أسلوب حياةفلسفة

الملل: تأملات عن رفيق اللحظات المنسية

الملل هو ذلك الزائر الصامت الذي ينساب إلى زوايا الروح دون استئذان.. يلتف حولنا كضباب كثيف يخفي عنا ألوان الحياة. يبدو كأنه فراغ عميق يتسرب بين اللحظات، لكن في جوهره قد يكون دعوة غير معلنة للتأمل والبحث عن معنى جديد. إنه أشبه بلوحة فارغة، تنتظر أن نملأها بألوان من صنع خيالنا، أو نتركها كما هي، مجرد انعكاس لرتابة لا نستطيع كسرها..

أبواب غير متوقعة

الملل هو فجوة في الحبكة اليومية، يجد من خلالها الجديد فرصته: فكرة جديدة، إلهام، ذكرى منسية كان لديها ما تخبرنا به.. يجب أن تكون لدينا القدرة على الملل، ونعرف كيف نشعر بالملل، لأن من يعرف كيف يمل يكتشف أنه في الحقيقة لم يكن يشعر بالملل، بل كان ينفتح على العالم، ويستريح من الإرادة المفرطة للنشاط، ويترك الحياة تأخذه بيده. الملل فرصة للإبداع، لتحقيق الأحلام المستحيلة التي قد تقودنا إلى أحلام أخرى ممكنة، فرصة للحدس الذي ربما يفتح لنا أبوابًا لما هو غير متوقع.

لا يتحمل الأطفال الملل، لأننا لم نعلمهم مواهب الصمت، والصبر، والإبداع.. ننقل إليهم حاجتنا المفرطة للنشاط، ونحرص على ملء وقتهم بالأنشطة المنظمة، والمهام، والتسلية. تدور الفكرة حول أنه يتعين علينا دائمًا أن نفعل شيئًا ما، إن لم يكن مفيدًا، فعلى الأقل يسلينا (أي يحقق غرض الاستمتاع)، وعلاوة على ذلك يجب أن تكون الفائدة والمتعة فورية..

ومع ذلك، فإن الرسالة الكامنة وراء هذا السلوك سخيفة وغير منطقية: الحياة ليست ممتعة دائمًا. تنطوي الحياة على لحظات من الأداء البغيض التي يجب أن نعبرها لتحقيق الرضا الصعب، وهي الأهداف التي يجب أن نحققها بالعمل الطويل، والصبر والمثابرة. ويجب أن تُكتسب السعادة في بعض الأحيان، من خلال الجهد أو التأمل، أو عبر التبادل الصبور مع الآخرين. إن الصبر والمثابرة هما فضيلتان قديمتان، نبيلتان، مليئتان بالحكمة، لكن ضحى بهما مجتمعنا بحركته المتسرعة ومنهجيته الإنتاجية. لا ينبغي أن نسمح لأطفالنا بأن يكبروا دون تنمية هذه الفضائل، وللقيام بذلك علينا مساعدتهم، لأن العالم يميل إلى تقليلها. عندما يشكو طفل “أنا أشعر بالملل!” يستحق الأمر أن نرد عليه: “مبروك! استغل الفرصة، الملل هو فرصة”..

في انتظار التتار

أعمال أدبية عن الملل
رواية في انتظار التتار

يتجول رجلان في أرض قاحلة، وينتظران شخصًا لا يعرفانه جيدًا ولن يصل أبدًا، وفي الوقت نفسه يتحدثان بلا اهتمام عن أي تفصيل صغير.. يشعران بالملل، ويتشاجران، ويتذمران؛ ويتساءلان عن إمكانية الانتحار. عند التأمل في هذه القصة يتولد لدى المرء انطباع بأنه رجلًا واحدًا ينظر في مرآته ويواجه وحدته بين الأمل واليأس.. من الواضح أنني أتحدث عن “في انتظار جودو” مسرحية صامويل بيكيت العبثية الكلاسيكية..

