قصة الكلبة لايكا: رحلة اللاعودة إلى أعماق الفضاء
الكلبة لايكا هي أول كائن حي يصل إلى الفضاء، ويضحي بحياته في سبيل العلم. كانت لايكا كلبة ضالة أسرها الروس من شوارع موسكو وقاموا بتدريبها لتخوض رحلة بلا عودة إلى أعماق الفضاء، ورغم مصيرها المأساوي إلا إنها أصبحت جزءً من تاريخ العالم ومساهمة كبيرة في العلوم، لكن كمحبي للحيوانات، فإننا نفضل لو لم يحدث ذلك من الأساس. يقول العديد من العلماء الذين عملوا في هذا المشروع إنهم نادمون بالفعل على ما حدث. دعونا نعود بالزمن إلى الوراء لنتعرف على قصة الكلبة لايكا المأساوية.
السباق إلى الفضاء
بدأت القصة مع تولي الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف قيادة الاتحاد السوفيتي بعد عامين من وفاة جوزيف ستالين. وقاد الزعيم الجديد سباقاً فضائياً ضد الولايات المتحدة. كان هذا السباق ضمن نزاع بين القوتين العظمتين في العالم من أجل توسيع مناطق نفوذهما. وشرعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في عرض دولي للقوة والتكنولوجيا والتطور العلمي بهدف غزو الفضاء.
حدث ذلك في خضم الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وخصص خروتشوف مبالغ ضخمة لأبحاث الفضاء. ومن هنا بدأ العمل على قدم وساق من أجل إطلاق أول قمر صناعي روسي في المدار. وأطلق الاتحاد السوفيتي بالفعل القمر الصناعي سبوتنيك 1 في 4 أكتوبر 1957، وهو قمر صناعي مزود بأجهزة استشعار لقياس درجة الحرارة في الداخل والخارج، وكان بمثابة وسيلة لجمع البيانات من أجل الاستفادة منها في عمليات الإطلاق القادمة[1].
نجحت عملية الإطلاق الأولى، وصنع الاتحاد السوفييتي التاريخ مع القمر الصناعي سبوتنيك 1. وكان أول جسم من صنع الإنسان يدور في مدار الأرض بالفعل. لذا كانت هناك حاجة إلى شيء أكثر إثارة: قمر صناعي ثانٍ، أثقل بستة أضعاف من الأول، وبداخله كائن حي. وستكون الكلبة لايكا رائدة الفضاء الأولى. فماذا حدث؟
سبوتنيك 2
طلب الزعيم السوفيتي من المهندس المسؤول عن برنامج الفضاء سيرجي كوروليف في الذكرى الأربعين للثورة الشيوعية أن يرسل كائن حي إلى الفضاء في الرحلة القادمة. وكان الهدف هو معرفة كيف سيتصرف كائن حي في ظروف انعدام الوزن، وذلك من أجل إرسال إنسان إلى الفضاء. وهكذا اقترح المهندس إرسال كلب إلى الفضاء[2].
لم يكن من المتوقع أن تعود السفينة مع الكلب على قيد الحياة. فلا يزال السوفييت يفتقرون إلى التكنولوجيا الكافية لضمان عودة القمر الصناعي إلى الأرض، لذلك سيتم إرسال الحيوان إلى موت محقق. ورغم ذلك بدأ العمل على قدم وساق من أجل إطلاق سبوتنيك 2 وعلى متنها كلب تجارب. ولكن المعضلة التي واجهت العلماء هي نوع الكلب المختار وكيفية تدريبه.
البحث عن الكلب المناسب
كان من المفترض أن يبحثوا عن بعض الكلاب الضالة لتكون سهلة في تدريبها، فهذه الكلاب يمكنها أن تتحمل التغيرات المفاجئة في درجات الحرارة والجوع والظروف القاسية. وبكل تأكيد لن تتحمل الكلاب الصغيرة المدللة كل هذا الشقاء. وقد كان المفترض أن تمر الكلاب المختارة بعدد من التدريبات. ففي البداية يتم وضعها في مساحة صغيرة لتلائم المساحة المتوفرة في سبوتنيك 2، لكن الكثير من الكلاب بدأت تعاني من مشاكل صحية نظراً لعدم اعتيادها على العيش في مثل هذه الظروف.
