الوعي واللاوعي والعقل الباطن: ألغاز العقل البشري
كان العقل البشري ولا يزال أعظم الألغاز التي يحاول العلم فك شفراتها. ولما لا؟ فنحن نفكر فيما بين 60 إلى 80 ألف فكرة يومياً، ويعالج العقل حوالي 11 مليون بت في الثانية الواحدة، 99.9% منها تحدث دون وعي. وهذا يعني أن 0.1% فقط من الأفكار التي تسيطر علينا هي أفكار واعية. يعتقد المحلل النفسي سيغموند فرويد أن الشخصية والسلوك ينبعان من تفاعل فريد ومستمر للقوى النفسية الثلاثة “الأنا، والهو، والأنا العليا”. وتعد نظرية التحليل النفسي لفرويد واحدة من أكثر النظريات إثارة للاهتمام، ولكن ما هو الوعي واللاوعي؟ وما هو الدور الذي يلعبه العقل الباطن؟ دعونا نخوض معاً رحلة نكشف من خلالها اللغز الأكثر غموضاً في العلوم.
ما هو الوعي؟
الوعي في علم النفس هو الجزء من العقل الذي يشير إلى مجموعة من التجارب والخبرات التي يدركها الإنسان. بمعنى أنه مستوى العقل المسؤول عن إدراك الواقع وتحليله، مما يؤدي بالشخص إلى اتخاذ قرارات بناءً على معارفه وخبراته السابقة. وتتمثل مهمة العقل الواعي في تزويد الإنسان بالقدرة على إدراك الواقع وكل ما يحدث في حياته ومحيطه، بما في ذلك عواطفه ومشاعره. كما يسمح للإنسان بتطوير ذكائه واكتساب معارف جديدة. وهو مسؤول عن كل ما يتعلق بالعقلانية، مثل التحليل والمقارنة واتخاذ القرارات أو تنفيذ الأنشطة اليومية.
تخيل أن هناك شخصاً يبحث عن منزل جديد، ويجد أمامه عدة خيارات، فماذا سيفعل؟ إنه يركز على المقارنة بين المنازل المعروضة، ويحلل المعلومات التي حصل عليها، ثم يبدأ في اتخاذ قرار الشراء. إنه يُظهر سلوكاً واعياً يدرك من خلاله واقعه ويحلله. لنفترض أن شاباً يبلغ من العمر 16 عاماً يلتقي بأصدقائه في حفل في منتصف الليل، وفي ذلك الوقت يعرض عليه بعض زملائه الأكبر سناً المخدرات. يعرف الشاب جيداً آثار وعواقب تعاطي المخدرات، لذلك يُظهر سلوكاً واعياً من خلال الرفض والبحث عن وسيلة للابتعاد عن هذا الموقف بسرعة. هذا هو ما يعنيه الوعي ببساطة.
ما هو اللاوعي؟
يشير اللاوعي إلى العمليات العقلية التي تحدث بدون وعي، أو قصد، أو إرادة. وهو نظام يتكون من محتويات واعية مكبوتة أو بغيضة مثل التجارب أو المشاعر أو الرغبات المكبوتة. إن الحديث عن حالة اللاوعي ليس شيئاً بسيطاً، لأنه مفهوم معقد يشير إلى ما يحدث على المستوى العقلي، لكنه لا يُلاحظ تماماً من قبل الشخص نفسه، ولا يمكن إدراكه بسهولة. وهو المفهوم الذي درسه سيغموند فرويد ولا يزال يُستخدم في مختلف فروع علم النفس.
يتعامل الوعي مع حفظ وتسجيل كل التفاصيل حول كل حالة يمر بها الإنسان يومياً. حيث يتم تسجيل جميع المشاعر والأفكار والأحاسيس التي كانت لدى الإنسان طوال حياته في العقل اللاواعي. وتعمل المعلومات المسجلة كأساس للعقل لمعرفة كيف يجب أن يتفاعل مع أحداث معينة.