يُرسل جندي شاب إلى حصن قديم على أطراف صحراء نائية. بُني الحصن لصد هجوم محتمل من جحافل من الأعداء المجهولين وغير مرئيين، وهم التتار. يحلم الشاب بخوض معركة تمنحه الشرف وتساعده على الترقي في الرتب العسكرية. لكن في ذلك الركن البعيد من العالم، لا يوجد سوى نفوس هزمها الملل والروتين الآلي لحياة الحامية. يمر الوقت، ولا يهاجم التتار أبدًا، وينظر البطل إلى حياته بغضب وعجز، وهو يرى كيف تتحول حياته إلى أرض جرداء مهجورة وقاحلة، مثل تلك التي تمر فيها أيامه هباءً. من المؤكد أنني أتحدث عن “صحراء التتار” الرواية المروعة لدينو بوتزاتي..

لا يمكننا القول إن أيًا من هذين العملين يمنحنا الراحة أو يلهمنا الرغبة في الحياة. ربما يوصي دعاة التفكير الإيجابي برميهما في أقرب سلة للمهملات.. لماذا نقرأ شيئًا لا يساعدنا، بل ولا يقدم حتى طريقًا مقترحًا؟ إن عقل المرء في عصر الاستهلاك المفرط الذي نعيشه لا يجد مكانًا له في مشاهد مزعجة لا تُختتم بخاتمة مفيدة.

فخ الرتابة

هل الملل مرض نفسي
رتابة الحياة اليومية

نحن نريد إجابات، أو بالأحرى نريد تعليمات تساعدنا في شيء عملي، خصوصًا للبقاء في العمل بكفاءة داخل الآلة العملاقة للإنتاج والاستهلاك.. تعلمنا قراءة هذه الأعمال درسًا يمكننا تطبيقه في حياتنا؛ أو على الأقل تسلينا. ولكن، من سيتحلى بالصبر اليوم ليشاهد رجلين يضيعان الوقت مستلقيين في أرض قاحلة، يتحدثان عشوائيًا بما يخطر في أذهانهما؟ ومن سيقرأ أكثر من مائتي صفحة تتناول المغفل الذي ينتهي به الأمر إلى الاستياء لأنه محاصر وغير قادر على التمرد؟

ومع ذلك، أعتقد أن علينا جميعًا أن نقرأ هذين العملين من حين لآخر، ولكن بشرط أن لا نكون في مرحلة من الاكتئاب أو الإحباط المرير. لأن أيًا منهما لا يقدم لنا أي دعم؛ لن نجد فيهما ظل عزاء أو لمحة من المواساة. هذان العملان مثل مرآتين قاحلتين تعكسان عبثية حياتنا وفراغها الجوهري، وتتركاننا وحدنا هناك، لنرى كيف سنتدبر أمرنا..

لا توجد إجابات في هذه الأعمال، بل مجرد تساؤلات تتردد كصدى بين صخور مقفرة، ولكن الحقيقة أن في نفوسنا أيضًا مساحات واسعة من الأراضي القاحلة، ومعرفة الذات تعني التحديق في تلك المساحات بدلاً من تجنبها بحلول مبسطة..

نحن جميعًا نتيه في سهوب مهجورة، ننتظر شيئًا ما دون أن نعرف بالضبط ما هو، محملين بآمال ساذجة ويأس مؤلم. نبدأ الحياة بروح بطولية، متعطشين للمعارك والمجد، ثم نشيخ لنكتشف مدى ضآلة قدرتنا على الانتصار، عالقين في فخ الرتابة والآفاق المحدودة والعشوائية.. باختصار، نحن جميعًا ننتظر أن ينقذنا جودو، أو قبائل تتار نختبر أنفسنا ضدهم، ومن المحبط أن لا أحد يأتي..

