معضلة حمار بوريدان: هل نحن أحرار في قراراتنا؟

في زاوية خفية من عوالم الفكر والفلسفة، يقف حمار بوريدان، رمزًا لمعاناة العقل أمام الخيارات المتساوية. هناك، حيث تمتزج الحيرة باللامبالاة، وبين كومتين من التبن المتطابقتين، يتجلى الصراع الأبدي بين الإرادة الحرة والحتمية. هذا الحمار ليس مجرد كائن عادي، بل مرآة تعكس ضعف الإنسان حينما يجد نفسه عالقًا بين خيارات بلا فروق، فيدور في دوامة الأسئلة: هل نحن أسياد قراراتنا أم أننا محكومون بسلاسل الأسباب؟ لنرحل معًا في رحلة التأمل هذه، حيث تصبح قصة بسيطة نافذة إلى أعمق أركان الروح البشرية.
مفارقة حمار بوريدان
مفارقة حمار بوريدان مشهورة ليس فقط بين محبي الفلسفة، بل تجاوزت حدود هذا المجال. والغريب في الأمر أنه لم تظهر في الأعمال المحفوظة لجان بوريدان أي إشارة إلى حماره الشهير..
المشكلة كما يلي:
إذا وُضع حمار جائع على مسافة متساوية بين كومتين من التبن متطابقتين تمامًا، إلى أي كومة سيتجه؟ وبما أن الحمار يفتقر إلى سبب يفضل به كومة على أخرى، سيبقى عاجزًا عن اتخاذ قرار وسيظل متوقفًا في مكانه حتى يموت جوعًا..
تهدف هذه الحجة إلى تحديد ما إذا كان هناك إرادة حرة أم لا. لقد كانت حرية الإنسان موضع تساؤل وتشكيك منذ عصر الرواقيين تقريبًا. حيث تقول النظريات الحتمية إن جميع أفعال الإنسان محددة بأسباب تعالج بواسطة الأفراد بطريقة تتفق مع “برنامجهم” العقلي. وبالتالي، الإنسان ليس أصلًا في سلسلة الأسباب، بل مجرد حلقة أخرى، مثل جهاز يضيء ضوءًا أخضر أو أحمر بناءً على شدة التيار.
المثال الذي نناقشه اليوم يوضح أنه إذا كانت جميع أفعالنا محددة بأسباب، فإن الحمار، لعدم وجود سبب يدفعه لاختيار كومة معينة من التبن، لن يتمكن من اتخاذ قرار. إذا بدا الحل لهذه المشكلة سخيفًا، فذلك لأننا نعلم أن الإرادة الحرة موجودة بالفعل. بمعنى آخر، الإنسان ليس مجرد حلقة في سلسلة الأسباب، بل يمكنه اتخاذ قرارات تتجاوز الأسباب الحتمية.
حمار بوريدان بين الصدفة أو القدر
يبدو مثال الحمار غريبًا، ولكن إذا فكرنا جيدًا، سنجد أننا في أكثر من مناسبة واجهنا مواقف كان من المستحيل فيها، بعد تقييم كل الإيجابيات والسلبيات، العثور على سبب يدفعنا للتصرف بطريقة دون الأخرى. على سبيل المثال، عند الذهاب إلى السوبر ماركت لشراء الزيت، ستجد أنواعًا مختلفة بأسعار مختلفة. ولأنك لا تملك أي معلومات حول أيها أفضل جودة، فما القرار الذي ستتخذه؟ إذا لم تكن تعرف أيًا منها، فإن اتخاذ قرار بشكل عقلاني يصبح مستحيلًا. في مثل هذه الحالة، ستمضي بضع ثوانٍ محاولًا تحديد الزيت الذي ستشتريه.. وعندما يصبح اتخاذ قرار عقلاني بناءً على البيانات المتوفرة مستحيلًا، ستلجأ دائمًا إلى نفس النظام: الصدفة. الطريقة العقلانية للاختيار بين منتجين عشوائيين هي اختيار أحدهما أو الآخر بسبب شيء غير ذي صلة ولكنه يحل التعارض: رمز الباركود، أو تصميم المنتج..
أعتقد أن هذا النظام لاتخاذ القرارات التي لا يمكن حلها بطريقة عقلانية هو نظام نعمل به جميعًا، حتى الحيوانات، بطريقة أكثر أو أقل وعيًا. في العديد من المواقف، نقرر دخول مقهى، أو الانعطاف إلى شارع معين، أو تحميل فيلم دون آخر بناءً على عوامل غير ذات صلة، والتي ليست في الواقع سوى عناصر اعترفنا بها عشوائيًا كعوامل ذات صلة دون أن تكون كذلك. وبدون هذه القدرة على اتخاذ قرارات لا يمكن حلها عقلانيًا من خلال الصدفة، لكنا وجدنا أنفسنا مشلولين في كثير من الأحيان في حياتنا، تمامًا مثل حمار بوريدان.
نحن مجبرون على اتخاذ قرارات في أمور مختلفة، بعضها أكثر أهمية من البعض الآخر، وغالبًا ما يؤدي التردد أو الكسل أو عدم معرفة كيفية مواجهة مسؤولياتنا إلى التقاعس عن العمل. وإذا كان الأمر تافهًا، فلن تكون لسلبيتنا عواقب كبيرة، بل قد تؤدي في بعض الأحيان إلى عواقب وخيمة، كما يتضح من مفارقة حمار بريدان.
