علوم

التنويم المغناطيسي بين الحقائق والخرافات

يعتقد الكثير من الناس أن التنويم المغناطيسي مجرد أسلوب أو خدعة يقوم بها السحرة على المسرح لينالوا تصفيق الجماهير. حيث يجلس الشخص المنوم مغناطيسياً بلا إرادة وبلا أية سلطة على حواسه، ويصبح تحت رحمة المنوم المغناطيسي، ثم يقوم بكل ما يأمره به، ولا يتذكر لاحقاً ما حدث بالفعل. يُستخدم التنويم المغناطيسي في مثل هذه السيناريوهات الخيالية لإخراج الأحداث المنسية أو المكبوتة من الذاكرة. ولقد أثارت هذه الظاهرة النفسية الكثير من الجدل منذ استخدامها في الطب والعلاج النفسي، ولكن ما وراء هذه الظاهرة النفسية؟ وكيف تعمل؟ وما الذي يمكن أن يفعله التنويم المغناطيسي، وما الذي لا يمكنه فعله؟ وهل يؤثر على الإدراك والشعور بالفعل؟ وماذا يحدث في الدماغ؟ وهل يساعد على الإقلاع عن التدخين وعلاج الألم بالفعل أم إنها مجرد خرافات؟ في هذا المقال نحاول الإجابة على هذه التساؤلات بشكل أكثر تفصيلاً.

حالة من الاسترخاء العميق

يجلس شخص على كرسي بذراعين في غرفة معتمة. الهدوء يعم المكان، والعيون مغلقة، والتنفس أكثر هدوءً والنبض يتباطأ. يسمع صوتاً هامساً يقول له:

حاول أن تسترخي، وركز فقط على أنفاسك وصوتي. انتبه لكلماتي فقط، لم يعد أي شيء آخر ذات أهمية.

ينزلق الشخص ببطء إلى حالة تُشبه النشوة تجعله متقبلاً لجميع أنواع الاقتراحات. إنه الآن منوم مغناطيسياً. ويستخدم المنومون مغناطيسياً طريقة تسمى “رفع اليد” من أجل التأكد مما إذا دخل الشخص في حالة التنويم المغناطيسي بالفعل. حيث يخبر النائم أن ذراعه اليمنى تبدو خفيفة للغاية وترتفع ببطء، وإذا رفع النائم ذراعه يتأكد المنوم أنه أصبح الآن في حالة تنويم عميقة.

هذا ما يبدو عليه التنويم المغناطيسي، فهو العملية التي يصل الشخص من خلالها إلى حالة من الاسترخاء العميق. ولا يمكن أن نقارن هذه الحالة بالنوم أو التخدير، بل تُشبه تلك الحالة التي يكون فيها الشخص عندما يبدأ في النوم، أو عندما يستيقظ في الصباح، أي إنها حالة الاسترخاء بين الاستيقاظ والنوم. لكن مع ذلك، يمكن تعميق هذه الحالة وإبقائها مستقرة بواسطة المنوم المغناطيسي، ونظراً لأن عقلنا الباطن يتحكم في حوالي 90 إلى 95 بالمائة من سلوكنا[1]، يمكن تغيير الأنماط السلوكية الأساسية للشخص.

العلاج بالتنويم المغناطيسي

العلاج بالتنويم المغناطيسي
كيف يعمل التنويم المغناطيسي

تبدأ عملية العلاج بالتنويم المغناطيسي عندما يشرع المعالج في إرسال الشخص عقلياً إلى الموقف الذي يسبب له المشكلات، على سبيل المثال، إذا كان الشخص يعاني من رهاب المسرح، فإن المعالج يجعله يتخيل بالضبط كيف يقف على المسرح وكيف ينظر إليه مئات الأشخاص بترقب، وكيف ينشأ التوتر والخوف لديه. وعند هذه النقطة يمكن للمعالج الآن بدء التغييرات. يعمل هذا مع ما يسمى بالاقتراحات. حيث يكون العقل الباطن للشخص المنوم مغناطيسياً مفتوحاً بشكل خاص في ذلك الوقت، ويدرك الصور والذكريات والمشاعر الداخلية بشكل أكثر كثافة.

