كانت مشكلة وجود الشر مسألة مؤرقة للإنسان منذ وجوده على هذه الأرض. وقد حاول الفلاسفة منذ فجر الحضارة وحتى وقتنا الحالي فهم وحل هذه المعضلة التي تربكنا، وتحركنا، وتدهشنا، وتزعجنا، وتملأنا بالغضب. فالشر ظاهرة جذبت دائماً انتباه البشرية. فهل الشر طبيعة متأصلة في الإنسان؟ ومن أين يأتي؟ وهل يمكن التغلب عليه؟ وما علاقة مشكلة الشر بوجود الإله؟ في المقال التالي نستعرض ما قاله الفلاسفة عبر التاريخ عن مشكلة الشر في العالم.
الشر ثمرة الجهل
كان سقراط من أوائل الفلاسفة الذين قاموا بتحليل مشكلة الشر. وكما يتضح من حوارات أفلاطون، نسب المعلم اليوناني الشر إلى الجهل. وهذا يعني أن البشر أشرار لسبب بسيط هو أننا لا نعرف ما هو الخير؟ وكيف علينا أن نتصرف لنعيش وفقاً له. فلن يكون الشرير كذلك إذا كانت لديه معرفة حقيقية بخطئه. وإذا كنت أدرك أن العيش بشكل أخلاقي هو أفضل طريقة للعيش، فالأسعد لن يختار الشر.
من ناحية أخرى، كان أرسطو يعتبر الاعتدال حجر الزاوية في أخلاقه. حيث يقول أن الفضيلة توجد في الوسط بين طرفي نقيض مختلفين، وهو الأمر الذي عرضه لانتقادات شديدة من قبل الفلاسفة اللاحقين. على سبيل المثال، ينطبق هذا على القضية المطروحة: هل هناك فضيلة في الشر المعتدل؟
الشر كجزء من طبيعتنا
جذب الشر دائماً انتباه البشر، ولطالما شعر البعض بنوعاً من الانجذاب ناحية الشر، ويعود ذلك إما بسبب وضعه المحظور، أو الصعوبة والتحدي اللذين ينطوي عليهما فعل الشر نفسه. ربما يبدو الأمر عصياً على التفسير، وخاصةً أن بإمكانه أن يقودنا إلى اهتمام يكاد يكون مرضياً في أكثر حالاته تطرفاً. إننا نشعر بسحر معين تجاه الأشرار، وهناك الكثير من الشواهد التي تشير إلى ذلك. لكن قبل وقت طويل من ظهور وسائل الإعلام الحديثة في كل مكان، شعر البشر برغبة ملحة للتحقيق في هذه الظاهرة.
يشير الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور إلى أن الشر له نقطة انطلاق لا جدال فيها: أنفسنا. فالشر جزء من طبيعتنا مثل الحب أو العنف أو الرغبة. والروح البشرية كبيرة بما يكفي لاستيعاب كل هذه الحالات المتطرفة. ويقول شيلينج:
“الإنسان هو أعمق هاوية وفي نفس الوقت أعلى سماء”.
بينما يقول الكاتب البريطاني غلبرت كيث تشيسترتون:
“هل أنت شيطان؟ أنا إنسان. وبالتالي لدي كل الشياطين في داخلي”
ذهب فريدريك نيتشه خطوة إلى الأمام وأوضح أن أصل الشر ليس فقط في الكائن البشري، ولكن في الطبيعة نفسها. فالشر في كل مكان، وفي كل الأنواع. إنه ليس تشوهاً، ولا شيء ظرفي. ووجود الشر ليس من قبيل الصدفة. إنه جزء من الكل، والدليل على ذلك أنه إذا نظرت إلى الطبيعة يمكنك أن ترى أن هناك شراً في جميع المجالات، بنفس الطريقة التي يوجد بها الخير. ومن ثم، فإن محاولاتنا العقلانية لمواجهة الشر أو تقليله أو القضاء عليه هي محاولات سخيفة. فلا تهتم الطبيعة بمعاييرنا الأخلاقية ولن تنحني لها.