هل نستطيع أن نشعر بالملل معًا؟

حكم عن الملل
الشعور بالملل معًا

إن أفضل طريقة لتثقيف الآخرين حول الملل، وتثقيف أنفسنا معهم، هي مرافقتهم فيه.. هل نستطيع أن نشعر بالملل معًا؟ يحدث المثل في الحب أيضًا. كيف لا نشعر بالملل تجاه من نحبهم في بعض الأحيان، إذا كنا نشعر بالملل من أنفسنا ذاتها؟ هل تجد نفسك دائمًا مسليًا، أو مضحكًا، أو ممتعًا؟ الجميع لا يطاق أحيانًا، نحن والآخرون يمكن أن نكون مملين في مرحلة ما، بغض النظر عن الجهد الذي نبذله لنكون عكس ذلك. لذا من الأفضل أن تأخذ الأمور بهدوء وبساطة. لكن أخذ الأمور بهدوء هو شيء نادر في مجتمعنا، الذي يعتمد على السرعة والنتيجة، وبالتالي يميل إلى ملء كل شيء بالأشياء والنشاطات، والأسوأ من ذلك، تعليمنا تقدير كل شيء – بما في ذلك الأشخاص – بما يقدمونه لنا، بما يرضينا، بما يسليّنا..

ربما يكون ذلك أحد الأسباب التي تجعلنا نجد صعوبة في الحفاظ على التعايش. يجب أن يكون الآخر دائمًا مصدرًا للمفاجأة، للحماس، للتسلية. يجب أن يكون دائمًا إيجابيًا، بنّاءً، مبتكرًا، نشيطًا ومحفزًا مثل الحبوب التي تُباع في الصيدليات. وإذا ظهر أحيانًا متعبًا، مكتئبًا، مرتبكًا، مترددًا، سيء المزاج أو ببساطة لا يطاق، يمكن وصفه على الفور بأنه شخص “سام”..

الشخصيات السامة

أصبح من الشائع الآن الحديث عن الشخصيات السامة؛ يصر بعض أنبياء التنمية البشرية على أن كل ما ليس إيجابيًا فهو سام، مما يجعل العالم مليئًا بالكائنات السامة – وهي دائمًا الآخرين – التي يجب أن نهرب منها كما نهرب من الطاعون، حتى لا تنتقل لنا عدوى سلبيتهم. هذا يجعل الآخر مصدر تهديد دائم، لكنه ليس كذلك فحسب، بل هو أيضًا مصدر فرص، إذا كنا قادرين على رؤيتها وتحفيزها، إذا كان لدينا ما يكفي من الصبر لانتظارها، وتحمل الأوقات التي لا يستطيع فيها زميلنا المسكين، الضائع والهش مثلنا، تقديمها لنا..

لكننا لا نمتلك هذا الصبر عادةً. يجب رمي الشخص السام في سلة المهملات، كما نفعل مع الطعام المنتهي صلاحيته أو الجهاز المعطوب. لذلك نعطي الناس فرصًا قليلة جدًا ليقدموا لنا ما الخير الذي لديهم بلا شك.. نلوم شريك حياتنا لأنه يشعر بالملل معنا، أو نلومه لعدم الاستمتاع بما فيه الكفاية. ونظرًا لعدم قدرتنا على الشعور بالملل معًا، نبحث عن ترفيه جديد في الخارج؛ ونجده بسهولة، لأننا جميعًا مسلون في البداية، ما دامت هناك أسئلة يمكن طرحها، وأشياء جديدة يمكن اكتشافها.. ما دمنا لم نضطر لمشاركة الحزن أو الملل..

نرغب في أن تكون حياتنا محفزة باستمرار، لكن المحفزات تُبلى إذا لم نمنحها فترة راحة، إذا لم يسمح لها بإعادة الشحن من حين لآخر مثل البطاريات. ترغب ثقافتنا المهووسة في الحصول على كل شيء.. في تجربة كل شيء.. في استغلال كل شيء إلى أقصى حد. وماذا عن الاعتدال والتخلي.. ماذا عن الرعاية الصبورة والدقيقة التي منحها الأمير الصغير لزهرته؟ يقول الثعلب للأمير الصغير:

ما يعطي قيمة لزهرتك هو الوقت الذي قضيته في رعايتها…

من منا لا يزال لديه الوقت للعناية بوردة؟ ما مدى استعدادنا للاهتمام بالآخرين، لسقيتهم، لرعايتهم، لانتظارهم دون ضمان أو مقابل؟

