فلسفة جان جاك روسو: الحرية هي ما تجعلنا بشراً

You are currently viewing فلسفة جان جاك روسو: الحرية هي ما تجعلنا بشراً
خلاصة فلسفة جان جاك روسو

كان جان جاك روسو أحد أهم فلاسفة عصر التنوير، وقد أثرت أفكاره عن الحرية في الثورة الفرنسية التي اندلعت بعد أقل من عقد من وفاته. فلم يكن عصر التنوير عصراً فكرياً فحسب، بل كان أيضاً حركة اجتماعية انتشرت في جميع أنحاء أوروبا، وشككت في العديد من العقائد القديمة الموروثة من التقاليد المسيحية، ومعها نشأت أسئلة فلسفية جديدة تتمحور حول طبيعة الإنسان. كانت فلسفة جان جاك روسو ضرورية لهذه الطريقة الجديدة للتفكير في الإنسان، لأنه من خلال السؤال عن طبيعتنا جاء التفكير في تاريخ الحضارة ومشكلاتها. وقد ساهم روسو بشكل كبير في الإجابة على بعض الأسئلة الفلسفية، والتي ستكون بذور لعدد من التخصصات المعاصرة مثل الأنثروبولوجيا أو علم الاجتماع. في المقال التالي نستعرض لمحات من حياة جان جاك روسو ثم نتعرف على مساهماته الفلسفية.

لمحات من حياة جان جاك روسو

ولد جان جاك روسو في جنيف بسويسرا عام 1712 ميلادية، وكانت جنيف تتمتع في ذلك الوقت بحكم ذاتي وتعتبر دولة مستقلة إلى حد كبير. وعلى الرغم من أن جان جاك روسو لم يكن فرنسياً، ولم يكن معجباً بالثقافة الفرنسية إلا إنه يعتبر واحد من أهم المؤثرين في الثورة الفرنسية.

لم يتلق روسو تعليماً راقياً، وعانى خلال طفولته من حياة بائسة. حيث ماتت والدته ولم يتجاوز عمره أيام معدودات، وكان والده شخصاً غريب الأطوار، عُرف بتغيراته المزاجية، ولم يمنح ابنه اهتماماً في التعليم أو التربية. وهذا ما جعله يتنقل بين أفراد عائلته ليتولى كل فرد منهم تربيته لفترة من الزمن.

الموسيقى والكتابة

أتم روسو دراسته الأولية، وكان ميالاً للموسيقى والكتابة، لكنه شرع في العمل، واشتغل في وظائف متعددة. كان يعاني من ظروف العمل الصعبة والمؤلمة، وهذه الحياة بلا شك جعلته يشعر بالمرارة وقسوة الحياة. لكن تغيرت حياته وانقلبت رأساً على عقب عندما تقابل مع الفيلسوف الفرنسي دينيس ديدرو في فرنسا. عرفه ديدرو على بعض الكتاب والمفكرين الذين شاركوه في كتابة الموسوعة، ودعاه ديدرو أيضاً – بعد معرفته بموهبته في الكتابة والموسيقى – للمساهمة فيها، وشجعه على أن يكتب عن الموضوعات التي تهمه وكان أهمها الموسيقى.

عُرف روسو في بداية حياته بقدرته على الكتابة السيمفونية، وقام بكتابة أوبرا واحدة لاقت قبولاً ونجاحاً، ولكنه لم يستمر في مجال الموسيقى، واتجه إلى الكتابة عن الفن والتعليم، وكان مهموماً بدرجة كبيرة بمسألة “حرية الفرد والمساواة”.

أعمال جان جاك روسو

كان روسو ناقداً لاذعاً لفكرة الحضارة التي رأى أنها ترتبط بأفكار مسبقة في عقل من يظن نفسه متحضراً لدرجة تجعله يشعر بالتعالي تجاه أي شخص يراه خارج هذا التعريف الحضاري. وكان مقتنعاً أيضاً بأن الأنماط الحضارية تفرض على الإنسان أسلوب حياة يتعارض مع طبيعته التي كان مؤمناً بأنها بفطرتها طيبة، وأن ما يفسدها هو المجتمع وأسلوب التربية. ولهذا رفع روسو من شأن “الحدس” و “العاطفة” على حساب العقل. وأخذ يتغنى بالإنسان البدائي الذي لم يشوه بعد بمفاهيم الحضارة، وقد أطلق عليه اسم “المتوحش النبيل”.

وفي كتابه “إميل أو التربية[1] يتناول روسو دور النشأة والتربية، وتأثيرهما في تشكيل فكر وسلوك الإنسان. وبعد صدور هذا الكتاب اضطر روسو إلى ترك فرنسا متجها إلى إنجلترا خوفاً من الاضطهاد الذي كان يلحق بأي كاتب أو مفكر في ذلك الوقت.