تخيل أن هناك شخصاً لديه خوف شديد تجاه الخيول، وبمجرد رؤيتها يصيبه الذعر، ولكنه لا يعرف السبب وراء رد فعله ذلك. ربما يعود السبب إلى أنه خلال طفولته شعر بأنه مضطر لركوب حصان، ولم يرغب في ذلك، حتى صرخ أحدهم في وجهه ووصفه بالجبان. لكن قبل المضي قدماً في الحديث عن الوعي واللاوعي دعونا نعود إلى البدايات لنفهم القصة كاملة.
الغرائز البشرية
ساعدت أبحاث المحلل النفسي سيغموند فرويد على كشف العديد من جوانب نفس الإنسان، وخاصةً الوعي واللاوعي، ووضع في أواخر القرن الماضي نظريته في التحليل النفسي. اعتقد فرويد أن هناك صراعاً مستمراً بين الإنسان وبيئته، وبين دوافعه واحتياجاته من جهة، والمطالب التي يفرضها المجتمع من جهة أخرى. وهو الصراع بين الوعي واللاوعي. وكشف الستار عن دور الغرائز في تشكيل نفسية الإنسان، لكن ما هو المقصود بالغرائز؟
يوضح لنا فرويد أن جميع أعمالنا لا يوجهها العقل دائماً، فالإنسان ليس في الحقيقة هو ذلك الكائن العقلاني الذي يفعل كل شيء بتفكير وتأن، ففي أحيان كثير هناك دوافع غير عقلانية هي التي تحدد ما نفكر فيه وما نحلم به وما نفعله. هذه الدوافع غير العقلانية يمكن أن تكون تعبيراً عن غرائز أو حاجات أساسية. هذه الحاجات الأساسية يتم إخفاؤها أو حجبها خلف أقنعة شتى، وبالتالي فهي توجه أفعالنا على غير وعي منا.
تتبع فرويد تاريخ عدد كبير من الاضطرابات النفسية وتوصل إلى أنها تعود في المقام الأول إلى صراعات نشأت في مرحلة الطفولة بين الوعي واللاوعي. وأدرك أن المحلل النفسي يُشبه عالم الآثار الذي يبحث عن الآثار المدفونة منذ زمن بعيد في أعماق الثرى. وربما يجد عالم الآثار خلال تنقيبه سكيناً من القرن الثامن عشر، ثم يحفر أعمق فيجد سيفاً من القرن الرابع عشر، وربما إذا حفر أعمق يجد إناء من حضارة قديمة قبل الميلاد. هذا ما يفعله المحلل النفسي بالضبط، حيث يساعد مريضه في التنقيب داخل أعماق نفسه ليعثر على التجارب والأحداث التي سببت المرض النفسي له، فالنفس البشرية تختزن في أعماقها ذكريات لجميع ما مرت به من تجارب في الحياة.
يمكن للمحلل النفسي من خلال هذه الطريقة اكتشاف تجربة مؤلمة حاول المريض نسيانها على مدى سنوات طويلة، إلا أنها بقيت مدفونة في أعماق نفسه، فبدأت تُضعف قدراته وتبدد طاقاته. لذا يسعى الطبيب إلى إخراج هذه التجربة إلى حيز الوعي ووضعها أمام عيني المريض حتة يستطيع أن يتحرر منها ويتماثل للشفاء.
الأنا والهو والأنا العليا
يأتي الطفل إلى العالم دون حاجة إلى إخفاء حاجاته ورغباته، فهو يعبر عنها بطريقة مباشرة وبلا أي حرج. إذا لم يحصل على اللبن يبكي ويصرخ، وكذلك يفعل إذا ابتلت ملابسه. كما يعبر عن احتياجه للعطف والدفء الإنساني بصورة صريحة، وما يوجه جميع تصرفات الطفل الوليد هو مبدأ وحيد: اللذة، وهذا المبدأ هو الذي يشكل أول جانب من نفس الإنسان، وهو ما يسميه فرويد “الهو”.
