مقتل عثمان بن عفان: هل كان يستحق هذا المصير المأساوي؟
مقتل عثمان بن عفان كان علامة فارقة في التاريخ الإسلامي، وهي فترة تحول الدولة الإسلامية من نظام سياسي إلى نظام سياسي آخر، ولم يكن قد مر على رحيل النبي غير سنوات قليلة هي فترة خلافة كل من أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب. لكن كيف قتل عثمان؟ ولماذا كان قتله علامة فارقة؟ وكيف ساهم قميص عثمان الملطخ بدمائه في هذه الفتنة؟
المعارضة من جميع الأمصار
بعد أن استعرضنا معظم الوقائع والأحداث التي حدثت في عهد خلافة عثمان في المقال السابق. ونتيجة لهذه الأفعال اشتدت وطأة المعارضة في جميع الولايات الكبرى؛ حتى وصل صيتها إلى المدينة. من هنا جمع عثمان مستشاريه وطلب رأيهم في كيفية التعامل مع هذه المعارضة. وكان من بين مستشاريه معاوية بن أبي سفيان الذي أشار إليه أن يترك أمر المعارضين للولاة في الأمصار المختلفة. أما عبد الله بن أبي سرح فاقترح عليه أن يقوم برشوتهم بالمال بغرض اسكاتهم. وبالنسبة لسعيد بن العاص فقد أشار إليه أن يقتل قادتهم. لكن الرأي الذي أخذ به عثمان كان رأي عبد الله بن عامر الذي أشار فيه إلى عثمان بشغل هؤلاء في الفتوحات والحروب.
أخرج أهل الكوفة واليهم سعيد بن العاص وطلبوا في رسالة إلى عثمان أن يعين بديلاً عنه أبو موسى الأشعري. فلم يكن لأهل الكوفة من سبيل سوى الثورة لتنفيذ مطالبهم. أما في مصر وبعد معاناة مع عبد الله بن أبي سرح؛ خرج وفداً من المصريين قاصداً المدينة؛ ولما علم عثمان بخروجهم أرسل إليهم قبل وصولهم للمدينة وفداً من مستشاريه وفي مقدمتهم علي بن أبي طالب ومحمد بن مسلمة الأنصاري. قابل الوفد المصريين وتم وعدهم بأن عثمان يعلم بما يحدث وإنه على وشك أن ينفذ لهم مطالبهم. ومن هنا رجع المصريون عائدين إلى وطنهم.
لكن فور وصولهم إلى مصر وجدوا عبد الله بن أبي السرح في استقبالهم؛ ولما علم بما فعلوه ضرب أحدهم حتى قتله. لكنهم انتظروا حتى ينفذ الخليفة عثمان مطالبهم. إلا أن الوقت يمر ولا أخبار جديدة تأتي من مركز الخلافة. لذا اعتقدوا أن عثمان لم يفي بوعده. وقرروا أن يعودوا مرة أخرى إلى المدينة. في ذلك الوقت أراد عثمان أن يرسل إليهم علي والأنصاري مرة أخرى إلا أنهما رفضا متعللين بأنهما لن يكذبا مرتين في العام نفسه.
اقرأ أيضًا: الحسين بن علي: قصة مأساة الشهيد بن الشهيد |
عزل والي مصر
لم يكن هناك مفر إذن من عزل عبد الله بن أبي سرح. لذا قام عثمان بعزله لتهدئة الوضع وعين بدلاً منه محمد بن أبي بكر. خرج الوالي الجديد في صحبة جماعة من مستشاريه متجهاً إلى مصر. لكن في الطريق وجدوا أحد المارة بجانبهم وكان يمتطي بعيراً. في البداية شكوا في أمر الرجل. لذا قرروا أن يستوقفوه ويسألوه. ولما تحققوا من أمره أدركوا أنه أحد رسل عثمان جاء برسالة من الخليفة إلى والي مصر ابن أبي السرح. استولى الرجال على الرسالة وكانت مختومة بختم الخليفة؛ وما إن فتحوها حتى كانت المفاجأة إنها رسالة من عثمان يأمر فيها ابن أبي السرح بقتل المعارضين الذي جاءوا إلى المدينة.