اقرأ أيضًا: الفلسفة العدمية: الحياة ليس لها معنى |
الشر ووجود الله
هناك جانب آخر تكرر عبر التاريخ وهو التناقض الواضح الذي ينشأ بين وجود الشر والقوى المفترضة للآلهة. لقد حاول الفلاسفة مثل أبيقور وديفيد هيوم وغيرهم حل هذه المعضلة. كذلك دافعت الأديان عن فكرة أننا نعيش تحت حماية إله كلي القدرة من الخير اللامتناهي. ومع ذلك، يبدو أن كلتا الفضيلتين تفشلان في مواجهة وجود الشر، لأنه إذا كان هذا صحيحاً، فيجب أن يكون من السهل نسبياً إيجاد حل، ببساطة عن طريق القضاء على الشر من العالم.
مفارقة أبيقور
تفتح لنا فكرة علاقة الإله كلي القدرة والخير معضلة أخرى، فمن خلال افتراض أن الشر موجود لأن الله يسمح به، لا يمكننا إذن أن نستنتج أن الله هو الخير اللامتناهي، لأنه إذا كان كذلك، فلن يسمح بحدوث الفظائع التي نعانيها ونختبرها. ومن ناحية أخرى، إذا اعتبرنا أن الشر موجود بسبب عدم قدرة الله على منع وجوده، نستنتج من ذلك بالمنطق أن الله يفتقر إلى القوة المطلقة التي يربطها الدين بكيانه. هذا الأمر هو ما يقودنا إلى مفارقة أبيقور التي تقول:
- يريد الله منع الشر ولكن لا يقدر؟ لذلك فهو ليس كلي القدرة.
- الله قادر على منع الشر، ولكنه لا يريد ذلك. لذا فهو شرير.
- يستطيع الله منع الشر ويرغب في القيام بذلك. فمن أين يأتي الشر إذن؟
- الله غير قادر أو راغب في منع الشر. فلماذا ندعوه بالله؟
قام الشاعر الإنجليزي جون ميلتون، صاحب الملحمة الشعرية الفردوس المفقود، بتحليل هذه الثنائية بدقة، مقدماً سبباً: إرادتنا الحرة. فالشر موجود لأننا أحرار، ولأن الله أرادنا ألا نكون كائنات مقيدة. وهذا هو الثمن الذي ندفعه مقابل القدرة على اختيار ما نريد أن نفعله أو نكونه. وقد اتخذ مفكرون مختلفون موقفاً مشابهاً لذلك، مثل الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز الذي قال إن الحرية ليست شيئاً جيداً بأي حال من الأحوال. حيث تميل الإنسانية من خلال الحرية إلى الوقوع في الشر والفوضى والمعاناة، وهي تولد حالة حرب للجميع ضد كل ما لا يمكن محاربته إلا من خلال سلطة قضائية مقيدة تزرع الخوف من الدولة في قلوب مواطنيها.
اقرأ أيضًا: أفلوطين: كيف أثرت نظرية الفيض الإلهي على الديانات التوحيدية؟ |
العدالة عند توما الأكويني
قال توما الأكويني أن العدالة هي إعطاء كل فرد ما يستحقه. ومع ذلك، فإن هذا البيان ليس سهلاً كما يبدو. خاصة في عصرنا النسبي، فهناك وجهات نظر متعددة فيما يتعلق بما هو عادل أم لا، في المواقف المختلفة. فلا يوجد معيار أخلاقي موحد. ويختلف التفسير حسب الموقف الشخصي أو الجماعي الذي نجد أنفسنا فيه.
يشير توما الأكويني إلى أن الشر هو نقص في الخير، بمعنى كلما ارتكب شخص شراً فهذا يقلل من خيريته حتى يصل إلى النقيض تماماً. وبهذا المعنى أخرج مشكلة الشر والخير من الدائرة الأخلاقية إلى الدائرة الوجودية. وتعود مشكلة الشر إلى فكرة الإرادة الحرة للعقل. فإذا وافق شيء ما العقل فهو خير، وإذا لم يفعل فهو شر. فقد يقتل إنسان إنساناً آخر ظلماً وعدواناً، وربما يقتل لتحقيق العدالة. ففعل القتل واحد، ولكن تختلف الغايات. ويمكن أن يكون للمعاناة من “شر معين” عواقب إيجابية، طالما أنها تجعلنا نقدر الخير المفقود، وتحملنا على القيام بدورنا في الهروب أو تجنب ما يحرمنا من ذلك.
اقرأ أيضًا: هل الله موجود؟ الصراع الأزلي بين العلم والدين |
خلاصة مشكلة وجود الشر
هناك العديد من الفلاسفة الذين أدلوا بدلوهم في مشكلة وجود الشر في العالم. ولا يتوقف الأمر على ما استعرضناه آنفاً من فلسفات وآراء مختلفة تحاول حل معضلة وجود الشر. لكن في النهاية يمكننا أن نختصر كل تلك الفلسفات في بعض النقاط. ولسوف نستعرضها هنا مع بعض الأمثلة القصصية.
نسبية الخير والشر
إذا نظرنا إلى معضلة الشر بنظرة مغايرة سنجد أن العالم بكل مساوئه وشروره يعتبر ضرورة. فالشر جزء من جمال متناقض في الوجود. ولو نظرنا إليه بهذه النظرة لأدركنا أن كل تلك الكوارث الطبيعية التي تظهر بمظهر الشر ما هي إلا خير لباقي البشر. فالشر والخير مسألتان نسبيتان.
تحكي الأسطورة القديمة عن عجوز كان يمتلك فرساً لا يملك غيره، وفي أحد الأيام دخل إلى مربضه ابنه الشاب ليُطعمه، ولمّا فرغ من إطعامه خرج، وقد نسي أن يُغلق الباب وراءه فهرب الفرس. أتاه الناس يعتريهم الحزن لما أصاب العجوز وقالوا له: أيها الشيخ أي شر هذا الذي حل بك! لقد فقدت كل ما تملك.
فأجابهم الشيخ: لعله شر.
وبعد انقضاء اليوم عاد الفرس إلى مربضه على رأس مجموعة كبيرة من الأفراس البرية، وغدا الشيخ أكثر أهل القرية ثراءً، فجاؤوه أهل القرية وقالوا له: أي خير كثير قد أصابك بفرار الفرس.
فأجابهم: لعله خير.
وذات يوم من الأيام كان ولده الوحيد يمتطى فرساً فوقع من فوقه، وانكسرت قدمه. فقال له أهل القرية: أي شر أصابك بكسر قدم ولدك.
فأجابهم: لعله شر.
وفي صباح اليوم التالي أتى مبعوث الملك ليُرسل كل الفتيان إلى حرب ضروس لم يعد منها حياً إلا القليل، ونجا ابن الشيخ من المشاركة في الحرب بسبب قدمه المكسورة. أتاه أهل القرية وقالوا له: أي خير أصابك بكسر قدم ابنك.
فأجابهم: لعله خير.
وهكذا تستمر الحكاية إلى ما لا نهاية…. فتؤكد لنا أن الخير والشر أمر نسبي تماماً
المدينة المثالية
لكن كيف نشعر بالراحة طالما هذا العذاب الذي يخلفه الشر من وراءنا دوماً؟ هنا ندرك أننا لم نكن سنعرف معنى للراحة بدون وجود هذا العذاب، ولو افترضنا عالماً كمدينة مثالية لا وجود فيها إلا للخير تتحقق فيها كل رغبات الإنسان. بمعنى أن كل ما يفكر فيه الإنسان يتحقق، فإن ذلك العالم سيقتل في الإنسان الشوق والرغبة.
