الحياة تتدفق كالنهر الجاري، والزمن يمر ويغير كل شيء، فلا فرح باقٍ ولا حزن مستمر. هذه هي الحياة تحترق كالشمعة لتضيء. لا يوجد في هذه الحياة مَن لم يعان من الحزن والألم في وقت من الأوقات. إنه أمر إنساني أن ننظر إلى ما فقدناه بحزن، فما ذهب ترك جزء منه في الذاكرة، وفي جوهر كياننا، لأننا ما صنعه منا الماضي. إن ما وقع على جانب الطريق يستحق منا الثناء وحتى الرثاء. ولكننا أبناء ذلك السهم الذي لا يمكن إيقافه، وعلينا أن نمضي قدماً. لا أن نبقى أسرى الحزن والحنين. لكن من أين لنا أن نتغلب على الحزن؟
ثقوب حزينة في النفس
عندما يكون الألم كبيراً في بعض الأحيان أو عندما لا نعرف حقاً كيفية التعامل مع الحزن، نميل إلى النزول من القطار، أو نعلق في بعض الانحناءات وسط التيار. أجسادنا تشيخ، وعقولنا تهتم بالحياة اليومية بأفضل ما يمكنها، ولكن يبدو الأمر كما لو أن جزءً منا قد سقط من الحياة، متشابكاً في أعشاب النهر. شيء بداخلنا مفقود، عالق في زمن آخر، أو رفض المضي قدماً في الحياة.
لدينا جميعاً بعض تلك الأجزاء التي لم ترحل مع الموتى، ورغبات لم تنبت، وبقيت عالقة فينا كالبذور، وأحلام لم تجد طريقها في الحياة، جروحاً فتحت ثقوباً حزينة في النفس، لا تزال بداخلنا. نحاول التقدم بها ومواصلة طريقنا، رغم أننا نشعر بالأسى من تلك البقعة من الثقوب التي تركتها الجروح. تلك الفراغات التي تركها ما ضاع منا، وتلك التي نفتحها في انتظار ما لم يصل.
تعلم البعض منا، سواء بوعي أو بلا وعي، أن يتعايش مع تلك الثغرات الموجودة في كياننا. ومع ذلك لم يتمكن البعض من التغلب عليها، وبالنسبة لهؤلاء فإن الثقوب الموجودة في الروح هي التي حددت نغمة الحياة، وأصبحت السمة المميزة لهم. إنهم مثل المسافرين الذين ينتظرون القطار، ولكنهم لا يصعدون، لأنهم لا يستطيعون أو لأنهم لا يريدون.
لا نملك الحق في الحكم عليهم؛ فماذا نعرف عن آلام الآخرين وحبهم، وأفكارهم وخلافاتهم ومشكلاتهم مع الحياة؟ ليس لدينا الحق في أن نشفق عليهم؛ فهل نحن متأكدون من أن حطام سفنهم أسوأ من حطامنا؟ وليس لنا الحق في إنقاذهم؛ فمَن يعرف دوافعهم بالكامل، ومَن يخبرنا أنهم يريدون أن يخلصوا؟ ليس لدينا سوى الحق في أن نرافقهم بحزننا الهادئ، بتضامننا الخفي، بصداقة حنيننا.
التصالح مع الحزن
مشكلة الحزن هي أنه إذا لم يتم حلها والتعبير عنه بمجرد ظهوره، فإنه يتسلل إلى كل ركن من أركان الروح، ليقوم بإغراقنا في مستنقع لا قرار له، ويشل حركتنا، وينتهي بنا الأمر ونحن لا نعرف سبب هذا الحزن والاكتئاب. وأينما التفت المرء فلن يجد سوى انعكاس وجهه المكلوم، وعيناه تتساءل ولا تجد إجابة. الحزن عندما لا يخرج يلتصق بالروح ويمنع عنها الماء والهواء.
ليس من الجيد أن تبقى في حالة حزن، لأن معظم معاناتك ستذهب سدى. ولكن إذا سمحنا لها بالتحدث، وإذا استفدنا منها لننظر إلى أنفسنا في مرآة مختلفة، فقد نخرج منها بموهبة جديدة، بدليل، برؤية. يحدث هذا فقط مع ذلك الإصرار القوي على التغلب على كسلنا وعدم الوقوع في تلك الحفرة مرة أخرى.