كما تم وضع الحيوانات في أجهزة طرد مركزي لمحاكاة إطلاق الصاروخ الذي تسبب في زيادة معدل ضربات القلب. حتى أن العلماء استخدموا الآلات التي تحاكي الأصوات التي يمكن أن يسمعوها بمجرد إقلاع السفينة، بحيث تتكيف الكلاب معها. ثم بدأوا بإطعام الكلاب غذاءً هلامياً فهو الطعام الذي يمكنهم الحصول عليه في الفضاء. وفي نهاية التدريبات تم اختيار الكلبة لايكا.
لماذا تم اختيار الكلبة لايكا؟
كانت لايكا كلبة صغيرة ضالة يبلغ وزنها حوالي 6 كيلوجرامات، وعمرها أقل من عامين، وقد استوفت بذلك متطلبات برنامج الفضاء. أسرها القائمون على مشروع سبوتنيك 2 من شوارع موسكو، وتم اختيارها من بين عشرات الكلاب الأخرى لأنها كانت هادئة ومقتصدة وسهلة الانقياد. كما نجت أيضاً من الإقامة في كبسولة ضغط صغيرة لعدة أيام. وكانت تستطيع التعامل مع الأصوات العالية بنفس الثقة التي تستطيع بها التعامل مع جهاز التغوط الخاص بها في التدريبات. وهذا ما جعلها المفضلة بين الكلاب الأخرى. ثم أُطلق عليها لقب لايكا بعد نباحها كتحية في الراديو عندما تم تقديمها لأول مرة. ولايكا في اللغة الروسية تعني “نباح أو صرخة”.
موت الكلبة لايكا
استعدت الكلبة لايكا أخيراً للرحلة التي سيكتب التاريخ عنها أنها أول كائن يصل إلى الفضاء. وكانت الكلبة “ألبينا” والكلبة “موشكا” على قائمة الاحتياط. بدأت لايكا رحلة اللاعودة في 3 نوفمبر 1957 محاصرة في كبسولة فضائية محكمة الضغط، مرتدية بدلة فضائية مزودة بأجهزة استشعار دقيقة تراقب معدل ضربات القلب وضغط الدم والتنفس، وتراقبها الكاميرا باستمرار. كانت خائفة من الموت بسبب ضجيج واهتزاز المحركات، وبدأ قلب الكلبة الصغيرة يتسارع ثلاث مرات أسرع من المعتاد. ثم هدأت قليلاً عندما وصلت الكبسولة الفضائية إلى مدار الأرض.
لكن بعد الدورة التاسعة، ارتفعت درجة الحرارة داخل الكبسولة الفضائية فجأة من 15 درجة مئوية إلى 41 درجة لأنها لم تكن محمية بشكل كاف من الإشعاع الشمسي. وبعد خمس ساعات من الإقلاع لم تظهر الكلبة لايكا أي علامة على الحياة بسبب الصدمة والحرارة والإرهاق أكثر من اللازم. وواصلت الإذاعة السوفيتية تقديم معلومات يومية عن حالة لايكا وكأنها لا تزال على قيد الحياة. واستمر جثتها الهامدة تدور في الفضاء لعدة أشهر. ثم احترقت المركبة الفضائية عندما عادت إلى الغلاف الجوي للأرض[3].
كشف حقيقة رحلة الكلبة لايكا
أكدت الحكومة السوفيتية خلال السنوات التالية أن لايكا ماتت دون ألم بعد أسبوع في المدار. ولم تُعرف الحقيقة إلا عام 2002 من قبل ديمتري مالاشينكوف من معهد موسكو للمشاكل البيولوجية. حيث أخبر الجميع في مؤتمر الفضاء العالمي في هيوستن قصة الكلبة لايكا الحقيقية وأن وفاة الكلبة لايكا جاء بعد ست ساعات من إطلاق سبوتنيك 2، بسبب مجموعة من المشكلات مثل ضيق التنفس والسكتة القلبية بعد ارتفاع درجة حرارة المقصورة. كما قال مالاشينكوف: “كان من المستحيل عملياً إنشاء تحكم موثوق في درجة الحرارة في مثل هذا الوقت القصير”[4]. في إشارة إلى بناء سبوتنيك 2.
لقد حلّق القمر الصناعي بجسم لايكا في المدار 2370 مرة واحترق عند دخوله الغلاف الجوي في 14 أبريل 1958. ودخلت الكلبة لايكا التاريخ لأنها كانت أول كائن حي يحلق في الفضاء، وأول حيوان يوضع في تابوت يسبح في المدار.