اعترافات هادئة

الدردشة على الانترنت
غرف الدردشة على الانترنت

مررت بفترة كنت أتردد فيها على صفحات التعارف عبر الإنترنت. كان ذلك في ساعات الليل المتأخرة، أو بعد ظهر أيام الإجازة المملة.. كنت أدخل إلى غرف الدردشة وأفتح محادثة تلو الأخرى، أحيانًا أترك تحية بسيطة، وفي أحيان أخرى أقول بعض الهراء الذي يبدو مضحكًا (بالتأكيد كان الآخرون يفعلون نفس الشيء). وهكذا، تظهر أمامي مجموعة من النوافذ مع محادثات متزامنة؛ كان بعضها مسلي، وملهم، ومثير للفكر؛ والبعض الآخر كان يذبل بسرعة في صمت بائس أو تقليدي، فأغلقها أو يغلقها الآخرون في وجهي.

لم أتوقف عن الدهشة والذهول من فكرة كيف يمكنني الانتقال من محادثة إلكترونية إلى أخرى، مثل الانتقال من جاذبية إلى أخرى بسرعة البرق، على أمل أن تكون المحادثة التالية أكثر إثارة من السابقة، انتظر دائمًا مفاجأة جديدة.. لكن بعد فترة إذا لم تذهب المحادثات إلى تخيلات غريبة أو سخيفة كانت تذهب إلى اعترافات هادئة أو تبادل آراء سرعان ما تنتهي بالملل.. في ذلك الوقت كنت أدخل في محادثة جديدة أخرى أو أغلق الكمبيوتر وأذهب للنوم مع شعور بالسطحية، والفراغ، وإضاعة الوقت..

لم أغادر راضيًا إلا في مناسبات قليلة ألمحت فيها خلف تلك السطور الخالية من التعبير حضورً حيًا حقيقيًا يبحث عن فرصته كما كنت أفعل. قادني ذلك إلى بعض اللقاءات التي كانت، للأسف، مخيبة للآمال، ليس فقط لأن الاهتمام بالعلاقة لم ينشأ، بل لأن الحضور جسّد نفس العقلية المتسرعة والجشعة: أريد كل شيء، والآن، أو أذهب وسوف أجرب شيئًا آخر..

هل تشعر بالملل؟

كان هناك شيء مزعج للغاية وغير إنساني في تلك الحوارات واللقاءات. وصفها لي أحد أصدقائي بصورة دقيقة للغاية قائلًا: “يبدو الأمر كما لأو أنهم يقدمون لك قائمة لا نهاية لها من الأطباق، وكل ما عليك أن تتذوق القليل فقط من جميعها”.. كانت تلك هي انطباعاتي: تذوق كل شيء دون تناول أي شيء.. قم بزيارة العديد من الأماكن دون البقاء في أي منها.. بدا كل شيء مبهرًا، لكنه سطحي وسريع الوتيرة مثل الإعلانات التجارية؛ كان من المستحيل الوصول إلى العمق الهش واللطيف للإنسانية. وإذا حاول أحدهم الالتزام قليلاً أكثر، إذا نزع القناع للحظة، نادرًا ما كان يخرج دون أن يتأذى. رغم أنني أعترف أن ذلك لم يكن بسبب السطحية أو عدم الصبر فقط..

لا أهدف هنا إلى الدفاع عن فكرة أن عليك تحمل الآخرين من باب التحمل فقط. يعرف كل شخص توقعاته وحدوده، وسأحجم عن الحكم عليهم، لكن كل ما أحاول فعله هنا هو تقديم دفاع خجول عن الصبر والتسامح؛ عن الواقعية التي تعلمنا أن الناس يكونوا في بعض الأحيان مزعجين ومملين؛ عن تحمل الملل وتحويله إلى فرصة، إلى راحة، إلى صمت، إلى انتظار، إلى صبر، إلى حنان… كل هذه الأشياء التي تزعج مجتمعنا ولكنها ضرورية جدًا لإنسانيتنا. هل تستمتع؟ تهانينا استمتع! هل مللت؟ تهانينا استمتع!

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!