يجب على المنوم أن يتخيل مكاناً شخصياً يشعر فيه بالأمان أو المتعة، مثل حديقة الزهور التي كان يلعب فيها أثناء طفولته، أو زاوية الأريكة في منزله أو غيرها من الأماكن الآمنة بالنسبة له. ثم يطلب المعالج منه أن يستبدل التوتر والخوف الذي يشعر به على المسرح بمكان الراحة هذا. ويشرع النائم في تخيل نفسه مراراً وتكراراً وهو يخطو على المسرح محاطاً بمرج من الزهور، وبهذه الطريقة يترسخ الشعور بالأمان لدى النائم. ثم ينهي المعالج الجلسة من خلال مطالبة المريض بإعادة انتباهه تدريجياً إلى اللحظة الحالية، وأخيراً يطلب منه فتح عينيه.

تنجح الجلسة الأولى مع بعض الناس، لكنها تنجح مع معظم الأشخاص بعد عدة جلسات تالية. ففي المرة التالية التي يصعد فيها الشخص على المسرح، سيكون مرج الزهور أمام عينيه بدلاً من الخوف والرهبة التي تعتريه. ولكن كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ وكيف يمكننا ببساطة أن نقع تحت سلطة المنوم المغناطيسي على الرغم من وعينا المتطور وعقلنا النقدي؟

التلاعب العقلي

التلاعب العقلي
خرافة التلاعب بالعقل عن طريق التنويم المغناطيسي

تبدأ صور التنويم المغناطيسي التي لا تحصى بهذه الطريقة أو بطريقة مشابهة – سواء في الكتب أو في الأفلام أو حتى في مخيلتنا. لذا فالتنويم المغناطيسي يضع الشخص في حالة من الخضوع بلا إرادة للشخص القائم بالتنويم المغناطيسي، مما يجعله عرضة للتلاعب العقلي. إنه يرى ويشعر ويفعل كل شيء يُقترح عليه ولا يتوافق مع الواقع أو مع سلوكه الطبيعي. ويمكن إرغام الأبرياء كذلك على ارتكاب أعمال إجرامية، بدءً من السرقة وحتى القتل. هذا ما يحدث على الأقل في العديد من الأعمال الأدبية والفنية.

تنعكس هذه الفكرة أيضاً في الرأي العام، ففي إحدى الدراسات[2] اعتقد 44% من حوالي 300 مشارك من أربعة بلدان أن هذا الأمر صحيح، وأن الشخص المنوم مغناطيسياً يشبه الروبوت ويتبع تلقائياً كل ما يقترحه عليه المنوم المغناطيسي. ورأى حوالي 36% أن التنويم المغناطيسي يجعلك بلا إرادة تقريباً.

يمكن أيضاً التلاعب بالذاكرة، كما يمكن محو بعض تجارب الشخص وفترات زمنية كاملة من الذاكرة أو إعادتها مرة أخرى. كما يمكن لهذه التجربة أن تجعل الشخص يتذكر بعض التفاصيل المدفونة لحدث ما، أو معالجة التجارب المكبوتة.

من السحر إلى التنويم المغناطيسي

طرق العلاج النفسي
استخدمت هذه الطريقة منذ 4000 آلاف عام

استخدمت العديد من الثقافات حول العالم فكرة التنويم المغناطيسي للشفاء من الأمراض منذ ما يقرب من 4000 عام. وكانت تمارس في تمارين التأمل واليوجا من خلال التغييرات في الوعي وحس الشخص على الدخول إلى حالة من النشوة. كما استخدمها الطبيب باراسيلسوس في القرن السادس عشر لعلاج الأمراض العصبية. وظل هذا الأمر حتى بداية القرن الثامن عشر عندما اكتشف الطبيب فرانز أنطون ميسمر هذه التقنية القديمة. وقد وصفها بالشفاء المغناطيسي أو “المغناطيسية الحيوانية”. أما مصطلح “التنويم المغناطيسي” فقد استخدمه لأول مرة الجراح جيمس برايد في عام 1843 للتخدير قبل إدخال أكسيد النيتروز كمخدر في العمليات الجراحية. وكان يطلق عليه اسم “هيبنوس” وهو إله النوم في الأساطير الإغريقية.