يظل هذا المبدأ معنا طوال حياتنا، ولكننا نتعلم تدريجياً كيف نتحكم في رغباتنا واحتياجاتنا بما يتناسب مع البيئة المحيطة بنا. فعندما نكبر لا يمكننا مثلاً أن نبكي أو نصرخ عندما نحتاج إلى الطعام، وإذا أردنا شيئاً ما بشدة، ولكن العالم المحيط بنا يرفض تلبيتها لنا، في هذه الحالة نضطر إلى قمعها أو كبتها. بمعنى أننا نحاول إبعادها أو نسيانها. ولذلك نبدأ في تطويع هذا المبدأ وضبطه، والمسؤول عن ذلك الأمر هو الجانب الثاني من نفس الإنسان، وهو ما يسميه فرويد “الأنا”.
لا يتبق سوى جانب ثالث من نفس الإنسان وهو ما يسميه فرويد “الأنا العليا”. فنحن نواجه في منذ الطفولة الروادع الأخلاقية التي يضعها لنا أباءنا ومجتمعنا. فإذا فعلنا شيئاً خاطئاً سرعان ما يردعنا الأهل “هذا خاطئ” و “هذا شيء سيء”. و “ليس عليك أن تفعل ذلك”. وبهذه الطريقة نتقدم في العمر ونحن نحتفظ بداخلنا هذه الروادع الأخلاقية التي تمتعنا من التعبير عن رغباتنا واحتياجاتنا.
الضمير الإنساني
ويعتبر الضمير جزءً من الأنا العليا التي تخبرنا متى تكون رغباتنا سيئة، على سبيل المثال الرغبات الجنسية، هذا على الرغم من أن هذه الرغبات موجودة معنا منذ مبكرة من الطفولة. إذا ألقينا نظرة سريعة إلى الأطفال في مرحلة الطفولة سنجد أنهم يميلون إلى تحسس أعضائهم الجنسية، وعندما يفعل أي طفل ذلك يجد نفسه قد تلقى ضربة على أطراف أصابعه أو تلقى تحذيراً من هذا الفعل. وهكذا يبدأ الشعور بالذنب تجاه أي شيء يتعلق بالجنس. يظل هذا الشعور كامناً في الأنا العليا طوال حياة الإنسان، وبالتالي يحدث صراع بين الرغبة والشعور بالذنب طوال العمر.
قمة جبل الجليد
أصيب العديد من مرضى فرويد بالعديد من الاضطرابات النفسية التي أطلق عليها اسم “العصاب” نتيجة لهذا الصراع. يقول فرويد أن واحدة من مرضاه كانت تحب زوج أختها، وكانت تُخفي هذا الأمر عن الجميع. لكن عندما ماتت أختها قالت لنفسها: “لقد تحرر الآن من ارتباطه، ويمكنه الزواج بي”. اصطدمت هذه الفكرة مع الأنا العليا لديها. فهذا كان يعني أنها تمنت الموت لأختها، لذلك شرعت في قمع هذه الفكرة. وأبعدتها إلى أعماق اللاوعي. ثم سرعان ما نسيت الفكرة، لكنها بدأت تعاني من نوبات هيستيرية خطيرة. وقد تذكرت هذه الفكرة خلال التحليل النفسي فاعتراها اضطراب شديد، إلا أنها شُفيت بعد أن سمح لها الطبيب باسترجاع هذه الفكرة ومعايشتها من جديد.