بادئ ذي بدء، يجب أن تتصالح مع حدود حياتك. ثم اسأل نفسك ما الذي يمكن أن يكون منطقياً حقاً ضمن هذه الحدود: ليس فقط ما أريده، ولكن ما الذي يمكن وما ينبغي فعله، واستخدام الذكاء وما تعلمته للتحرك في هذا الاتجاه أينما يأخذك. إن الأمر بهذه البساطة، وإلى هذه الدرجة من الصعوبة في الوقت ذاته: تحديد ما هو ممكن، وتعريف ما هو صحيح، واتخاذ القرار لتحقيقه.
الشجاعة في المواجهة
يتطلب الأمر وضوحاً وشجاعة: ما الذي يجب أن أتخلى عنه مهما كانت التكلفة، وما الذي لا يجب أن أتخلى عنه مهما كانت التكلفة. لقد حان الوقت للتخلي عن الرغبة في الحصول على التفاهم والرعاية التي يقدمها الناس لك، فأنت لم تعد طفلاً. حان الوقت لتحزم أمتعتك وتحمل مخاوفك وخيبات أملك، وتتولى مسؤولية نفسك. أنت بحاجة إلى شجاعة الاستسلام والتخلي، إلى شجاعة الصراحة والصدق مع النفس، فهي علامات التميز والصفاء والنضج الحقيقي.
يشعر الشخص الحزين في بعض الأوقات بالتحسن، في يوم صافٍ، أو ساعة من الحرية، وهنا ينسى تلك العواصف، ويعتقد أنه قد نجا منها، ويكون لديه انطباع بأن سحب الألم المظلمة تبددت إلى الأبد، لكن العواصف لا تزال قريبة، لأن هذا الأمر لم يأت من الروح، والأشياء لا تتغير إذا لم يتغير الإنسان من الداخل، لذا ستعود العواصف في أقرب فرصة مجدداً.
لا ينبغي لنا أن ننسى بسرعة كبيرة، مهما كنا متعبين، ومهما كانت الرغبة في الضوء والدفء. إن مواجهة الرغبات تتطلب شجاعة التخلي عنها وقبولها أيضاً. وقبول حقيقة أن ما ضاع قد ضاع هو أمر يتطلب القوة، وكذلك الارتقاء إلى مستوى ما لا يزال ممكناً. إن الدفاع عن الفرح يحتاج إلى صبر، ورفعه حجراً تلو الآخر مهما تفتت. كل هذا يعلمنا إياه الحزن إذا عرفنا كيف ننظر إليه في العيون دون أن نقع فيه.
قبول مشاعر الحزن
يشتمل الحزن على عدد من المراحل المختلفة هي: الغضب والإنكار والحزن والإحباط. تختلف المشاعر التي يجلبها حزن الفقدان عن أي مشاعر أخرى قد شعرت بها من قبل. وهذا كله جزء من عملية الحزن. ستسيطر عليك مشاعر الكآبة، والشعور بالذنب، والبكاء المفاجئ الذي لا يمكن السيطرة عليه، اللامبالاة، التقلبات المزاجية، الخوف من الوحدة، الشعور الهائل بالفراغ، الخوف من المستقبل، الألم المستمر. ثم يقوم جسدك بتجسيد كل تلك المشاعر السلبية التي تؤلم الروح، وقد تشعر بتوتر العضلات، وألم في الصدر، والإحساس بالاختناق، وألم في المعدة أو الحلق، الأرق، ونوبات الهلع، والصداع، وقلة التركيز.
إن الخطوة الأولى للتغلب على هذا الحزن هي ترك مشاعرك تأخذ مجراها الطبيعي. فهي مجرد ردود أفعال على أمر مفاجئ لا تستطع قبوله. لقد دُمر نظامك العاطفي بالكامل، وعليك أن تتعلم الشعور مرة أخرى. ليس عليك التفكير بأنه لا يجب أن تمر بأي من هذه العمليات، ولا تحاول كبت ما تشعر به، ولا تراقب نفسك. ابكي، اصرخ، دع الألم يعبر عن نفسه، فأنت بحاجة إلى هذا لتتمكن من المضي قدماً. ليس هذا هو وقت رعاية الآخرين، إنه وقت الاعتناء بنفسك. سوف تسأل نفسك آلاف المرات لماذا؟ ما الذي كان يمكن أن تفعله لتجنب ذلك؟ سوف تلوم نفسك وتعاقب نفسك حتى تدرك أنه لا يوجد شيء يغير الواقع، وأنه لا يوجد شيء أكثر من الحداد لتخفيف معاناتك مع الحزن. لقد فقدت من تحب، ولك الحق في أن تحزن.