كان الناس في ذلك الوقت يدخلون في نوم عميق، وعندما اعتقد المعالجون أن مرضاهم قد غرقوا تماماً في غيبوبة، شرعوا في إصدار الأوامر لديهم: “لم تعدوا خائفين من العناكب” أو “سوف تتوقف عن التدخين الآن”. ثم لجأ سيجموند فرويد إليه لعلاج اضطرابات الشخصية في القرن العشرين، كما استخدمت هذه التقنية في الحربين العالميتين الأولى والثانية لعلاج الجرحى دون تخدير.

لم يتغير هذا الأسلوب الاستبدادي إلا في السبعينيات على يد المعالج ميلتون إريكسون. حيث ركز على التجارب والمشاعر الفردية للمرضى بدلاً من هذا البرنامج الصارم. فلم يعطهم أوامر، بل تحدث معهم وتركهم يتوصلون إلى حل بأنفسهم. ومنذ تلك اللحظة بدأت نهضة التنويم المغناطيسي[3].

نهضة التنويم المغناطيسي

أدرك المعالجون أن دخول المرضى في هذه الحالة لا يكونوا نائمين ولا مستيقظين، بل يكونوا في حالة وعي متغيرة بينهما، ويمكنهم في ظل هذه الحالة أن يركزوا ويتذكروا بشكل أفضل. تنتقل حالة الوعي المتغيرة هذه باستمرار ذهاباً وإياباً بين مستويات مختلفة من الاهتمام. ففي بعض الأحيان نوجه انتباهنا الكامل إلى شيء واحد، وفي أحيان أخرى تتجول أفكارنا بين أشياء عديدة.

يحدث ذلك عندما نتوقف عن التفكير والفعل، ونسقط في أحلام اليقظة، أو نقرأ إحدى روايات الغموض المثيرة، أو نشاهد فيلماً يبهرنا لدرجة أننا نفقد الإحساس بالمكان والزمان. يشبه الأمر الحالة التي ندخل فيها عند الصلاة أو التأمل. وتشير بعض الدراسات[4] إلى أن كل شخص يدخل في هذه الحالة لمدة تتراوح بين 45 إلى 90 دقيقة كل يوم. ولذلك يمكن اعتبارها ظاهرة يومية، ونظراً لأن كل شخص يعرف هذه الحالة يمكن تنويم الجميع مغناطيسياً بشكل أساسي. وقد أثبتت الدراسات[5] أن حوالي 10 إلى 15% من الناس يتقبلون التنويم المغناطيسي بشكل كبير. يتمتع هؤلاء بالخيال الجامح ومستويات عالية من الإبداع. وبما أن الباحثين تمكنوا من إثبات أن هذه الحالة هي حالة طبيعية تماماً وليست سحراً غامضاً. وقد أثبتت ما يقرب من 200 دراسة فعاليته الآن. وقد أصبح معترف بها علمياً لعلاج الألم أو السلوك السيء منذ عام 2006.

نوع من القوة السحرية

خرافات وحقائق عن الظواهر النفسية
أداء الساحر على المسرح

إن فكرة أن المنوم المغناطيسي يجب أن يكون لديه نوع من القوة “السحرية” أو على الأقل قدرات خاصة من أجل وضع مرضاه في هذه الحالة تعود أيضاً إلى ميسمر، وقد استمر هذا الاعتقاد حتى يومنا هذا. حيث أوضح استطلاع رأي عام 2006 أن 79% من المشاركين وافقوا على العبارة القائلة بأن نجاح التنويم المغناطيسي يعتمد بشكل حاسم على مهارة المنوم. لكن هذه الفكرة هي أسطورة خالصة، فلا يتطلب تحفيز الوصول إلى هذه الحالة والاقتراحات المحددة مهارات خاصة تتجاوز التفاعلات الاجتماعية الأساسية ومهارات بناء العلاقات. وتشير الدراسات إلى أن الأشخاص عديمي الخبرة تماماً لا يقلون نجاحاً في إحداث التنويم المغناطيسي من المنومين ذوي الخبرة. لكن مع ذلك يجب أن يتمتع القائم على ذلك بجاذبية معينة وقبول ومعرفة كبيرة.