توصل فرويد إلى أن الوعي لا يشكل سوى جزءً صغيراً من نفس الإنسان. وشبهه بقمة جبل الجليد الظاهر فوق سطح الماء، في حين يوجد تحت سطح البحر أو تحت سطح الوعي الجزء المخفي الأكبر وهو اللاوعي. ندرك الآن أن جميع تجاربنا تظل باقية في وعينا طوال الوقت. ويمكن أن نتذكر جميع الأحداث التي مرت بنا ببعض الجهد. لكن هناك بعض التجارب والأحداث التي كبتناها وبذلنا جهداً عظيماً لنسيانها، لأننا نعتبرها تجارب سيئة أو مؤلمة أو وضيعة. هذه التجارب هي التي تشكل ما يسمى “اللاوعي”. فإذا شعرنا برغبات لا يرضى عنها الوعي فإن الأنا العليا تدفعها إلى أسفل لتتخلص من وجودها المزعج. وهذا هو الفرق بين الوعي واللاوعي.
الوعي واللاوعي والكبت
تعمل هذه الآلية عند جميع الناس، لكن هناك البعض يحاولون بصعوبة بالغة إبقاء هذه التجارب بعيدة عن وعيهم، فيؤدي بهم ذلك إلى الإصابة باضطرابات نفسية أو عصبية. وهذا ما يسميه فرويد “الكبت”. هذه الأفكار والتجارب لا تبق مستترة على الدوام في القاع، لكنها تحاول التسلل مرة بعد مرة إلى الوعي. وهذا ما يفسر وقوعنا في أفعال أو أقوال دون قصد أو إرادة منا، على سبيل المثال زلات اللسان.
يقول فرويد دعا رئيس العمال عماله إلى شرب نخباً في صحة صاحب العمل، وكان جميع العمال يكرهونه بشدة، وعندما رفع رئيس العمال كأسه عالياً قال بلا قصد: “لنشرب الآن في صحة هذا الرجل الحقير”. وهناك قصة أخرى عن الوعي واللاوعي تقول إن عائلة أحد القساوسة كانوا في انتظار وصول أسقف كبير قادم من العاصمة لزيارتهم. وكان لدى هذا الأسقف أنفاً كبيراً ذي شكل غريب. لذا بدأ رب الأسرة ينبه فتياته الصغار ألا يشرن إلى أنفه بأي شكل من الأشكال. وعندما وصل الأسقف حاولت الفتيات تجنب الإشارة إلى أنف الرجل كما نصحهن والدهن، بل ولتجنب ذلك لم يحاولن النظر إليه، على الرغم من أن جل تفكيرهن كان منصباً على أنف الرجل. وفي لحظة ما طلب الأسقف من إحداهن تمرير السكر له. نظرت الفتاة إليه وقالت له: هل تريد يا حضرة الأسقف أن تضع بعض السكر في أنفك”.
محاولة عقلنة الأفعال
هناك آليات أخرى للكبت وهي محاولة عقلنة بعض الأفعال التي نفعلها عن غير قصد. حيث يمكننا فعل أشياء ولا نستطع ذكر السبب الحقيقي وراء فعلها، بل ونحاول مدارة السبب عن الآخرين وعن أنفسنا كذلك، لأن السبب الحقيقي وراء هذه الأفعال يمكن أن مزعجاً بالنسبة لنا. على سبيل المثال، يمكن أن يطلب الطبيب من مريضه خلال جلسة التنويم المغناطيسي أن يقوم بفتح النافذة كلما سمع طرقات أصابعه على المكتب. وهكذا يبدأ الشخص المنوم مغناطيسياً بالذهاب إلى النافذة وفتحها كلما طرق الطبيب بأصابعه، لكن بعد انتهاء الجلسة ينقر الطبيب على المكتب فيذهب المريض بغير إرادة إلى فتح النافذة وعند سؤاله عن السبب يحاول أن يبرر فعلته من خلال قول إن الجو شديد الحرارة، ونحن نصادف مثل هذه الأشياء في حياتنا اليومية.