من أين جاءت هذه الحكاية؟
دافع جان بوريدان عن الإرادة الحرة والحاجة إلى فحص كل قرار من خلال العقل. سخر المفكرون في عصره من موقفه وافتراضاته، من خلال قصة هذه القصة الرمزية. استحضروا حالة حمار غير قادر على اتخاذ قراره عندما يواجه كومتين من القش.. وينتهي به الأمر بالموت جوعًا. لقد كانت مفارقة، لأنه لا يأكل لأنه لا يعرف، أو لا يستطيع، أو لا يريد أن يختار الكومة الأكثر ملاءمة له.
وُلدت هذه المفارقة في العصور الوسطى للسخرية من إثبات جان بوريدان العقلاني لوجود الله، ومحاولة انتقاد العقل باعتباره المصدر الوحيد للمعرفة.
يأخذ بعض المفكرين حكاية الحمار لتبرير الإيمان أو الحدس كمعايير لاتخاذ القرار. حيث تقول إحدى هذه الحجج أن بإمكان الحمار ببساطة إلقاء عملة في الهواء واتخاذ قراره بناءً على نتيجة “وجه أو كتابة”، مما يحسم التعادل. كما تشير حجة أخرى إلى أن الامتناع عن اتخاذ قرار أو تأجيله هو في حد ذاته قرار، وفي بعض الأحيان قد يكون أسوأ الخيارات. وبالتالي، ما هو عقلاني في هذه الحالة ليس الانتظار بلا نهاية حتى تصبح إحدى الخيارات أفضل من الأخرى، بل إن خيار الصدفة سيكون هو التصرف العقلاني في مثل هذا الموقف المتطرف من التماثل في الخيارات.
يلعب الحدس أو الشعور الداخلي دور “العملة الملقاه في الهواء” من الناحية النفسية.. هذا ما يسمح لنا بالمضي قدمًا دون الوقوع في فخ الشلل الناتج عن الإفراط في التحليل.
حالة من الهوس
تدخلنا القرارات الصعبة أحياناً في حالة من الحيرة. ويحدث هذا عندما لا نستطيع، عند الموازنة بين مزاياه وعيوبه، التمييز بين عدة خيارات، أيها الأفضل. عندما لا نملك عناصر الاختيار العقلاني، فإننا نميل إلى تأخير القرار، أو الامتناع عن اتخاذ القرار، تاركين النتيجة النهائية في أيدي الصدفة. ولكن ماذا يحدث عندما يصبح التردد هو المحور الرئيسي لسلوك المرء؟
عندما يصبح التردد سمة شخصية ويصبح مزمنًا، يمكن أن نجد أنفسنا أمام حالة من الهوس.. ونفقد القدرة على اتخاذ القرارات بهدوء.. يمكن أن ترجع أصول التردد إلى انعدام الثقة بالنفس؛ أو صعوبة تحمل المسؤوليات، أو الخوف من ارتكاب الأخطاء. وعندما يصبح سلوكًا مستمرًا، يصبح مشكلة حقيقية يمكن أن تؤدي إلى الفشل.
متلازمة هاملت
تعرف هذه السمة الشخصية التي تسبب الشك والتحليل الذي لا نهاية له والتردد المستمر بمتلازمة هاملت.. وذلك بسبب مسرحية شكسبير الشهيرة التي يتم استحضارها عادةً بمقولة “أكون أو لا أكون”.. هذه الشخصية الممزقة بين العمل والتقاعس، بين الخير والشر، بين ما هو الأفضل بالنسبة له وما لن يكون قادرًا على فعله أبدًا..
يمثل هاملت هذا النوع من البشر الذي أصيبت فضيلته العفوية بالشلل بسبب النشاط المفرط للفكر. يحدث هذا الشلل عندما لا تنتهي أبدًا من تحليل إيجابيات وسلبيات موقف ما.. عندما تفكر في شيء واحد وعكسه، وتدخل في حالة من الجمود العقلي، وهو شلل يمنعك من التصرف. وهذا بالضبط ما حدث للحمار الفقير في المفارقة وأدى إلى موته جوعًا.
دعونا لا نكون مثل حمار بوريدان.. علينا ألا نسقط في فخ التحليلات التي لا نهاية لها للإيجابيات والسلبيات، والتي تمنعنا من اتخاذ القرار والقيام بالعمل. صحيح أن الذي يشك لديه الفرصة للتفكير في جميع جوانب المشكلة، وبالتالي، لديه عناصر تحليل أكثر من الذي يتصرف بشكل عفوي.. ولكن إذا استمر هذا الأمر لن يكن عديم الفائدة فحسب، بل ضار. يمكن أن ترتكب الأخطاء، وجميعنا يفعل ذلك، لكن تذكر أنه على الرغم من أنك لن تكون دائمًا على حق في قراراتك، إلا أنك ستتعلم دائمًا ولن تظل عالقًا في التقاعس والتردد، تاركًا حياتك في أيدي الصدفة أو القدر.
يذكرنا حمار بوريدان بأن الحياة ليست دائمًا معادلة تحل بالعقل وحده، بل هي مزيج من الحواس، والحدس، والاختيار الحر. إذا كان الحمار قد مات جوعًا أمام كومتين من التبن، فإننا نحن البشر نملك القدرة على كسر تلك الحلقة المفرغة.. ربما بقرار عشوائي، أو بإيمان يحدونا نحو الأمام. وفي نهاية المطاف، قد تكون حكاية هذا الحمار البسيط دعوة لكل منا ليتأمل في قراراته، وليرى في الحيرة فرصة لا عائقًا، وفي الاختيار حياة لا موتًا.