أكثر من مجرد عرض

يظهر لنا في العروض التي تتم على المسرح، وفي الأفلام تنويم الأشخاص مغناطيسياً على الفور تقريباً، وبدون جلسة استرخاء طويلة أو تأرجح الأشياء أمام أعينهم. ويبدو أنهم يدخلون في هذه الحالة سريعاً، ثم ينفذون التعليمات كما لو كانوا يريدون ذلك. فهل هذا الأمر هو للعرض فقط؟ أم أن هناك المزيد لفعل ذلك؟ وما مدى ضعف إرادتنا تحت تأثير هذه الحالة؟

يتطلب التنويم المغناطيسي تحفيزاً عبارة عن مقدمة تؤدي إلى الانتقال إلى هذه الحالة العميقة من الاسترخاء. ويعتمد العلاج بهذا الأسلوب عادةً على تمارين الاسترخاء اللفظي والصور الذهنية. لكن على الرغم من أن هذا الاسترخاء يجعل التنويم المغناطيسي أسهل إلا إنه ليس ضرورياً تماماً. لكن الاقتراحات التي تهدف إلى إضعاف آليات التحكم العقلانية تعتبر حاسمة للحث على الدخول في هذه الحالة. حيث يستخدم المنومون صيغاً تهدف إلى تعزيز التركيز على أصواتهم وكلماتهم: “ركز على صوتي فقط، ودع ما يحدث حولك”. وهذا يعزز الانتقال إلى حالة من الوعي تضعف فيها السيطرة العقلانية ويصبح الشخص أكثر تقبلاً لكل ما يقترح عليه.

سر التنويم المغناطيسي اللحظي

يبدأ التنويم المغناطيسي في عروض المسرح بإجراء اختبارات الإيحاء مع الجمهور مسبقاً، على سبيل المثال، من خلال الإيحاء اللفظي للمنوم المغناطيسي بأن الذراع الممدودة تصبح متصلبة أو ثقيلة. ويُطلب من أي شخص يستجيب جيداً لهذا الأمر أن يصعد على المسرح. يتبع ذلك العديد من الاقتراحات التي تزيد من التقبل، مثل “الأشخاص الأذكياء فقط هم الذين يمكن تنويمهم بسهولة، والقدرة على النوم المغناطيسي تظهر إبداعاً عظيماً”.

يستخدم هؤلاء نقطة ضعف فسيولوجية عصبية، وهي الاعتماد على حقيقة أن قابلية البشر للاقتراحات تزداد بشكل كبير عندما يكونوا مشوشين ومتفاجئين، وبالأخص في حالة مقاطعة الإجراءات الروتينية الآلية مثل المصافحة بطريقة غير متوقعة. هنا يتفاعل الجهاز العصبي بنوع من برنامج الطوارئ الذي يتم فيه إلغاء تنشيط العديد من آليات التحكم العادية. تفتح هذه الاستجابة العاطفية ثغرة للسماح للأوامر المنومة بالمرور ووضع الموضوع في حالة قابلة للتأثر.

ربما تكون بعض الحركات المفاجئة كافية لإحداث هذا التأثير. حيث نرى أن المنومين يضعون أيديهم على رأس الشخص والضغط عليها، مما يؤدي إلى انطلاق الأدرينالين بالفعل بسبب الوضع غير المعتاد على المسرح، مما يعرضه لضغط التوقعات. وهذا الوضع المجهد نفسياً يمكن أن يزيد من إمكانية الإيحاء.

