غموض

تجربة المرضى الثلاثة الذين ادعوا أنهم المسيح

يختص علم النفس بالبحث داخل أغوار النفس البشرية بكل ما تحمله من تعقيدات. ويعج بالكثير من التجارب المثيرة للاهتمام والدهشة في الوقت ذاته. وسواء كللت هذه التجارب النفسية بالنجاح أو الفشل، إلا أنها تساهم بشكل أو بآخر في تطور هذا العلم المدهش. في السطور التالية نتعرف على واحدة من أغرب هذه التجارب، تجربة المسحاء الثلاثة، وهم ثلاثة مرضى يدعي كل منهم أنه المسيح، وقد أشرف على هذه التجربة الطبيب ميلتون روكيتش.

كيف كانت البداية

حدث لقاء غير عادي داخل مؤسسة عقلية في ولاية ماريلاند في الأربعينات من القرن الماضي. كان اللقاء بين مريضتين تدعي كل منهن أنها السيدة مريم العذراء أم يسوع الناصري. مرت الدقائق وشرعت المرأتان في الحديث. قدمت المرأة الأولى نفسها على أنها “مريم والدة يسوع”. وهنا ثارت ثائرة المرأة الأخرى وأجابتها: “لابد أنكِ مجنونة، فأنا أم يسوع”. اشتدت حدة الجدال بينهما وسط ذهول طاقم المؤسسة من الأطباء الذين يتابعون عن كثب ما يحدث. وبعد فترة طويلة من الجدال بين المرأتين حول هويتهما استسلمت الأكبر سناً، وقالت للأخرى:

“بناءً على فرق السن الواضح، إذا كنت أنت مريم العذراء، فلابد أنني أمك، القديسة حنة”.

ما أظهره هذا اللقاء هو أنه من خلال مواجهة مرضى الفصام الذين يعانون من وهم الهوية يمكن إجبار بعضهم على التخلي عن خيالهم أو على الأقل استبداله بآخر. وقد نُشرت هذه الواقعة في طبعة عام 1955 من مجلة هاربر العلمية، ومن ثم وقعت في أيدي عالم نفسي آخر يدعى ميلتون روكيتش. قرأ ميلتون هذه الوقائع باهتمام بالغ، وتساءل عما يمكن أن يحدث إذا تم وضع مرضى أوهام الهوية مع بعضهم البعض. وافترض الطبيب أنه إذا حدثت مواجهة بين شخصين يتنازعان على نفس الهوية، سيحدث صراع يمكن أن يلعب فيه العقل دوراً محورياً وربما يؤدي إلى الشفاء.

البحث عن مرضى للتجربة

حصل الطبيب على منحه لمتابعة أبحاثه هذه. وشرع في البحث عن التشابه الذهني بين المرضى العقليين في المؤسسات العقلية المختلفة. وبعد فترة انتابته الدهشة عندما اكتشف في إحدى المستشفيات ليس مريضين فحسب بل ثلاثة، يعتقد كل منهما أن يسوع المسيح. بدأ روكيتش تجربته في عام 1959 وجمع المرضى الثلاثة في غرفة صغيرة، ثم قدم نفسه لهم وأوضح لهم أنهم سيقضيان الكثير من الوقت معاً كجزء من البحث. ثم عرض على الثلاثة فكرة أن يقدم كل واحد منهم عرض تقديمي في كل اجتماع. ومن هنا بدأت القصة وكما كان متوقع قدم كل مريض نفسه على أنه يسوع المسيح، ثم حدث شجار بينهما لأن كل واحد ادعى أنه المسيح الحقيقي والباقي محتالين.

اجتماع المسحاء الثلاثة

ميلتون روكيتش
صورة من فيلم المسحاء الثلاثة

رتب الطبيب غرفة ليجتمع فيها المسحاء الثلاثة. وخصص لكل منهم سرير مجاور للآخر، ومقاعد متجاورة في غرفة الطعام، حتى أنه أوكل إليهم مهاماً ليعملوا بجانب بعضهم البعض. وبدأ الطبيب يراقب بصورة يومية نشاط المجموعة وردود أفعال الثلاثة. ثم يجتمع معهم مرة في الأسبوع في جلسة ليواجهوا فيها هوياتهم. مع مرور الوقت تصاعد التوتر وأصبحت النقاشات أكثر حماسة. وبذل كل مريض جهداً للحفاظ على سلوك عقلاني. لكن المشاجرات والكلمات البذيئة والتهديدات طفت على السطح وأصبحت أكثر شيوعاً داخل الجلسات وخارجها. ثم وصلت إلى المواجهات الجسدية في غضون ثلاثة أسابيع من بدء التجربة.

حاول الطبيب حل خلافتهم، وبعد عدة أيام كان المرضى يتأقلمون مع الموقف، كل واحد وفقاً لطريقته الخاصة. كان رد فعل أحدهم أكثر عقلانية، حيث كان مقتنعاً أن الاثنين الآخرين مجرد مريضين في مستشفى للأمراض العقلية والنفسية. أما الثاني فكان يعتقد أن الآخرين هم في الحقيقة موتى أًعيد إحياؤهم وتحريكهم بواسطة الآلات، بينما الأخير تطورت أوهامه نحو هوية جديدة ومجنونة تماماً. حيث ادعى أنه “الروث الإلهي الفاضل” المتزوج من “مدام يتي” وهي زوجة خيالية يبلغ طولها مترين.

صراع جديد

قرر الطبيب ميلتون روكيتش تغيير استراتيجيته في العلاج من خلال إدخال صراع جديد. وهنا شرع في إرسال رسائل للمرضى تتعلق بهوياتهم الجديدة. جرب الرسالة الأولى مع الذي ادعى أنه الروث الإلهي الفاضل، وبعث إليه خطابات موقعة من زوجته الوهمية “مدام يتي” ذكره فيها باسمه الحقيقي وطلب منه التخلي عن هويته الذي اخترعها، لكن بدلاً من أن يتحسن، ساءت حالة المريض، ودخل في أزمة عاطفية أبعدته عن الواقع.

فشل تجربة المسحاء الثلاثة

تدخلت إدارة المستشفى في التجربة من أجل إلغائها، لعدم جدواها. رفض الطبيب ذلك الأمر وطلب استكمال تجرية المسحاء الثلاثة على الرغم من مرور أكثر من عامين منذ بدء الاجتماع الأول للمرضى الثلاثة. كان المريض الثالث قد تعلق بالطبيب، نظراً لمساعدته في التخلص من جلسات العلاج بالصدمات الكهربائية، لكن عندما علم بتخلي الطبيب عنه انتحر. كان على ميلتون روكيتش أن يقبل أن تجربته فشلت. وبعد سنوات جمع كل انطباعاته عن هذه التجربة في كتاب بعنوان: “مسحاء يبسيلانتي الثلاثة” وبيسيلانتي هي اسم المستشفى التي قامت فيها التجربة. واعترف روكيتش في كتابه بأن التجربة لم تساعد أياً من المرضى الثلاثة، وفي إضافة لاحقة ذهب إلى أبعد من ذلك، حتى إنه أعلن نفسه “المسيح الرابع”، وجاء ذلك من فكرة أنه حاول لعب دور الإله في حياة ثلاثة أشخاص.


ما لم يكن يعرفه روكيتش في ذلك الوقت الذي أجرى فيه تجربة المسحاء الثلاثة هو أن الفصام يعتمد على بنية وكيمياء الدماغ، وبالتالي لا يمكن علاجه بالعلاج النفسي، والذي يتحكم فيه فقط هو استخدام الأدوية المضادة للذهان.

المصادر

1.      Author: Jo Littler, (06/11/2011), The Three Christs of Ypsilanti by Milton Rokeach – review, www.theguardian.com, Retrieved: 03/20/2024.

2.      Author: Leah Silverman, (11/06/2018), The True Story Behind The Failed Psychological Experiment Of The Three Christs of Ypsilanti, www.allthatsinteresting.com, Retrieved: 03/20/2024.

 

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!