كل هذه المشاعر يجب تجربتها وعيشها، مهما كانت مؤلمة، من أجل شفاء هذا الجرح والاستمرار في الحياة. لذا فإن أهم شيء للتغلب على الحزن هو تقبل المشاعر التي تمر بها. فمن خلال التعايش مع هذه المشاعر يتكيف عقلك مع الواقع الجديد ويبدأ في استيعاب الخسارة، وعندها فقط يأتي قبول الواقع الجديد.
التخلي عن العزلة
لا تحبس نفسك أو تمنع نفسك من التحدث عما حدث مع أحد أفراد أسرتك أو أصدقائك المقربين، خاصة في الأيام أو الأسابيع الأولى. لذا كل ما عليك فعله هو الذهاب إلى عائلتك وأصدقائك وتحدث عما حدث، وتخلص من هذا العبء الذي في داخلك وتحدث عن كل شيء كان على الشخص الذي مات أن يمر به أو يعيشه. لكن العزلة تؤدي إلى عواقب وخيمة فمن خلال العزلة لن تستطيع التصالح مع فقدان أحد أحبائك، ويكون الأمر محبطاً ويجعل الحزن أكثر إيلاماً.
إن استيعاب الخسارة لا يتحقق بين عشية وضحاها، لذلك من الضروري أن يكون لديك أشخاص داعمون من حولك. يوصي علماء النفس بأن كل شخص يشعر بالحزن يجب أن يتواصل اجتماعياً ويسعى إلى تكوين دائرة من الأصدقاء الموثوق بهم. وهذا التواصل الاجتماعي مع الأصدقاء يمكن أن يكون من خلال الخروج في نزهة أو زيارة أحد الأماكن المحببة وغيرها. ولا يعني ذلك نسيان ما حدث، ولكنها مجرد خطوة للمضي قدماً والاستمرار في العيش بأفضل طريقة ممكنة. وهذا الأمر سيجعلك تشعر بالتحسن مع مرور الوقت.
يقول علماء النفس إن مراحل الحزن تستمر قرابة ستة أشهر، بعد فقدان الشخص. أي أن الشخص المصاب، بعد تلك الفترة، يجب أن يبدأ في العيش بطريقة أكثر إيجابية ويبدأ في إعادة بناء حياته والمضي قدماً. ومع ذلك، ليس الجميع متشابهين وليست كل الخسائر لها نفس المعنى. فكل خسارة لها وقتها، ويجب على دائرة الأصدقاء والعائلة احترام ذلك الوقت والطريقة التي تقرر بها كيفية التعامل مع الحداد.
الاعتناء بالنفس ضرورة
أنت فقط من يستطيع مساعدة نفسه للتخفيف من الحزن. إن موت أحد أفراد أسرتك هو جرح مفتوح، وسيترك عليك ندبة دائمة، ولكن عليك أن تستمر في الحياة. عليك أن تعتني بنفسك، لا تتعجل، امنح نفسك كل الوقت الذي تحتاجه. اسمح لنفسك بالحزن ولكن لا تدعه يطغى على حياتك. بعد الأيام القليلة الأولى، حاول أن تأكل مرة أخرى بطريقة منتظمة وصحية، وقم بالسير في الهواء الطلق، ودع الهواء يجعلك تشعر بأنك في الزمان والمكان، وهذا يساعدك على الخروج من حالة اللامبالاة. حاول أن تجعل حياتك منظمة قدر الإمكان، بحيث يكون لديك وقت للراحة ووقت للعمل. إذا كنت شخصاً متديناً، صلِّ. وإذا لم تكن كذلك، فافعل بعض الأنشطة مثل اليوغا، والتأمل، وما إلى ذلك.
إن تناول الطعام بشكل صحيح وممارسة الرياضة والراحة من العوامل التي يجب أن تكون موجودة في روتينك اليومي. بهذه الطريقة، سيبقى جسمك سليماً وقوياً وسيساهم ليس فقط في الحفاظ على صحتك الجسدية في حالة جيدة، ولكن أيضاً في صحتك النفسية والعقلية. بالإضافة إلى ذلك، فإن ممارسة التمرينات الرياضية سيساعدك على التخلص من التوتر والقلق ويمنح الجسم الطاقة التي يحتاجها للتغلب على الخسارة. وعليك أن تعرف أن التمارين الرياضية والنظام الغذائي الجيد يساهمان في تزويد الدماغ بالأكسجين اللازم، وبالتالي خلق أفكار إيجابية وتجنب المعاناة من الاكتئاب والقلق. إنها خطوة أخرى للتغلب على الحزن لا يجب أن تغفلها.