مَن هو المعرض للتنويم المغناطيسي؟

سمات الشخصيات الأكثر قابلية للتنويم المغناطيسي
الأشخاص الأكثر قابلية للتنويم المغناطيسي

تشير الدراسات إلى أن ما بين 15 إلى 20 بالمائة من الأشخاص معرضون بشدة لاقتراحات التنويم المغناطيسي، وما بين 15 إلى 20 بالمائة آخرين لا يستجيبون لذلك، والباقي في مكان ما بينهما. ولا تلعب سمات الشخصية أو الذكاء أو الجنس دوراً مهماً، وذلك خلافاً للاعتقاد الشائع. ومن هنا فإن الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم عقلانيين وناقدين يمكن أن يكونوا من بين أولئك المعرضين بشكل أفضل للتنويم المغناطيسي.

أما السمات النفسية العصبية التي تكمن وراء قابلية التنويم المغناطيسي لا تزال مثيرة للجدل ولم يتم توضيحها إلا جزئياً. لكن مع ذلك أظهرت بعض الدراسات وجود ارتباط قوي بين قابلية الشخص للتأثير وقدرته على الاستيعاب، وعلى التركيز على نشاط أو شيء ما لدرجة أنه ينسى كل شيء من حوله. وترتبط بهذه السمة الانفتاح على تجربة التغيرات العاطفية والمعرفية في مجموعة من المواقف. هناك أيضاً أدلة على أن الأشخاص الأكثر قابلية لديهم ميل إلى معالجة المعلومات بشكل أكثر تلقائية وتعلم المهارات الجديدة، وإنهاءها بسرعة أكبر من الآخرين[6].

كيف يؤثر التنويم المغناطيسي على الإرادة؟

هناك اعتقاد شائع مفاده أنه يمكن إجبار الشخص الذي يدخل في حالة التنويم المغناطيسي على فعل أي شيء تقريباً، فهو يتبع الاقتراحات والتعليمات بشكل تلقائي دون إرادة منه، لذا يحرم المنوم المغناطيسي ضحاياه من أي ذكرى للتلاعب والأفعال التي تم تنفيذها تحت هذا التأثير. لكن يقول علماء النفس أنه على الرغم من أن العديد من آليات التحكم الواعي تضعف تحت تأثير التنويم المغناطيسي إلا أن إرادتنا وشخصيتنا لا تختفي. لذلك لا يمكن إجبارنا على القيام بأشياء تتعارض مع معتقداتنا العميقة ونحن تحت هذا التأثير. وعندما يحدث ذلك، فإن هذا الصراع الناتج بين الفعل المطلوب منا وبين معتقداتنا بإمكانه إخراجنا من هذه الحالة. ومن هنا ندرك أن وقوعنا تحت هذا التأثير لا نفقد وعينا، وبالتالي نلاحظ ما نقوم به.

إن اعتقاد الناس الشائع بأن التنويم المغناطيسي يعني فقدان السيطرة تماماً على الأفعال لهو اعتقاد عارِ من الصحة. فعلى الرغم من أن الناس تفقد جزء كبير من سيطرتهم ليضعوها تحت سيطرة المنوم أو المعالج إلا أن عملية غسل الدماغ العميقة ليست ممكنة بسهولة حتى باستخدام التنويم المغناطيسي[7].

الذاكرة والنسيان

التنويم المغناطيسي في علم النفس
كيف يؤثر التنويم المغناطيسي على الذاكرة

هناك تأثير آخر للتنويم المغناطيسي يتعلق بذاكرتنا. حيث يعتقد البعض أنه من خلال اقتراحات المنوم المغناطيسي يمكن جعل الناس ينسون أشياءً أو ربما لا يتمكنون فجأة من التعرف على الأشخاص الذين يعرفونهم. كما يمكن أيضاً إبراز الذكريات المكبوتة. ولكن كيف يعمل هذا؟

يشير علماء النفس إلى أن فقدان الذاكرة بعد التنويم المغناطيسي يمكن أن يحدث إذا اقترح المعالج على المرء أن ينسى ذكريات معينة، وهذا يؤدي إلى الانفصال بين الذاكرة الصريحة والذاكرة الضمنية. ولا يحذف هذا الأمر هذه الذكريات تماماً، إلا أن الدماغ يواجه مشاكل في جلب محتويات الذاكرة إلى الوعي. ويعكس التنويم المغناطيسي عدم القدرة المؤقتة على تذكر المعلومات. ويظهر هذا في فحوصات الدماغ. حيث ينخفض النشاط في مناطق الدماغ المتعلقة باستعادة محتوى ذاكرة محدد، ويكون هناك نشاط أكبر لقشرة الفص الجبهي – وهو مركز تحكم مهم في الوعي. ونظراً لأن الذاكرة لا تزال موجودة، فلا يزال بإمكانها التأثير على السلوك والأفعال. ويمكن أن يستمر هذا التأثير بضع ساعات أو أيام أو حتى أسابيع اعتماداً على حساسية الشخص وشدة الاقتراح.

يمكن كذلك استخدام هذه التقنية لإعادة محتوى الذاكرة المكبوتة أو المدفونة إلى الوعي. ويساعد هذا الأمر في علاج بعض الأمراض النفسية مثل الصدمات. حيث يمكن التعامل مع الصدمة إذا تم جلب سياق التجربة المؤلمة ومحفزاتها إلى الوعي تحت تأثير التنويم المغناطيسي، لكن هذا الأمر مرهق نفسياً وعاطفياً، لذا يجب أن يتم تحت إشراف طبيب متخصص[8].

التلاعب بالإدراك

يمتد تأثير هذه الظاهرة كذلك إلى مناطق خارج الذاكرة؛ فهو يمكن أن يغير الإدراك إدراكنا. وقد قام العلماء بدراسة هذه التأثيرات. دعونا نتعرف على بعضها.

قام فريق بحثي في عام 2017 بالتحقيق فيما إذا كان التنويم المغناطيسي يمكن أن يؤثر بالفعل على ما نراه وما لا نراه. حيث عرضوا على 60 شخصاً مجموعة كبيرة من المثلثات ممزوجة مع بعض المربعات على الشاشة، وطلبوا من المشاركين إحصاء المربعات. ثم بعد قيامهم بإحصاء المربعات تم تنويمهم مغناطيسياً. وقد استجاب ثلثهم بشكل جيد للتنويم المغناطيسي، وثلث استجاب بشكل متوسط، في حين لم يستجب الباقون.

عاد فريق البحث لوضع المشاركين أمام الشاشة مجدداً بعد تنويمهم مغناطيسياً. واقترح العلماء عليهم أن لوحاً خشبياً يطفو أمام أعينهم، وهو يحجب رؤيتهم للشاشة. وطلبوا منهم تكرار إحصاء المربعات مرة أخرى. وقد تم وضع أقطاب كهربائية على رؤوس المشاركين لتسجيل موجات الدماغ.

كانت نتيجة الاختبار كالتالي: تمكن الأشخاص الخاضعون للاختبار بدون التنويم المغناطيسي من التعرف على 90% من المربعات الموجودة تحت المثلثات وأحصوها. لكن تغير ذلك بشكل ملحوظ بعد وضعهم تحت التنويم المغناطيسي والاقتراح بأن هناك لوحاً خشبياً يطفو أمام أعينهم. فالمشاركون الذين استجابوا للتنويم المغناطيسي بسهولة لم يحسبوا سوى 50% من المربعات، وحتى الذين استجابوا بصعوبة انخفض معدل عدهم إلى نحو 80%.   

أظهرت العديد من الدراسات الأخرى تغييرات مماثلة في الإدراك البصري. حيث تم إجراء الاختبارات على المشاركين لجعلهم يرون الأشياء الرمادية على أنها ملونة[9].

