المرض النفسي: كيف يمكننا تغيير المفاهيم المغلوطة؟
ما هو أول ما يتبادر إلى ذهنك عندما تسمع أن أحدهم مريض؟
إننا نميل عادةً إلى ربط كلمة المرض بأعراض مثل الزكام والعطس والعدوى وسيلان الأنف، فهي أكثر الأعراض شيوعاً. وقد تعرضنا جميعاً لمثل هذه الأعراض في مرحلة ما من حياتنا. فمنذ أن كنا صغاراً عندما يخبرنا المعلم أن أحد زملائنا في الفصل مريض، فهذا يعني أن جسده يعاني من بعض ردود الفعل غير العادية؛ لذا لم يستطع الحضور. وأعتقد أن من يشعر بمثل هذه الأعراض لا يسير بهدوء في شوارع المدينة ويسعل مثل المجنون، أليس كذلك؟
لكن مع تقدمنا في العمر أدركنا أن هذا المفهوم عن المرض أوسع بكثير مما يبدو. وأن هناك أعراضاً أكثر خطورة من أعراض نزلات البرد والأنفلونزا. ويمكن أن تعرض حياتك للخطر اعتماداً على نوع المرض الذي تعاني منه. لكن ما يحدث عندما نسمع هذه الكلمة سرعان ما نربطها بالجانب المادي، وردود الفعل التي يولدها جسدنا عند مواجهة شيء ضار. وننسى تماماً أن هناك نوعاً آخر من المرض، وهو المرض النفسي. وهذا النوع من المرض يؤدي كذلك إلى حالة جسدية معينة، بل ويساهم في اختلال توازننا ويمكن أن يكون بنفس الدرجة من الخطورة أو أشد خطراً.
الأقنعة
يدور الجميع في دائرة ليس لها نقطة نهاية ولا بداية. ويعاني الجميع من القلق والخوف. القلق بشأن تلبية الاحتياجات الأساسية من مأكل ومشرب ومسكن، وغيرها. لكن عليه كذلك أن يقلق بشأن سلوكه وتصرفاته، أقواله وأفعاله، مسؤولياته والتزاماته. عليه أن يكون على دراية بالأعراف الاجتماعية، والقوانين، وما يفرضه المجتمع عليه. باختصار عليه أن يلعب دوره بإتقان أمام جميع من حوله، والالتزام بالقوانين المفروضة ونمط الحياة السائد، والقيام بما يجب عليه القيام به، واحترام ترتيب التسلسل الهرمي لذلك المجتمع.
الذات العارية
كل هذه الأمور وأكثر تدور في عقولنا في كل مرة نستيقظ فيها في الصباح حتى وإن كنا لا نعلم ذلك. ومن هنا يبدأ اليوم بارتداء الأقنعة، قناع لكل موقف، وقناع لكل شخصية نتعامل معها، وقناع لكل مكان نتواجد فيه. هذه الأقنعة التي نرتديها تختفي وراءها حقيقة ذواتنا، لتذوب شخصياتنا الفردية التي تميز كل واحد منا. لينتهي اليوم وقد أهلكنا التعب الجسدي والنفسي، فلا يتسنى لنا الجلوس في عزلة لننفرد قليلاً بأنفسنا لتخرج عارية أمامنا بعد أن نتخلص من الأقنعة. وإذا ما جاء الوقت الذي يمكننا فيه ذلك، نفتش عنها فلا نجدها. فلقد عانت طويلاً حتى دمرتها العلل.
لا يحاول الناس الحديث عما يدور في عقولهم ببساطة، ولا يتحدثون عما يشعرون، لأن الخوف قد كمم أفواههم، وخشيتهم من تعرية الذات أمام أحد كخشيتهم من الجحيم، ومن هنا يحفظون كل تلك المشاعر السلبية والضغوط داخل صندوق صغير في الدماغ، وكلما ازدادت الضغوط كلما زاد معها حجم الصندوق، حتى يصل في النهاية إلى نقطة اللاعودة.
عالم الدماغ البشري
عالم الدماغ البشري عالم غريب لم يستطع العلم حتى الآن سبر أغواره. نعلم أن هناك تحفيز مفرط لجزء من الدماغ عندما يعاني شخص ما من الاكتئاب، ونعلم كذلك أن هناك تغيراً في المركبات الكيميائية بالدماغ في مرض انفصام الشخصية، لكننا لا نعرف سبب ذلك، وليس لدينا علاج نهائي للأمراض النفسية والعقلية، لأن مثل هذا النوع من الأمراض يأتي من شيء أكثر ذاتية، شيء أكثر إنسانية. يمكن لبعض الأدوية تنظيم تلك التغيرات التي تحدث في الدماغ عندما يكون لدينا مرض معين، ولكن هذه ليست سوى أعراض سيخفيها الدواء لبعض الوقت، ولكن لن يختف المرض حتى يستطيع الشخص التغلب على مشكلته. وعادة ما تتولد هذه الأمراض عن كل تلك المخاوف التي تُضاف يوماً بعد يوم داخل هذا الصندوق.
وصمة عار
لا يتحدث الناس عن المرض النفسي، حتى إذا كانت أعراض الاكتئاب أو القلق واضحة وضوح الشمس على محياه، ويمكن كذلك لأي منا أن يصاب بمرض من هذا النوع في أي وقت، لكن لا نتحدث جميعاً عنه لأنه قد أصاب داخلنا، وترك ذواتنا الحقيقية مكشوفة أمام الجميع، والتي نحاول إخفائها على الدوام.
هناك العديد من الأمراض الجسدية التي تصيبنا، ولا نعلم أن مصدرها هو المرض النفسي. فإذا ما ابتلينا بأحد أمراض النفس سرعان ما تتأثر أجسادنا بها، وعندما نصل إلى الطبيب، نخرج بتشخيص نفسي. عندها ندرك جيداً أن الخوف والقلق والتوتر والمشاعر السيئة التي تسيطر على نفوسنا هي مصدر الداء. ونحاول علاج هذه الأمور النفسية بأنفسنا بعيداً عن الجميع. لكن عندما تبوء جميع محاولاتنا بالفشل لا نرغب في استشارة طبيب نفسي، لمساعدتنا على الخروج من هذه الدوامة، بل والأغرب من هذا تلك النظرة السيئة لكل من يحاول استشارة طبيب نفسي. هذه النظرة السطحية المزرية لمن يحاول الخضوع للعلاج النفسي، لا تؤدي إلا إلى تفاقم الأوضاع. حيث ينظر البعض إلى الشخص الذي يفعل ذلك وكأنه يعاني من نوبة من الجنون، وهي وصمة عار لا تُمحى.
لا يجب علينا الهروب، بل علينا مواجهة أنفسنا، وإجبارها على الفهم والقيام بكل ما في وسعنا لمساعدة أولئك الذين يحتاجون إلى المساعدة. لأنه إذا كان لدينا ما يكفي من قوة الإرادة للتعافي من المرض النفسي، فإن العلاج سيصبح حقيقة.
شكراً للإفادة
العفو يا صديقي