آلية الإسقاط
توجد آلية أخرى للكبت وهي آلية الإسقاط. بمعنى أننا ننسب للآخرين الصفات التي نحاول كبتها في أنفسنا، على سبيل المثال يميل الشخص الجبان إلى وصف الآخرين بالجبن، والبخيل ينعت الآخرين بالبخل، وهكذا. ولا تتوقف آليات اللاوعي على هذه الأمور فحسب، بل هناك أيضاً آليات تصادفنا في حياتنا اليومية ونعتبرها مجرد صدف أو أشياء تافهة بلا أهمية مثل نسيان اسم الشخص الذي نتحدث إليه، أو التلعثم أثناء الكلام. هذه الهفوات ليست مجرد صدف عرضية بريئة كما نعتقد، ولكنها تفضح أعمق أسرارنا.
إننا نبذل قصارى جهدنا في مراقبة أفعالنا وأقوالنا، لكن مهما حاولنا فلن نستطع الهروب من دوافعنا اللاواعية. وليس من الذكاء أن نحاول ذلك، لأن هذا الهروب يؤدي بنا إلى المرض النفسي. ولكن من الأفضل أن نُبقي الباب موارباً بين الوعي واللاوعي ولا نغلقه بصورة كاملة. إن المرض النفسي يأتي فقط عندما نستخدم طاقة كبيرة في محاولة إبقاء التجارب التي نعتبرها بغيضة بعيدة عن وعينا، وتكون لهذه التجارب في الغالب أهمية خاصة، لذا نسعى بكل ما أوتينا من قوة كبتها.
حاول فرويد خلال التحليل النفسي لمرضاه أن يفتح هذا الباب بحذر شديد، ثم يسعى لإخراج هذه التجارب المكبوتة إلى حيز الوعي. وقد ابتكر أسلوباً علاجياً أطلق عليه اسم “التداعي الحر للأفكار”. حيث يستلقي المريض في وضع مريح ويتحدث بحرية عن كل ما يجول بخاطره مهما كان تافهاً أو بغيضاً، لأن هذه التجارب المكبوتة هي التي سبب هذه الجروح النفسية للمريض.
الأحلام الطريق الملكي للاوعي
يرى فرويد كذلك أن الأحلام هي الطريق الملكي الذي يقودنا إلى اللاوعي، وكتب في ذلك واحداً من أشهر كتبه على الإطلاق “تفسير الأحلام” الذي أوضح فيه أن أحلامنا لا تحدث صدفة، فالحلم هو اللغة التي يحاول اللاوعي أن يخاطب بها الوعي. وكان قبل نشره لهذا العمل الرائع قد قام تحليل أحلام مرضاه لسنوات طويلة، وانتهى إلى نتيجة بالغة الأهمية وهي أن جميع الأحلام تسعى إلى تحقيق رغبات معينة. ولاحظ فرويد إلى أن الأطفال يحلمون دائماً بالحلوى والفاكهة، أما الكبار فإن رغباتهم التي تسعى أحلامهم إلى تحقيقها تكون رمزية ومقنعة في كثير من الأحيان، ويعود ذلك إلى إننا نمارس رقابة على أنفسنا، لكن هذه الرقابة تكون أكثر ضعفاً أثناء النوم منها أثناء اليقظة. وبقدر قوة هذه الرقابة تجعل الأحلام تخفي الرغبات التي لا نستطع قبولها، فتعرضها في صورة رمزية مقنعة.
تفسير الأحلام
أوضح فرويد أيضاً أننا يجب أن نفرق بين الحلم الفعلي والمعنى الحقيقي لهذا الحلم. وقد سمى الصور الفعلية للحلم المحتوى الظاهري للحلم، وهذا المحتوى الظاهري يستقي مادته من أحداث الماضي القريب، لكنه يحتوي على معنى عميق محجوب عن الوعي، هذا هو المعنى الكامن للأحلام، ويعود هذا المعنى إلى الماضي البعيد مثل الطفولة المبكرة، ولذلك يجب تحليل الحلم أولاً كي نفهم معناه. ويجب علينا عند تفسير الحلم أن نفك الرموز ونزيل الأقنعة عنه ليتضح لنا معناه. دعونا نتعرف على بعض الأمثلة على ذلك من فرويد نفسه.