ذكرى اللحظات الجميلة
في البداية سيكون الأمر مؤلماً، وسيكون من الصعب التعامل معه، وفي أحيان أخرى ربما يرغب الشخص في تجنبه. ولكن تذكر اللحظات الجميلة والخاصة التي عشتها مع ذلك الشخص المحبوب الذي لم يعد موجوداً يمكن أن يساعدك في التغلب على الحداد. إنها طريقة لتجنب الأفكار المتعلقة بوفاة ذلك الشخص أو أيامه الأخيرة. كذلك يمكنك أيضاً اختيار الاستمرار في المهام الاجتماعية أو الخاصة التي يحبها الشخص والتي تجعلك تتذكرها بشكل إيجابي.
من أهم خطوات التغلب على الحزن الناجم عن خسارة أحد ما أن تقول وداعاً لذلك الشخص الذي لن يبقى معك جسدياً. فهو تمرين سيساعدك على تحرير نفسك. ومن أكثر الطرق شيوعاً لقول وداعاً هي كتابة خطاب تعبر فيه عن كل ما تشعر به وما يعنيه هذا الشخص لك. يمكن أن يكون باليد أو على الكمبيوتر. ويمكنك إرسالها بالبريد إلى عنوان ذلك الشخص، أو إذا كانت مكتوبة بخط اليد، فيمكنك اختيار نسخها.
ومن الطرق التي تساعد في التغلب على الحزن أن تكرم هذا الشخص الذي وافته المنية. سواء كانت طريق زراعة شجرة أو القيام ببعض الأنشطة الخيرية أو أي شيء كان هذا الشخص يحب القيام به ولم يفعله. هناك الآلاف من الطرق لتكريم شخص عزيز، وما عليك سوى أن تفعل ما يمليه قلبك وما يجعلك تشعر بتحسن.
الحداد والحزن
الحزن ليس مثل الحداد. هناك أشخاص يخلطون بين هذين المصطلحين، لكنهم لا يمثلون نفس الشيء. الحزن يعيش ويختبر كل تلك المشاعر التي تغزو الجسد والعقل بعد فقدان أحد الأحباء. بينما الحداد هو الأشياء التي يتم القيام بها للتعامل مع موت ذلك الشخص. على سبيل المثال، قد يقرر الأب الذي فقد ابنه ارتداء اللون الذي يفضله ابنه كل يوم، والذي سيكون حدادًا. هذه الإجراءات التي يقرر الشخص اتخاذها للتغلب على الخسارة يمكن أن تتغير بمرور الوقت أو تتطور أو تخضع لإعادة التعديل. إنها طريقة للشخص الذي عانى من الخسارة لإعادة التكيف مع الحياة مرة أخرى.
يمر الكثير منا بلحظات من الحزن، ويختلف الشعور به من شخص إلى آخر، فلا يتعامل الجميع مع الحزن بالطريقة نفسها. وربما ينجم الألم عن وفاة أحد الأحباء ففي هذه الحالة يمكن أن يكون الحزن مدمراً ويغير حياة الكثير من الناس. فالتغلب على الخسارة موقف صعب ومرحلة قاسية لمن يمر بها. وربما يقضي العديد من الأشخاص سنوات طويلة يعانون فيها من هذه المشاعر نظراً لعدم درايتهم بكيفية التغلب على الحزن والاكتئاب. إن التغلب على الخسارة يستغرق وقتاً، فهو يتضمن البكاء والحزن والألم النفسي، لكن هذا لا يعني أنه سيستمر إلى الأبد. عليك فقط أن تجد طريقة للتغلب على الحزن وأن تتعلم كيف تعيش معه، لأنه لا يمكن نسيان أو استبدال ما حدث.
المراجع
1. Author: Zulkayda Mamat and Michael C. Anderson, (09/20/2023), Improving mental health by training the suppression of unwanted thoughts, www.science.org, Retrieved: 04/23/2024. |
2. Author: Dominic JC Wilkinson, (04/03/2023), Grief and the inconsolation of philosophy, www.ncbi.nlm.nih.gov, Retrieved: 04/23/2024. |
3. Author: Elisabeth A. Arens, and Ulrich Stangier, (02/19/2020), Sad as a Matter of Evidence: The Desire for Self-Verification Motivates the Pursuit of Sadness in Clinical Depression, www.frontiersin.org, Retrieved: 04/23/2024. |
ما شاء الله الموضوع أعجبني جدا بطريقة طرحه مختصرة وعافيه
شكراً جزيلاً، واتمنى أن أكون دائماً عند حسن ظنك.. أجمل تحياتي إليكِ..