غموض

دش الاستحمام: القصة المثيرة وراء اختراع حمام المطر

دش الاستحمام هو الشكل الأكثر شيوعاً للاغتسال في منازلنا، ولكن وراء هذا الاختراع قصة مثيرة بدأت في السجون. حكاية تصميم أحدث ثورة في الطريقة التي كان أسلافنا يغسلون بها أجسادهم وينظفونها. فمنذ أكثر من 130 عاماً اخترع الطبيب الفرنسي ميري ديلابوست ما أطلق عليه وقتها اسم “حمام المطر”. لكن قبل أن نتعرف على قصة اختراع دش الاستحمام دعونا نتعرف في البداية على تاريخ الاستحمام نفسه.

من أين جاءت فكرة الاستحمام؟

يتخيل الكثير منا أن البشر في العصور القديمة لم يستحموا. وهذا صحيح، إذا نظرنا إلى بعض الفترات التاريخية القليلة مثل العصور الوسطى، لكن كان الاستحمام شائعاً منذ العصور القديمة المبكرة كما هو اليوم تماماً، إلا أن غسل وتنظيف الجسم كان يتم بطريقة مختلفة، حيث استخدم البشر القدامى مصادر المياه الطبيعية مثل البحيرات والأنهار أو البحار للاغتسال، حتى جاء الوقت الذي أدرك فيه الناس أنه من الأسهل الاغتسال في المياه الجارية، على سبيل المثال تحت شلال، بدلاً من الاستحمام في المياه الراكدة.

ظهرت أقدم الحضارات وتقدم البشر، وأصبحت أحواض الاستحمام مطلوبة بشدة في المنازل الخاصة. لكن كان يعني أنه كان لا بد من إدخال كميات كبيرة من المياه العذبة إلى المنزل، كما كان لا بد من إخراج المياه القذرة مرة أخرى. وقد مارس الأثرياء في مصر القديمة أو بلاد ما بين النهرين الاستحمام في حوض الاستحمام[1]. وكان الخدم يسكبون دلواً من الماء على السادة من الأعلى، إلا أن إحدى العقبات التي كانت تقف عائقاً أمام هذا الفعل هي عدم وجود نظام صرف صحي في المنازل. لذا كانوا بحاجة إلى تخصيص غرفة كاملة للاستحمام وتنظيف الجسم فقط. وكانت الرطوبة في الغرف أيضاً مشكلة يجب معالجتها، لذلك لم تكن تُمارس طقوس الاستحمام هذه في كثير من الأحيان[2].

الحمام ونظام الصرف الصحي

تاريخ الاستحمام
حمام روماني قديم

كان الشرط الأساسي لامتلاك دش للاستحمام أو حتى حمام هو نظام الصرف الصحي. وهناك أدلة تشير إلى أن الحضارات القديمة كانت لها حمامات عامة ظهرت في العديد من الاكتشافات الأثرية. ومن أجل بناء الحمامات، كان لا بد من إنشاء نظام صرف صحي. وأول حضارة معروفة تمتلك كلا الاختراعين هي حضارة هارابا أو حضارة وادي السند التي سكنت المناطق الواقعة على طول نهر السند (باكستان والهند حالياً). حيث عُثر في أطلالها على نظام صرف حقيقي للشوارع يشبه إلى حد كبير نظام الصرف الصحي لمدينة في العصور الوسطى. ومما أثار دهشة الجميع أن ثاني أكبر مبنى في الآثار القديمة لم يكن معبداً أو قصراً، بل كان عبارة عن مؤسسة استحمام كبيرة[3].

ظهرت أحواض الاستحمام بعد ذلك في اليونان القديمة، وكانت مزينة بالأحجار الكريمة. بينما تم اختراع الأنظمة الهيدروليكية الأولى في العصر الكلاسيكي، وأصبح من الممكن أن تتدفق المياه مباشرة إلى المنازل. بدأ نقل المياه إلى المدن عبر قنوات المياه من الأنهار القريبة. وهذا ما جعل من الممكن تركيب هياكل تشبه الدش في مؤسسات الاستحمام العامة (المعروفة باسم الحمامات اليونانية)، والتي تشبه إلى حد كبير الحمامات الشعبية. وتشير السجلات التاريخية أن العالم اليوناني أرخميدس صاغ مبدأ أرخميدس الشهير أثناء الاستحمام في حوض الاستحمام[4].

عصر دش الاستحمام

يعود تاريخ اختراع دش الاستحمام الحديث إلى عشرينيات القرن العشرين. فلم تكن هذه الحقبة معروف عنها الاهتمام بالنظافة الشخصية. كما لم يكن الناس في أوروبا لديهم عادة الاستحمام وتطهير الجسم بالماء. وكانوا يقومون فقط بتنظيف أجزاء معينة من الجسم بدلاً من الاستحمام، ويخفون رائحة العرق بواسطة بعض العطور.

لم يتم تركيب أحواض الاستحمام المزودة بالمصارف والاستحمام في المنازل إلا في منتصف القرن العشرين مع إدخال المرحاض إلى المنزل. وقد أصبح هذا ممكناً من خلال اختراع صينية الدش الفولاذية ذات الصرف الخاص بها والتي لا تجري منها المياه في جميع أنحاء الحمام. ومنذ ذلك الحين، أصبح الدش بديلاً كاملاً لحوض الاستحمام. يمكننا أن نتحدث هنا عن بداية عصر الدش.