رأى شاب في منامه أن إحدى قريباته الشابة تهديه بالونتين. هذا مجرد حلم بسيط محتواه الظاهري شاب يحصل على بالونتين من قريبته الشابة. يقول فرويد أن عناصر الحلم تأتي من أحداث الماضي القريب، لذا يمكننا أن نتخيل أن هذا الشاب ذهب إلى مكان يباع فيه هذا النوع من البالونات، أو ربما رأى صورة لها في إحدى الصحف. لكن ما هو المحتوى الكامن للحلم؟
يقول فرويد أن الحلم تحقيق لرغبة، فهل يمكن أن يكون الشاب قد رغب في الحصول على بالونات؟ ليس تفسيراً مقنعاً بحد ذاته، لأنه لا يمكن لشاب أن تكون لديه رغبة شديدة وملحة للحصول على بالونتين، كما أن هذه ليست رغبة بحاجة إلى كبتها، ولأن يحلم بها. لذا يشير فرويد إلى أنه يريد قريبته الشابة في الحقيقة، وما البالونتين سوى رمزاً لنهديها. هذا التفسير يفترض أن هذا الشاب يشعر بالخجل من رغبته، وبالتالي حاول كبتها، فعبرت عنها أحلامه، ونتيجة للرقابة الصارمة يفرضها على نفسه صاغ الحلم هذه الرغبة في صورة رمزية.
العقل الباطن
العقل الباطن هو المسؤول عن تخزين التجارب التي اختبرناها في السابق مع الانطباعات المسجلة في العقل. ويقوم بإصدار المعلومات والبيانات التي يجب أخذها في الاعتبار وإدارتها من قبل الوعي. وقد استخدم فرويد هذا المصطلح كمرادف للاوعي، إلا إنه لم يعد جزءً من نظرية التحليل النفسي. والعقل الباطن هو الأكثر تعقيداً في التفسير.
هناك حوالي 86 مليار خلية عصبية في دماغ الإنسان البالغ. وترتبط هذه الخلايا ببعضها البعض بحوالي 100 تريليون مشبك عصبي. وهذا يعني أن كل خلية دماغية متصلة بما لا يقل عن 1000 خلية دماغية أخرى. لكن حتى الأفضل بيننا يستخدم 10% فقط من إمكاناتنا العقلية بوعي. أي ما يقرب من 90٪ من الموارد المتاحة تكون في حالة سبات أو غير مستخدمة أو غير واعية.
يمكن لعقلنا الباطن أن يستوعب ويعالج ويخزن ما يصل إلى 80.000 قطعة من المعلومات في الثانية، مما يجعله أسرع 10.000 مرة (وأكثر ذكاءً) من عقلنا الواعي، الذي نركز عليه كثيراً. ويعتبر اللاوعي لدينا هو الذي يتحكم في غالبية قراراتنا وحوالي 99% من وظائف الحياتية وأفعالنا، وليس تفكيرنا التحليلي كما يُعتقد.
القيادة والإرشاد
إن عقلنا الباطن هو مجموع كل الأفكار والذكريات والانطباعات والدوافع والاتجاهات والاستعداد للتصرف الموجودة بداخلنا، ولكنه ليس واعياً، بل ينشط في الخلفية. يلعب العقل الباطن دوراً مهماً في أفكارنا وأفعالنا اليومية، فهو يخبرنا من نحن وماذا نريد وماذا نفعل وكيف نفعل ذلك. إنه يقودنا ويرشدنا ولكننا لا نلاحظ ذلك بأنفسنا.