ارتبط اسم جان جاك روسو بالعقد الاجتماعي. وهو الكتاب الذي كان له أكبر تأثير على الثورة الفرنسية، وربما على العالم أجمع حتى يومنا هذا. ويتمحور العقد الاجتماعي حول فكرة “الإرادة الشعبية” التي وصفها روسو بانها إرادة جماعية لها السلطة العليا حتى ولو تعارضت مع حرية الفرد.

وهنا يختلف روسو كثيراً عن الليبراليين الآخرين خاصة جون لوك. حيث رأى جون لوك أن السلطة لابد أن تكون من أجل حماية الفرد – حياته وحريته وملكيته. وهذا هو مفهوم الديمقراطية الليبرالية على عكس الديمقراطية المباشرة التي جاء بها روسو والتي كانت وراء الجوانب السلبية في الثورة الفرنسية. كما كانت ذريعة لظهور بعض السياسات الشمولية التي جاءت بعد ذلك مثل الشيوعية والفاشية.

اقرأ أيضًا: فلسفة إبيكتيتوس: أفضل الطرق لتحقيق السلام الداخلي

فلسفة جان جاك روسو

كان مفهوم الحرية بالنسبة لروسو أساسياً لأنه كان جوهر التفكير في الإنسان. لقد درس هذه الحرية ليس من وجهة النظر الطبيعية والفرد المعزول، ولكن في سياق اجتماعي. حيث انتقد روسو كلاً من الحضارة والعلم والفن على أساس الإيمان الأعمى بالتقدم. وقد أدى ذلك، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا كلها تستقل قطاراً في الاتجاه المعاكس. إلى أن فكره أثار بثوراً بين بقية فلاسفة ذلك الوقت مثل فولتير، الذي كان لديه عداوة هائلة معه، وفي وقت لاحق كان نيتشه.

سيطرت على عصر التنوير العقلانية المتطرفة والثقة المفرطة في العلم، والتي أصبحت عقيدة دينية جديدة. وهو الشيء الذي حارب ضده روسو في جميع أعماله. حيث يوضح روسو أن درجة أكبر من العقل أو الحضارة أو التقدم لا تؤدي بالضرورة إلى مزيد من الحرية، بل العكس: لقد أدى التقدم إلى تبرير الافتقار إلى الحرية للبشر في المجتمع.

لذلك فإن مسألة التقدم والحرية في عمله ترتبط ارتباطاً وثيقاً. ولا يقصد بذلك المستنيرين الذين يقودهم التفكير العقلاني إلى قدر أكبر من الحرية، ولكن بمعنى أن هذه العقلانية كانت خطراً على الإنسان. لذا يجب على التعليم أن يوجه الرجال إلى الحرية وفقاً لمُثل “المتوحش النبيل”.

اقرأ أيضًا: المعضلات الأخلاقية في الفلسفة

حالة الإنسان ذاتها

أقوال جان جاك روسو
جان جاك روسو

يعد العقد الاجتماعي أحد أهم الكتب في تاريخ الفلسفة. وهو الكتاب الذي حاول أن يجيب من خلاله روسو على السؤال الفلسفي عن الحرية. ويؤكد فيه أن الحرية هي شرط الإنسان ذاته، وهي ما تشكله أكثر من السمات الأخرى مثل الأخلاق أو العقل. في هذا العمل وفي أعمال أخرى مثل إميل، طور روسو نظرية حول الإنسان تسمى “المتوحش النبيل”. يشير فيها إلى أن الإنسان صالح بطبيعته؛ وميلنا إلى الارتباط بالمجتمعات من خلال عقد اجتماعي نقبل بموجبه إطاراً معيناً من التعايش هو ما يفسدنا. ومن هذا المنطلق كان الخلاف مع أفكار توماس هوبز[2]، الذي اعتبر أن الإنسان سيء بطبيعته، وهو ما أشار إليه من خلال عبارته “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان”.

يوضح روسو في العقد الاجتماعي أن الإنسان يوقع مجازياً نوعاً من العقود في شكل عادات وقوانين وأعراف وعقائد تضعه في نظام من التسلسلات الهرمية حيث يمتلك البعض موارداً أو حقوقاً أو ممتلكات أكثر من الآخرين. وهناك دولة تضمن استمرار حدوث ذلك. لكن يمكن للبشر أن يختاروا الامتثال أو عدم الامتثال لجميع هذه التفويضات الاجتماعية. فإذا لم نمتثل لها، فذلك بفضل حقيقة أن حريتنا تسمح لنا بالقيام بذلك، لكن هذه الحرية تأتي ضد حد هو العقوبة الاجتماعية وعقوبة الدولة إذا لم نمتثل لتفويضات العقد الاجتماعي .