أسر الجمع حامل الرسالة أبو الأعور السلمي؛ واصطحبوه معهم إلى مصر. وهناك علم المعارضون بشأن الرسالة؛ فلم ينتظروا واتجهوا من فورهم إلى المدينة بغتة. وانطلقوا ذاهبين إلى عثمان ومعهم أبو الأعور السلمي وقذفوه بين يدي عثمان وقال له أهذا غلامك؟ قال: نعم؛ لكنه ذهب بغير علمي. عادوا ليسألوه: أهذا بعيرك؟ قال: نعم لكن سرقه أحدهم ولم أعلم. فقالوا له: أهذا خاتمك على الرسالة؟ فقال: نعم. ألم تكتب هذه الرسالة؟ قال: لا.. فقالوا له إذا لم تكن أنت فأرسل معنا من كتبها.
اقرأ أيضًا: زياد بن أبيه: أشهر أمير مجهول النسب في التاريخ الإسلامي |
المطالبة بعزل الخليفة عثمان بن عفان
في ذلك الوقت بدأت المعارضة تتحول إلى ثورة للمطالبة بعزل الخليفة؛ وتعيين أحد كبار الصحابة خليفة مكانه. لكن عثمان قابل هذا الطلب بالرفض القاطع. فما كان من الثوار إلا أن يعتصموا أمام بيته في المدينة بعد انضم إليهم جميع المعارضين من الأمصار الأخرى. بينما حاول عثمان في ظل هذا الوضع المتأزم أن يكتب إلى ولاته في الأمصار يطلب منه إرسال جنود للدفاع عنه ضد هؤلاء الثوار. لكن لما علم الثوار بأمر الرسائل حاصروه. مما جعله يخرج من بيته ليعتلي المنبر ويلعن هؤلاء الثوار؛ أدى هذا التصرف إلى ثورة غضب منهم لتصل إلى اشتباكات بالأيادي. ووصلت بعد الضربات إلى عثمان نفسه حتى سقط على الأرض مغشياً عليه. حمل الناس إلى منزله وأقام الثوار حصاراً حول بيته ليمنعوه من الخروج.
اقرأ أيضًا: عقبة بن عامر الجهني: سيرة صحابي أحبه أهل مصر |
سهماً طائشاً
ظل عثمان في بيته حتى تطورت الأمور في لحظة فارقة. تلك اللحظة التي انطلق من البيت سهماً ناحية الثورة فأصاب أحدهم وهو نيار بن عياض الأسلمي. فمات من فوره. هنا ارتفع صياح الثوار على عثمان ومن والاه؛ وطلبوا منه أن يخرج لهم قاتل عياض ليقتصوا منه. لكن عثمان رفض ذلك؛ فما كان إلا أن تسلق نفر من الشباب الثائرين جدران البيت واقتحموا المكان الذي كان فيه عثمان؛ وشرعوا يوسعونه ضرباً وطعناً بالسيوف والحراب. لم يرحم هؤلاء الثوار ضعف ذلك الرجل العجوز وتتالت الضربات التي كادت أن تقتله. وفي تلك اللحظة ارتمت زوجته نائلة عليه لتقيه من بعض هذه الطعنات فكان من نصيبها بتر أناملها بأحد السيوف. لقد كانت أحداث مقتل عثمان بن عفان غاية في البشاعة.
ولم يكتف هؤلاء الثوار بما صنعوه بالخليفة بل استمروا في استكمال جريمتهم الشنعاء. حيث أرادوا أن يجزوا رأسه عن جسده. فما كان من زوجته إلا أن ترتمي فوق هذا الجسد المضرج بالدماء وصاحبه الذي كان قد لفظ أنفاسه الأخيرة لتمنعهم من إتمام هذا العمل الوحشي.
اقرأ أيضًا: قصة الثلاثة الذين خلفوا ساعة العسرة؟ ولماذا تاب الله عليهم؟ |
مقتل عثمان بن عفان والاحتفاظ بقميصه
لكن لسبب ما أرادت زوجته أن تحتفظ بقميص هذا الخليفة المقتول ليكون بعد حين بين يدي معاوية بن أبي سفيان في الشام فيستغله سياسياً في تشديد المطالبة بدم الخليفة المقتول ممن قتلوه. وكان من بين قتلته محمد بن أبي بكر وغيره من الشباب.
والحق إنها كانت مأساة بل كارثة واجهها الأمام علي في بداية توليه أمور المسلمين كرابع الخلفاء الراشدين. ومن الطبيعي أن يكون صاحب المصلحة في هذه المأساة هو معاوية بن أبي سفيان وجماعته من بني أمية. ولذلك سجل كل الذين كتبوا في هذا الموضوع أن معاوية لم يكن يطالب بدم عثمان من أجل القصاص من قتلة عثمان ولا حتى من أجل عثمان نفسه بل من أجل الوصول إلى كرسي الخلافة الإسلامية. بينما كان قميص عثمان بمثابة الورقة الرابحة التي يستغلها معاوية لتحقيق مصالحه السياسية منادياً بدم الخليفة المقتول.