كان لشهرة لايكا تأثير دائم ليس فقط على التاريخ والعلوم، ولكن أيضاً على الثقافة. وسرعان ما أصبحت رمزاً للحيوانات التي تتعرض لاضطهاد البشر. وظهرت في قصص الأطفال الخيالية والأفلام والموسيقى وحتى الألعاب. كذلك يمكن العثور على صورة لايكا في العديد من الرسوم التوضيحية وحتى على الطوابع البريدية. إنها “كلب الفضاء” الأكثر شهرة في العالم. وفي أبريل 2008 تم تكريمها بتمثال يبلغ ارتفاعه مترين في موسكو.
حيوانات أخرى سافرت للفضاء
على الرغم من أن قصة لايكا هي الأكثر شهرة للحيوانات التي تعرضت للقسوة البشرية، إلا أنها لم تكن الحيوان الوحيد الذي ساهم في استكشاف الفضاء الجوي. حيث أرسلت ناسا أربعة من القرود خارج الغلاف الجوي للأرض بين عامي 1948 و1951. كانت القرود الأربعة تحمل نفس الاسم “ألبرت” بإضافة أرقام، ولم ينج أحد من الرحلة. أرسلت ناسا بعدها فأراً نجا في الفضاء، وعلى أساس هذه التجربة الأخيرة، أطلقت القرد الخامس “يوريك” الذي عاد إلى الأرض، ولكنه مات بعد ساعة من الهبوط.
أرسل الفرنسيون كذلك الفئران إلى الفضاء لسنوات، كما أرسل الروس في البداية السلاحف، ولكن سرعان ما اتضح لعلماء الفضاء أن الأبحاث على الكلاب كانت أكثر موثوقية. وكانت أول الكلاب الروسية التي أُرسلت للفضاء في عام 1951 وهما كلبان يحملان اسم “جيبسي وديزيك” ورغم أنهما لم يصلا إلى المدار، إلا أنهما عادا بسعادة إلى الأرض. وبعدهما طار 12 كلب آخر إلى الفضاء، ولم ينجوا. وكان آخر هذه الكلاب هي الكلبة لايكا.
لم تنتهي القصة مع الكلبة لايكا. حيث أرسل الروس بعدها كلبان “بيلكا وستريلكا” إلى الفضاء في 19 أغسطس 1960. لقد دارا حول مدار الأرض وعادا لحسن الحظ إلى الأرض سالمين معافين. واليوم تُعرض دمية بيلكا المحشوة في موسكو، وأصبحت ستريلكا نقطة جذب لمعرض متنقل لرواد الفضاء[5].
الإنجاز العلمي والقسوة البشرية
أثارت قصة الكلبة لايكا وموتها باعتبارها أول كائن حي يصل إلى الفضاء ردود أفعال قوية من بعض جمعيات الدفاع عن الحيوانات، لكن هذه الاحتجاجات لم يكن لها تأثير يذكر، وتم إسكاتها من قبل وسائل الإعلام السوفيتية والأمريكية. ومع ذلك مازال النقاش مستمراً حول إساءة معاملة الحيوانات في بيئات البحث، مع العديد من المنشورات العلمية التي تتساءل عن مكان رسم خط الحدود الأخلاقية للتجارب على الحيوانات.
لقد أعرب العديد من العلماء أعضاء مشروع سبوتنيك عن أسفهم الشديد لموت الكلبة لايكا، ويقدرون عمق التضحية التي قدمتها للبشرية. واليوم لا تزال الكلبة لايكا من أشهر الحيوانات في التاريخ ولها تماثيل وآثار متنوعة تخليداً لذكرى تضحيتها. ومع ذلك لا يزال السؤال الأخلاقي حول المعاناة التي تعرضت لها الكلبة والحيوانات الأخرى مثار جدل متكرر يتم إحياؤه كل عام مع ذكرى موتهم.
المراجع
[2] The USSR orbits second artificial satellite with dog Laika onboard.
[3] The Sad, Sad Story of Laika, the Space Dog, and Her One-Way Trip Into Orbit.
مأساة الحيوانات مستمرة للأسف
تحاول جمعيات حقوق الحيوان جاهدة حماية الحيوانات، لكن لا تزال القسوة البشرية مستمرة مع الأسف