تقول الأسطورة القديمة أن رجلاً تُوفى. وبعد موته بقليل وجد نفسه في مكان عظيم ذو حدائق شاسعة، وأشجار خلابة، وأنهار رائعة الجمال فيه كل ما تشتهي الأنفس. أتاه كائن قدّم له نفسه على أنه ملاك، وطلب منه أن يتمنى ما يشاء. فتفكر الرجل قليلاً ثم طلب امرأة حسناء، فكان له ما أراد. ثم طلب أشهى طعام في الوجود، فجىء له بطعام يفوق ما صوره له خياله. ومن ثم طلب الرجل أجمل ثياب ليرتديها، فكان له ما أراد. وتواصلت رغباته، وكثرت طلباته. وكان يُستجاب لها قبل أن يُعبر عنها أحياناً فما أن تخطر بباله حاجة إلا وجدها أمامه.
بعد فترة طويلة شعر الرجل بالسأم والملل وضجر من تلك الحياة، فنادى الملاك الذي يُحقق له كل رغباته وقال له: لقد أصابني الملل والسأم، ما كنت أتصور أن الجنة مملة إلى هذا الحد، فنظر إليه الملاك نظرة عميقة وقال له متعجباً: الجنة؟! مَن قال لك يا راجل أنك في الجنة، هذه هي الجحيم يا سيدي!
لكن أليس وجود هذا الشر هو أكبر دليل على غياب الحكمة؟ إننا لا نعرف الأشياء إلا بأضدادها، فلولا الظلام ما عرفنا النور، ولولا القبح ما أدركنا قيمة الجمال، ولولا اليأس ما تمسكنا بأهداب الرجاء، ولابد أن نعرف أن القصور في معرفة الحكمة لا يعني غيابها، كما أن الحرية الممنوحة لنا تُحتم وجود الشر والخير للاختيار بينهما.
الكوارث الطبيعية
وماذا عن الكوارث الطبيعية أليس هذا شراً في حد ذاته؟
هناك نوعان من الشر أحدهما من عمل يد الإنسان، فالإله ترك للإنسان حرية الاختيار، وبهذه الحرية طغى وتجبر. أما الآخر فلا اختيار فيه للإنسان كالزلازل مثلاً. لكننا نعلم أن وجود هذه الزلازل على الرغم من أننا نراها شراً مطلقاً إلا أنها خيراً للطبيعة، ولحياتنا نحن البشر. لنتخيل أن الزلازل توقفت فجأة في الأرض ما سيحدث إذا تم هذا الأمر؟ ستكون العواقب وخيمة بكل تأكيد، فمثلاً خلال مليون عام ستتحول المياه والرياح والمناطق الجبلية إلى ركام سينتقل إلى الاماكن المنخفضة وخاصة إلى البحار والمحيطات فتتراكم هناك، وسيؤدي ذلك إلى تناقص فروق الارتفاع بين المرتفعات والمنخفضات. وبالتدريج سيتحول سطح الأرض إلى سهول، وكذلك ستتناقص أعماق البحار والمحيطات ويتبدل وجه الأرض تماماً عما هي عليه الآن. ومع الزمن سيغرق وجه الأرض بالفتات الصخري. وفي النهاية تموت الأرض ولا تصلح للحياة. كذلك وجود مثل هذه الكوارث تساعد الإنسان في الترقي حضارياً وروحياً. حيث أن مواجهة التحديات الطبيعية تجعله يسعى جاهداً لإعادة بناء ما تهدم.
في الختام يمكننا أن نتساءل: هل الحياة الخالية من الشر بالشكل الذي نتخيله ستُرضي الإنسان؟
المراجع
- مشكلة الشر ووجود الله – د. سامي عامري.
- عقائد المفكرين في القرن العشرين – عباس محمود العقاد.
- مشكلة الشر – دانيال سبيك – ترجمة: سارة السباعي.
- الزمان والأزل مقال في فلسفة الدين – ولتر ستيس – ترجمة: زكريا إبراهيم.
- مشكلة الحرية – د. زكريا إبراهيم.