  

البداية داخل سجن

قصة اختراع الدش
مخترع الدش الطبيب الفرنسي ميري ديلابوست

تبدأ قصة اختراع دش الاستحمام الحديث مع عمل الطبيب الفرنسي ميري ديلابوست في سجن روان بفرنسا على علاج المرضى والمصابين من السجناء. قضى الطبيب الفرنسي حياته بأكملها في هذا السجن من عام 1864 وحتى وفاته عام 1918. وكانت سجون فرنسا في ذلك الوقت تفتقر لأدنى معايير الجودة الصحية والنظافة، واشتهر سجن روان بحالته المزرية وقلة الخدمات الصحية فيه. لقد كانت رغبة الطبيب قوية تحسين الخدمات الصحية للمساجين الذين لا يعرفون شيئاً عن ثقافة الاستحمام. لذا كان الأمر الهام في البداية هو تجديد وتطوير الحمام[5].

أرسل ديلابوست طلباً إلى وزير الداخلية في أكتوبر عام 1872 يطالب فيه أن يقدم جميع مدراء السجون في فرنسا مقترحات تساهم في تطوير العناية الصحية للسجناء. وقام حينها مدراء السجون بإرسال العديد من الاقتراحات اللازمة لهذا الأمر. لكن أكثر ما كان يهم الطبيب هو النظافة الشخصية للسجناء. ونظراً لمحدودية عدد الحمامات في سجن روان، حيث كان هناك ثلاثة حمامات فقط ما جعل استخدام هذه الحمامات تقتصر فقط على المصابين بالأمراض أي تم استخدام هذه الحمامات للأغراض العلاجية فحسب. كما أن معظم السجناء يرفضون الاستحمام. يقول الطبيب:

ربما كانت النظافة الشخصية غير معروفة بالنسبة لهم، فهي ممارسة شاقة على أنفسهم.

فكرة ثورية

تاريخ الاختراعات
دش استحمام في السجون الفرنسية

بعد أن حصل الطبيب ديلابوست على موافقة وزارة الداخلية بدأت أعمال الإصلاح والتطوير داخل السجن. وخلال جولته التفقدية لمراقبة أعمال الإصلاح توقف أمام حمام صغير في فناء السجن، كان يستخدم لعلاج المساجين الذين يعانون من اضطرابات عصبية، كما هو الوضع في ذلك الوقت. حيث كانت طريقة علاج بعض الأمراض النفسية تتم عن طريق إما الماء البارد أو الصدمات الكهربائية.

كان العمال يعملون على قدم وساق لتركيب صنبور حمام بارد، وفي تلك اللحظة تبادرت إلى ذهن الطبيب فكرة عبارة عن عمل خزان مرتفع يتعرض للحرارة مما يزيد الضغط وبالتالي يخفض من استهلاك المياه، ويقلص من ضياع بخار الهواء. واستعان على تنفيذ هذه الفكرة بأنبوب ملتوي. وبهذه الطريقة يستطيع تسخين المياه في الخزان، ومن ثم يستبدل صنبور الحمام باختراع يعمل على رش المياه. وبدأ تنفيذ الفكرة.

كانت الفكرة جديدة وثورية في ذلك الوقت، حيث صنع رشاش المياه بطريقة تمكن المستخدم من إيقاف الدش أو استئنافه. وخلال أقل من خمس دقائق استطاع ثمانية من السجناء الاغتسال بشكل جيد مع القليل من الصابون اللين وذلك بعشرين لتراً فقط من الماء لكل منهم بدلاً من مائتي لتر كان يتطلبها الاستحمام العادي.

دش الاستحمام بالماء الساخن

إن ما جعل الدكتور روان يفكر في هذا الأمر هو رؤيته لأولئك السجناء الذين يعملون في أعمال قذرة، وخاصة هؤلاء الذين يعملون في ورش تصنيع الأزرار، فهم يعملون عراة حتى الخصر في بيئة حارة مغبرة، وسريعاً ما يتحول مظهر أجسادهم إلى اللون الأسود الداكن نتيجة لهذه الأعمال.

بعد نجاح مشروعه قدم ديلابوست طلباً آخر لوزير الداخلية يطلب فيه تنفيذ فكرة دش المياه الساخنة. وقوبل طلبه بالموافقة واستطاع الطبيب رؤية مشروعه يتحقق في عام 1873 بميزانية تقدر بحوالي 1200 فرانك. وسرعان ما أرادت السجون الأخرى تنفيذ هذا المشروع، كما انتقل الاختراع الثوري الذي يقلل من استهلاك المياه إلى الثكنات العسكرية في جميع أنحاء فرنسا.

حمامات دش الاستحمام الرخيصة

لكن اختراع الدش لم يتنقل للاستخدام العام بين المدنيين. وقد عبر ميري ديلابوست بسخرية عن ذلك قائلاً:

إن اختراعي هذا ليست في متناول الجميع. حيث يجب أن تكون قد قتلت أو سرقت أو على أقل تقدير كسرت فانوساً لتعتقل وتستفيد من هذا الاختراع.

ومع ذلك وبعد أقل من عشرين عاماً تأسست شركة في 13 أبريل 1892 في بوردو تحت اسم منشأة حمامات الدش الرخيصة برئاسة رئيس بلدية بوردو، وكان شعار هذه الشركة “النظافة تمنح الصحة”.

مما لا شك فيه أن اختراع الدش كان اختراعاً عظيماً ساعد الكثير على توفير الماء التي تستهلك يومياً في الاستحمام والنظافة، ولعل اعتيادنا على استخدامه هو ما جعلنا نجهل فوائده الكبيرة، والتاريخ الطويل لاختراعه.

المصادر

[1] What history’s bathing rituals reveal about status, purity and power.

[2] A History of Bathing: It Hasn’t Always Been About Hygiene.

[3] FLUSHED AWAY: SEWERS THROUGH HISTORY.

[4] The History of Hydraulics.

[5] 150 years of the shower – the revolutionary French hygiene invention.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!