يحتوي العقل الباطن لدينا على عدد لا يحصى من المعلومات والاتصالات التي يمكن الوصول إليها. تخيل أنك تتعلم قيادة السيارة، في البداية سيتعين عليك التركيز بشدة على أشياء كثيرة في نفس الوقت، وهو أمر ليس بالسهل بالنسبة لك. حيث يجب عليك أن تقرر بوعي كل حركة وتنفذها بوعي أيضاً. وهو الأمر الذي يتطلب مستوى عالٍ من التركيز. لكن بمرور الوقت تصبح كل هذه الأشياء تلقائية ولم يعد عليك التفكير فيما تفعله. أنت فقط تفعل ذلك، وأحياناً بشكل تلقائي تماماً. لقد قمت “بالاستعانة بمصادر خارجية” وبالتالي قمت بتسليم البرنامج أو نقله إلى اللاوعي لديك. يتحكم العقل الباطن بعد ذلك تلقائياً في العديد من هذه الإجراءات المزعجة أو المملة، بينما يمكنك التركيز بوعي على أشياء أخرى.
الحدس
ونظراً لأننا نتصرف في العديد من مجالات الحياة بنفس الطريقة كما في مثال “تعلم القيادة”، فإن عقلنا الباطن يستطيع أن يعرف أكثر بكثير مما ندرك. ويمكن لعقلنا الباطن أن يستوعب أكثر بكثير مما نسجله بوعي. لذلك، يمكنه أن يرشدنا إلى الطريق في اللحظات الحاسمة. وهذا ما نسميه الحدس. وهو شعور غريزي غير عقلاني، يأتينا في صورة غريبة مثل الشعور الغريب في المعدة أو صوت في الرأس. يأتي الحدس عندما يتعين علينا اتخاذ قرار ما، ثم نقرر بناءً على حدسنا دون أن نكون قادرين على تفسير ذلك بعقلانية. إننا في بعض الأحيان نشعر غريزياً بوجود خطر وشيك، وفي بعض الأحيان تنشأ المشاعر فجأة، مثل الوقوع في الحب، أو الشعور بالانجذاب إلى شخص غريب دون سبب واضح، أو نضطر إلى البكاء أو الضحك دون سبب واضح. يتولى عقلنا الباطن المسؤولية في مثل هذه المواقف للحظات قصيرة.
يتمتع عقلنا الباطن بقوة وتأثير أكبر بكثير مما ندرك، ويؤثر على تصورنا، ومواقفنا ومعتقداتنا، وسلوكياتنا وردود أفعالنا، والمعنى الذي نعلقه على الأشياء التي تحدث، وصحتنا ورفاهيتنا، وأدائنا ونجاحاتنا الشخصية. كما يسمح لنا أيضاً بقول أشياء لم نكن لنقولها أبداً بقليل من التفكير، مثل زلات اللسان التي تحدثنا عنها آنفاً.
المراجع
1. Author: John A. Bargh and Ezequiel Morsella, (06/26/2008), The Unconscious Mind, www.ncbi.nlm.nih.gov, Retrieved: 03/04/2024. |
2. Author: Wei Zhang and Benyu Guo, (08/23/2018), Freud’s Dream Interpretation: A Different Perspective Based on the Self-Organization Theory of Dreaming, www.frontiersin.org, Retrieved: 03/04/2024. |
3. Author: Minji Lee, Benjamin Baird, Olivia Gosseries, Jaakko O. Nieminen, Melanie Boly, Bradley R. Postle, Giulio Tononi & Seong-Whan Lee, (03/26/2019), Connectivity differences between consciousness and unconsciousness in non-rapid eye movement sleep: a TMS–EEG study, www.nature.com, Retrieved: 03/04/2024. |
4. Author: Michael T. Motley, (09/10/1985), Slips of the Tongue, www.jstor.org, Retrieved: 03/04/2024. |
5. Author: Michael Schaefer and Georg Northoff, (03/17/2017), Who Am I: The Conscious and the Unconscious Self, www.frontiersin.org, Retrieved: 03/04/2024. |
شكراً على الافادة
العفو أستاذ أحمد