اختبار حاسة اللمس

تأثير التنويم المغناطيسي على الحواس
تجربة اختبار اللمس

يمكن أيضاً أن تتأثر الحواس الأخرى باستخدام التنويم المغناطيسي. حيث قام فريق بحثي عام 2023 باختبار تأثير التنويم المغناطيسي على حاسة اللمس، وقاموا بتعيين متخصص ومعالج بالتنويم المغناطيسي من ذوي الخبرة خصيصاً لهذا الغرض. شارك في هذه الدراسة حوالي 25 شخصاً وتم تعريضهم لجهاز مزود بدبوسين معدنيين رفيعين. يمكن التمييز بين نقطتي اتصال إذا كانت الإبر متباعدة بدرجة كافية، ولكن إذا كانت الإبر قريبة جداً من بعضها البعض فلن تتمكن حاسة اللمس لدينا من الفصل بينهما. وتختلف الحدود بين الاثنين من شخص لآخر، ولكنها ثابتة نسبياً لكل شخص في العادة. ثم وضع المعالج 25 شخصاً تحت التنويم المغناطيسي واقترح عليهم أن إصبع السبابة أكبر بخمس مرات من الطبيعي أو أصغر بخمس مرات.

كانت نتيجة الاختبار كالتالي: عندما قيل للمشاركين في الاختبار أن إصبع السبابة لديهم أكبر بخمس مرات من الطبيعي، تحسنت حاسة اللمس لديهم، وكانوا قادرين على إدراك المسافة بين الدبوسين، في حين لم يستطع الذين قيل لهم أن إصبع السبابة لديهم أصغر بخمس مرات إدراك المسافة ولا الشعور بالوخز. ولم يحدث هذا التأثير عندما لم يكن المشاركون تحت تأثير التنويم المغناطيسي[10].

التنويم المغناطيسي لتخفيف الألم

إن تأثيرات التنويم المغناطيسي على الإحساس بالألم أكثر وضوحاً – وهو التأثير الذي استخدمه المعالجون والشامان منذ آلاف السنين. وقد استخدم الجراح الإسكتلندي جيمس برايد في منتصف القرن التاسع عشر اقتراحات منومة لتخدير مرضاه أثناء العمليات؛ فلم تكن هناك أدوية تخدير كيميائية فعالة في ذلك الوقت. وكان بريد هو من صاغ اسم “التنويم المغناطيسي” لهذه الحالات.

استخدم التنويم المغناطيسي للإشارة إلى أن الجزء المصاب أو المؤلم من الجسم مخدر ولا وجود للألم فيه، وهذا يمكن أن يساعد في التخلص من الألم بشرط أن يكون من السهل تنويم المريض مغناطيسياً. وقد أثبتت ذلك دراسة بريطانية في عام 2019. حيث وجدت أن الأشخاص الذين استجابوا بشكل جيد أو معتدل للتنويم المغناطيسي شعروا بألم أقل بنسبة 29 إلى 42 بالمائة مقارنة بالأشخاص الذين لم يتعرضوا له[11].

خلصت الدراسات إلى أن التنويم المغناطيسي يمكن أن يوفر لكثير من الناس تخفيفا فعالاً للألم، وبالتالي يمكن أن يكون بديلاً فعالاً وآمناً للعلاج الدوائي. وهذا هو أحد الأسباب التي جعلته راسخاً في بعض المجالات الطبية، حيث يستخدمه الأطباء في علاج الآلام الحادة والمزمنة، وخاصة مع المرضى الذين لديهم مشكلات مع مسكنات الألم الشائعة.

ماذا يحدث في الدماغ أثناء التنويم المغناطيسي؟

طرق العلاج النفسي
كيف يعمل الدماغ البشري

تظل العديد من الأسئلة دون إجابة عندما يتعلق الأمر بالآثار الفيزيولوجية العصبية للتنويم المغناطيسي. لكن يتم تصوير التنويم المغناطيسي على إنه حالة وعي متغيرة تختلف بشكل كبير عن اليقظة الطبيعية. وأن الأشخاص المنومين نادراً ما يلاحظون أي شيء في محيطهم ويكونوا في حالة شبه واعية تُشبه حالة السائرين أثناء النوم. وفي هذه الحالة يتم تعليق جميع آليات التحكم الداخلي، ولهذا السبب يكون الأشخاص تحت التنويم المغناطيسي، إلى حد ما، بلا إرادة ويمكن التلاعب بهم بسهولة. لكن الواقع مختلف كليةً عن ذلك، فهو مجرد حالة من الاهتمام شديد التركيز، على غرار ما نختبره عندما نكون مفتونين بفيلم ما لدرجة أننا ننسى كل شيء من حولنا، وهذا ينطوي على تجربة الانطباعات والعواطف الحسية بطريقة تؤثر على تجاربنا.