ترتبط الحرية في فلسفة جان جاك روسو بالأخلاق والمسؤولية كذلك، لأنها ضمانة تشير إلى أنه يمكننا اختيار أشياء معينة في الحياة، مما يجعلنا أيضاً مسؤولين عن أفعالنا. وهذه المسؤولية هي نقطة البداية للأخلاق، لأنه إذا كنا مسؤولين وأحرار، يمكننا اتخاذ قرارات نعتبرها جيدة أو سيئة. لكن تكمن المشكلة الرئيسية في أن الأخلاق في نظام غير عادل ستكون في حد ذاتها غير عادلة.

اقرأ أيضًا: الفلسفة العدمية: الحياة ليس لها معنى

الحضارة لا تجعلنا أكثر حرية

في رسالته حول “أصل وأسس عدم المساواة” يجادل روسو ضد الحضارة والتطور العلمي والتكنولوجي الذي يجعلنا أكثر حرية. ويشير إلى أن العبودية، وهي أكبر مثال على الافتقار إلى الحرية، لا تختفي في أكثر المجتمعات تحضراً، بل تصبح فقط أقل وضوحاً. ومع ذلك، فإن حرية مواطنيها بالتحديد هي التي يجب أن تسعى إليها جميع المجتمعات.

يصنف روسو هنا عدم المساواة، على أساس أن هناك تفاوتات جسدية ليست من مسؤولية أي إنسان. ولكن هناك أيضاً تفاوتات اجتماعية، وهي مسؤولية المجتمع الذي تحدث فيه. وهو يهتم بهذه الفرضية الأخيرة في رسالته. حيث ذكرها في العقد الاجتماعي، ولكنه طورها في هذا الكتاب، للتأكيد على أن نفس الارتباط بين البشر، يفترض أصل الظلم. لا ينبغي أن تستند حرية روسو إلى ممارسة القوة والسلطة على الآخرين. وهذا هو بالضبط ما يتكون منه وجود الدول، في تطبيق غير عادل للسلطة والقوة.

تستخدم الدول خطاب الحفاظ على رفاهية الأغلبية لتبرير عدم المساواة، وضمان الملكية الخاصة التي تولد العنف بين الأفراد. كما أدى تحليله للملكية الخاصة كأصل لعدم المساواة والعنف إلى أن يكون أحد المصادر التي شرب منها التحليل الماركسي[3].

عند سن القوانين، تخضع الدول لمهمتها المتمثلة في ضمان الملكية الخاصة، وبالتالي، يتم اعتماد هذه القوانين لمصالح أولئك الذين لديهم المزيد من الممتلكات: الأغنياء، وهم أقلية. لذلك، فإن العقد الاجتماعي لا يضمن مصلحة الأغلبية على حساب مصالح الأقلية، بل بالعكس. هذا بالإضافة إلى إدانة الفساد والظلم النظاميين. مما جعل روسو يواجه جميع المثقفين في عصره تقريباً، الذين اعتبروه أقل بقليل من “مناهض للنظام”.

اقرأ أيضًا: الأحكام والمعايير الأخلاقية وأهم الأمثلة عليها

الحرية الطبيعية والحرية الأخلاقية

تميز فلسفة جان جاك روسو بين الحرية الطبيعية والحرية الأخلاقية، وهذه الأخيرة أعلى وأكثر مناسبة للإنسان. فإذا كان يريد أن يمتلك نفسه ويكون حراً أخلاقياً عليه أن يتخلى عن الاهتمام بالرغبات الجسدية وتلبية رغباته الفكرية والأخلاقية. يوضح روسو أن لدى الإنسان نزعة طبيعية لفعل الخير. لكن العيش في مجتمعات تفسدنا، لأنها تدخلنا في منطق الظلم والشر. بينما يشير “المتوحش النبيل” إلى حالة من طبيعة الإنسان لا يقيده فيها مجتمع فاسد ويمكنه أن يتطور بحرية بدون قيود الحضارة.

يدافع كذلك عن أن الحرية ليست صفة مميزة للكائن البشري فحسب، بل هي شيء يجب أن يناضل من أجله ولا ينبغي لأحد التصرف فيه دون إذن. والتخلي عن الحرية هو التخلي عن جوهر الإنسان. فالحرية ليست الذهاب للنوم عندما نريد أو الأكل بقدر ما نريد، بل هي شيء أسمى وأكثر ملاءمة للإنسان، وهو تعني أن نكون سادة أنفسنا.


في الختام يمكننا اعتبار جان جاك روسو فيلسوفاً عملياً وليس تأملياً فقط. فهو يتحدانا لكي ندرك إمكاناتنا الخاصة، لنعيش بأفضل فلسفة ممكنة في الحياة. تلك الفلسفة التي لا تقوم على الجلوس على مقعد وثير والتفكير فيما نحن عليه، وما ينبغي أن نكون عليه. لكنها فلسفة تكمن في كيفية أن تكون حراً.


مراجع

[1] كتاب إميل – جان جاك روسو.

[2] فلسفة هوبز الأخلاقية والسياسية.

[3]الماركسية.

اترك تعليقاً