالشخص المحبوب، وإنه قائم على التزامات شديدة. ففي بدايات هذا الحب يكون طرفا العلاقة في حالة اكتشاف ودهشة وود عميقة تجاه بعضهما ويكون عطاءهما موجها نحو الكينونة. ولكن ما إن يشرعا في الزواج يصبح الحب ملكية مضمونة ويكف كل طرف عن بذل أي جهد لكي يكون محبوباً. لذلك فإن الخطأ الذي أدى إلى ضياع الحب هو تصور امتلاكه. وبعد الزواج عوضاً عن أن يحب كل منهما الآخر يشرعان معاً في ملكية ما يستطيعان ملكيته: المال والمكانة الاجتماعية والمنزل والأطفال.

هناك العديد من التجارب والشواهد التي تشير إلى أن الحب الرومانسي لم يستمر بين أناس متكافئيين ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً. وهذا نتيجة حتمية لحالة الاستقرار والهدوء واللاتمايز بين شخصين. حيث تهبط شحنة الحب الرومانسي عن ذروتها نتيجة الملل وفقدان الانفعالات والإثارة.

اقرأ أيضًا: خـــواطـــــر عن الحب الحقيقي

فلسفة الحب ومشكلة الوجود

يمكن أن تكون هذه العلاقة بين الجنسين حلاً لمشكلة الوجود المستعصية بشقيها الكوني والاجتماعي. حيث يسمو الإنسان بهذه العلاقة على الطبيعة غير العاقلة وعلى الضغوط الاجتماعية والحضارية غير العقلانية. فيكون الحب الرومانسي نوعاً من تكثيف الوجود الفيزيقي الحي للفرد بمواجهة احتمالات اللاوجود أي الموت والغياب والفقدان الأبدي لفرصة الحياة. فهل نخطىء إذا ما تصورنا أن إنسانا بلا حب يشبه كوناً بلا إنسان. وهل نبالغ إذا ما قلنا أن ثمة سعادة خفية من نوع ما وبدرجة ما في كل حب رومانسي حتى إذا انطوى هذا الحب على ألم وإخفاق واندثار؟

إن الحب الوجودي لا تزول فيه التناقضات والتعارضات ولا تتوافر فيه السكينة والطمأنينة والأمن، بل بالعكس يشمل كل تعارض ولا يقوم على غير هذا التقابل الحاد. فالحب ليس سكونياً بل هو حركة صادرة عن قلق مستمر. وله خاصية أخرى، وهي إنه لا يشترط فيه التبادل. فمن يحب حقاً لا يعنيه أن يكون موضوع حبه يبادله حبا بحب إن كان يريد الحب بمعناه الحق على هيئة تغير وحركة باستمرار. لأن تبادل الحب يقضي على الحب نفسه كحركة متوثبة تسعى لاثراء الذات باستمرار. وهذا هو السر في تبدد الحب بمجر حظوة المحب برضا الحبيب.


من المتعارف عليه أن الفلسفة لا تقدم إجابات بل تساؤلات تساعد الإنسان على التفكير. لذا لم يصل الفلاسفة إلى تعريف شامل وشرح كامل لفلسفة الحب. فهل الحب ضرورة طبيعية تتعلق بالتجاور البيولوجي بين الكائنات الحية؟ أم هو تعبير عن حاجة الفرد لكسر طوق عزلته الكونية والاجتماعية بتوجيه مشاعره نحو موضوع يخفف من عزلته؟ وهل الحب الرومانسي نغم يعزف على أوتار الجهاز العصبي في كل مكان وزمان، وبالتالي لا فرق جوهري بين أنماطه عبر العصور؟ كل هذه الأسئلة ما زال الإنسان عاجزاً عن الإجابة عنها. لكن مع ذلك نحن نريد هذه السعادة التي يحققها لنا الحب مهما بدت منيعة أو مغموسة بالألم، لأنها أرق عزاء لنا في هذه المتاهة.

اترك تعليقاً