يقودنا التنويم المغناطيسي إلى حالة من الاسترخاء، وفي نفس الوقت انتباه شديد التركيز، حيث تكون بعض آليات التحكم في وعينا أقل نشاطاً. ولا علاقة لهذه الحالة المنومة بالمشي أثناء النوم، ولكنها تضمن قبول الاقتراحات بشكل أفضل وبمقاومة أقل.

نشاط الدماغ

ينعكس هذا في الدماغ. حيث تُظهر تسجيلات موجات الدماغ والصور باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي تحولات واضحة في نشاط الدماغ لدى الأشخاص المنومين مغناطيسياً. بينما يضعف الاتصال بين قشرة الفص الجبهي ومناطق أخرى من الدماغ، ونتيجة لذلك، يتضاءل تأثير مركز التحكم هذا في الفص الجبهي المسؤول عن القرارات العقلانية والتفكير النقدي والتحكم في الانفعالات.

يؤثر هذا الانفصال في المقام الأول على شبكتين مهمتين في الدماغ: فمن ناحية، يضعف التنويم المغناطيسي الاتصال من قشرة الفص الجبهي إلى القشرة المعزولة، وهي منطقة على جانب مقدمة الرأس مسؤولة عن التقييم العاطفي للأحاسيس الجسدية والمحفزات الحسية، ومن ناحية أخرى يتناقص نشاط التلفيف الحزامي في الجزء الأوسط من دماغنا، وهو المسؤول عن مقدار الاهتمام الواعي الذي نوليه للانطباعات الخارجية والداخلية وكيفية تقييمنا لها عاطفياً. وهذا ما يفسر سبب شعورنا بألم أقل أو يغير في إدراكنا.

يكون العقل أقل تشتيتاً بالأفكار والارتباطات تحت التنويم المغناطيسي، وفي الوقت نفسه، يضعف التفكير التحليلي والتقييم النقدي لأفكارنا ومشاعرنا. وتؤكد الدراسات البيولوجية العصبية أن التنويم المغناطيسي يمثل حالة تغير فيزيولوجية للدماغ[12].

تفتح هذه الآليات الفيزيولوجية العصبية إمكانية التلاعب بأفكارنا ومشاعرنا من خلال الاقتراحات – على الأقل إلى حد معين. ولكنها توفر أيضاً فرصاً لاستخدام التنويم المغناطيسي في الطب والعلاج النفسي لصالح المرضى. حيث يمكننا من خلاله السيطرة على الخوف والألم. ويُستخدم هذا الأسلوب اليوم بالفعل في علاج اضطرابات القلق والاكتئاب والألم، وفي الإقلاع عن التدخين أو المعاناة النفسية الجسدية. لكن المهم هو أن هذا العلاج يجب أن يتم دائماً من قبل علماء نفس ومعالجين نفسيين ذوي خبرة.

المراجع

[1] The Power of the Subconscious Mind.

[2] Myths and misconceptions about hypnosis and suggestion: Separating fact and fiction.

[3] THE HISTORY OF HYPNOSIS.

[4] Hypnosis – an overview.

[5] What is hypnosis and how might it work?

[6] Hypnotic Susceptibility.

[7] Functional Changes in Brain Activity Using Hypnosis: A Systematic Review.

[8] Hypnosis, Memory and Amnesia.

[9] The Power of mind: Blocking visual perception by hypnosis.

[10] The Effect of Hypnosis upon Visual and Auditory Acuity.

[11] Use of Hypnosis in the Treatment of Pain.

[12] Study identifies brain areas altered during hypnotic trances.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!