وعلى هذا فمعاوية والذين معه من بني أمية كانوا يهدفون إلى إحداث فتنة بين جموع المسلمين. فتنة استمرت إلى اليوم فمزقت هذه الدولة الإسلامية المتماسكة. وكان هذا القميص بمثابة السبب الذي تم استغلاله للوصول إلى هذا الهدف فاستمر معاوية في المطالبة بدم عثمان حتى تحدث فتنة بين جموع المسلمين فتمزق جموعهم إلى شيع وأحزاب وتكون نتيجتها إحداث فوضى واضطرابات تعوق الخليفة الجديد علي بن أبي طالب عن تأدية عمله. لتؤول الخلافة إلى معاوية في النهاية. ليس هذا فحسب وإنما تتحول هذه الخلافة إلى ملك عضوض يتوارثه الأبناء عن الإباء من الأمويين. وهو ما حدث بالفعل. حيث استمر حكم المسلمين لا يخرج عن بني أمية أكثر من جيلين أو ثلاثة أجيال.
اقرأ أيضًا: خالد بن الوليد ومالك بن نويرة: القصة المثيرة للجدل في حياة سيف الله المسلول |
هل كان عثمان بن عفان يستحق هذا المصير المأساوي؟
لا شك أن تناول شخصية ثالث الخلفاء الراشدين يضع المؤرخ والباحث فيها أمام صعوبات شتى. حيث أن تلك الفترة اقترنت بالفتنة الكبرى وقضت على الخلافة لتنتهي إلى انقسام الدولة الإسلامية إلى شيع ومذاهب وجماعات. لكن كانت لعثمان بن عفان إسهامات كبرى خلال فترة توليه الخلافة. ففي تلك الفترة استطاع رد أطماع الروم وفي عهده فتح قبرص وبلاد الأفغان وأرمينية وآسيا الصغرى. كما ازدادت الدولة تكدساً بالأموال.
نقاط ضعف ليته تجازوها
كل هذا صحيح في المطلق؛ إلا أن هناك نقاط ضعف ليته كان قد تجازوها فهي التي أدت إلى مقتل عثمان بن عفان في نهاية الأمر. بينما نقاط ضعفه كانت إنه أباح مغادرة كبار الصحابة للمدينة. كما لم يستشرهم كما كان يفعل كل من أبي بكر وعمر. هذا بالإضافة إلى إنه أحاط نفسه بنفر من بني أمية على رأسهم الداهية مروان بن الحكم. وما عاد ليستمع لأحد غيرهم، وهم ما برحوا يغرونه بالمبالغة في الشدة على الناس. وكذلك ظهوره في أبهة لم يتعودها الناس قبل الإسلام. حيث كان يقيم فسطاطاً كبيراً يقيم فيه أيام الحج؛ ومنها أيضاً إنه كان يهب إبل الصدقة لوزيره مروان بن الحكم.
إلى غير ذلك من الأمور التي تجعل القوم يشكون إلى الإمام علي الذي يذهب بدوره إلى عثمان ليبلغه ماذا يصنع بنو أمية في الناس بالأمصار، ويطلب على من عثمان عزلهم فلا يوافق. وكلما أحس على بازدياد انتقادات المؤمنين ذكرهم بفضل عثمان فهو اختلف مع البعض في كيفية توزيع الأموال إلا إنه هو عثمان نفسه الذي كان في طليعة المؤمنين. وأحد المهاجرين وأكثر الناس إنفاقاً على جيوش لمسلمين، وأكثرهم تحريراً للعبيد.
لكن مستشاوا السوء حوله هم الذين صنعوا مأساته التي أدت إلى مقتل عثمان بن عفان في النهاية؛ وظهور الفتنة السوداء التي قسمت وفرقت المسلمين بعد ذلك. تلك الفتنة التي استمر معاوية وأعوانه وأقاربه من بني أمية في إشعالها أملاً في الوصول إلى الخلافة. وهو على عهد قريب كان مشركاً حتى فتح مكة، ودخل هو وأبوه رأس الشرك أبو سفيان الإسلام رهبة وليس رغبة. أما اليوم فإن معاوية هو الذي يطالب بدم عثمان بن عفان من علي؛ ويستغل في ذلك قميصه المخضب بالدماء حتى يؤثر على المشاعر المتأججة للوصول إلى أهدافه.
المراجع: