فلسفة

فرّق تسد: بذور الشقاق والتماسك الوهمي

في قلب التاريخ البشري، ينبض درس قديم بقدر ما هو مرير: التفرقة أداة الطغيان.. والتمزق هو الخيط الذي ينسجه الجبابرة حول الشعوب ليظلوا في القمة. إنهم سادة اللعبة، يجيدون تفكيك النسيج الاجتماعي وإثارة الخلافات حتى يتحول الإنسان من شريك في المصير إلى عدو لجاره وأخيه. يُقسمون ليحكموا، ويزرعون بذور الشقاق ليحصدوا السيطرة، بينما تغفو الشعوب على وهم التماسك وتستيقظ على واقع من الظلم والقهر. تنسب عبارة «فرّق تسد» إلى الديكتاتور الروماني يوليوس قيصر. وقد دار الكثير من الجدل حول نسبة هذه العبارة إليه، لكن في الأخير يبدو أنها أقرب إلى أن تكون عبارة شائعة أو مثلًا متداولًا أكثر من كونها عبارة يمكن أن تُنسب إلى شخصية بعينها.. لكن هل تمكن أن تكون عبارة صحيحة فعلًا أو مبدأ يمكن العمل به..

فرّق تسد

كانت الحقيقة التي تعبر عنها عبارة فرّق تسد موجودة في عقول الكثير قبل يوليوس قيصر بكثير، عندما كان الإنسان يعيش في حالة طبيعية.. إذا أراد الصياد في عصور ما قبل التاريخ أن يصطاد فريسة كبيرة أو يحارب مجموعة بشرية أخرى، فلا يتسن له تحقيق النجاح في مبتغاه إلا من خلال تفكيك تماسك المجموعة التي يواجهها..

وعندما ظهر مفهوم الدولة، بوصفها علاقة هيمنة من القلة على الكثرة، أصبحت هذه الاستراتيجية أساسية للحفاظ على خضوع المحكومين وتماسكهم. وقد أصبحت أكثر تعقيدًا ودقة عندما استخدمها أصحاب السلطة ضد المجتمع نفسه الذي ينتمون إليه. فإذا كانت الدولة تقاتل دولًا مجاورة، فإن تفكيك صفوف الأعداء وتفريقهم كان أمرًا لابد منه لتحقيق الانتصار.. وانقسام الأعداء الخارجيين لا يمكن إلا أن يعود بالنفع على الدولة الغازية.

كان هدف الطغاة دائمًا هو تفريق صفوف شعوبهم نفسها لفرض السيطرة عليهم واستغلالهم.. لكن تنطوي استراتيجية فرّق تسد على مخاطر جسيمة، أبرزها هشاشة هذا المجتمع أمام التهديدات الخارجية. ولهذا السبب يجب على الحاكم الظالم أن يعزز الانقسام بين المواطنين للحفاظ على سلطته. لكن هذا الانقسام الاجتماعي يضعف المجتمع المقموع ذاته، ومن المشكوك فيه أن يؤدي ذلك إلى تقدم المجتمع ككل.

التماسك الوهمي

فرّق تسد.. مقولة يوليوس قيصر
الطغيان يضعف الجسد الاجتماعي من خلال مبدأ “فرّق تسد”

يمكننا القول أن الطغيان يضعف الجسد الاجتماعي.. وإذا كان الطاغية يفتقر إلى الذكاء السياسي، فسوف ينهار أمام التهديدات الخارجية أو النزاعات الداخلية التي ستنشأ حتمًا داخل الدولة، نتيجة الفساد الجوهري الذي يقوم عليه هذا النوع من التنظيم الاجتماعي.

لكن ليس جميع الطغاة يفتقرون إلى هذا الذكاء، ولذلك، يسعى بعضهم إلى فرض تماسك وهمي على شعبهم يجعلهم خاضعين وتحت السيطرة، ويحافظ في الوقت نفسه على الوحدة الاجتماعية. وهكذا، على الرغم من أن الشعب يبقى في حالة انقسام وتفكك عملًا بمبدأ فرّق تسد، فإنه يعتقد أنه جزء من مجتمع موحد. يمكننا أن نسمي هذا الأمر “التماسك الوهمي” ذلك النوع من التماسك الذي لا يقوم على الدفاع الحقيقي والفعّال عن مصالح جميع أفراد المجتمع.

استخدم الطغاة على مدار تاريخ البشرية التهديدات الخارجية أو المنافسات الرياضية لتعزيز تماسك الشعب بطريقة لا تعرض سلطتهم للخطر بل تزيدها قوة. من السهل توحيد الشعب في مواجهة تهديد خارجي، سواء كان حقيقيًا أو وهميًا، وهذا أمر مفهوم بديهيًا. فالمجتمع الذي يعاني من انعدام التماسك في جوهره يتحد أمام خطر يهدد بقاءه ككيان. استطاعت نخبة اقتصادية في الولايات المتحدة الأمريكية إبقاء شعبها تحت وطأة القمع لما لا يقل عن قرن من الزمان، بفضل هذه الوسيلة: اختراع تهديد خارجي أو تضخيمه. في البداية كان التهديد يأتي من المكسيك أو إسبانيا، ثم من الألمان، ثم الشيوعيين، ومنذ سقوط الشيوعية أصبح المسلمون هم الهدف..

استراتيجية فرّق تسد والتهديدات الوهمية

الأنظمة الاستبدادية
كيف تستعين الإمبريالية بالتهديدات الوهيمة للسيطرة على الشعوب

لكن، هل كانت هذه التهديدات حقيقية؟ ومن المستفيد منها؟ إن معرفة بسيطة بأحداث الحرب الأخيرة في العراق ستمنحنا الإجابة على هذه التساؤلات.. هذه المواجهات الوهمية كانت دائمًا لصالح الأقوياء على حساب حقوق الأغلبية وقوتها الشرائية. يتحد مواطنو الولايات المتحدة ضد تهديد خارجي، وكل من ينتقد السياسة الإمبريالية لبلاده، التي تغذي هذه التهديدات أو تخترعها، يقصى عن النقاش العام ويتهم بعدم الوطنية. وربما يأتي يوم يعترف فيه الشعب الأمريكي، بتواضع وسخاء، بأن هؤلاء “غير الوطنيين” هم المدافعون الحقيقيون عن أمتهم وعن القيم التي تضمنها دستورهم..

الوضع مشابه في أوروبا، لكن التهديد الخارجي هنا ليس الحرب بل الأزمة. وفي مواجهة هذه الأزمة، يطلب من الجمهور نسيان الخلافات والاتحاد للعمل بجهد أكبر مقابل أجر أقل، والقبول بفقدان الحقوق وتحمل الأوقات الصعبة. ومن خلال نشر الخوف بين الناس من تهديد وهمي مثل “انهيار الأسواق”، يمكن اتهام أي شخص يعارض تخفيض حقوقه بأنه “غير متضامن”.

إن الرأسمالية، مثلها مثل أي طغيان، تستخدم الحرب لخلق تماسك اجتماعي وهمي، لكنها تلجأ أيضًا إلى أزمات دورية تهدد كل شيء يمكن تصوره: الرخاء، الأمن الوظيفي، الوصول إلى الموارد الأساسية، وغير ذلك. أمام هذا الخطر المصطنع، نتحد جميعًا ونبذل جهدًا إضافيًا “لإنقاذ البلاد”. وعندما تنتهي هذه الأزمات، نتنفس الصعداء: الأغنياء الذين كانوا أثرياء قبل الأزمة يصبحون أكثر ثراءً، ونحن، بطبيعة الحال، نصبح أفقر مع حقوق مدنية أقل..

الرياضة والاستبداد

فرّق تسد
كيف يستخدم الطغاة الرياضة للسيطرة على شعوبهم

الطريقة الأخرى الرئيسية لخلق التماسك الوهمي هي الرياضة..كان السيرك الروماني في جوهره، يحمل نفس طبيعة ما نطلق عليه اليوم “الرياضة”. لقد كان عرضًا تطهيريًا للجماهير. حيث يشعر أي شخص بائس، سواء كان حرًا أم عبدًا، بالتعاطف مع فريق، أو شخصية، أو لون معين. الصراخ باسم المصارع المفضل لدينا أو النادي الرياضي لهما نفس الهدف: أن ينسى التابع انعدام أهميته كفرد، ويشعر بأنه جزء من شيء أكبر منه.

نحتاج إلى الرياضة، خاصة في ظل الأنظمة الاستبدادية، لإشباع المشاعر الجماعية لدى الناس. ففي حين أن الفرد في المجتمع الحر يشعر بالفخر بتقدم وتطور مجتمعه، ومن ثم يعتبر نفسه عضوًا متكاملًا في مجتمع بشري يتجاوزه؛ فإن الفرد في المجتمعات المسماة ديمقراطية، ولكنه بلا سيادة حقيقية وبالتالي بلا حياة مدنية فعلية، يجد في الارتباط السطحي بنادٍ رياضي إشباعًا لنزعاته الجماعية الطبيعية.

مواجهة الأكاذيب

هذا التماسك وهمي بطبيعة الحال لأنه تماسك سلبي. حيث يقتصر دور الفرد على كونه مشاهدًا في الملعب، وصراخه وكلماته لا تهدف إلى أن تسمع إلا كجزء من ضجيج جماعي يصنع مع بقية الحاضرين الغرباء الذين يشاهدون الحدث. يختلف ذلك عن التماسك في المجتمعات الحرة الذي يستند إلى قدرة جميع الأفراد على اتخاذ القرارات والمشاركة الفعالة في الحوار. التظاهر بهذا التماسك وإبقاؤنا في هذه “الوهم” هو أحد الأهداف الدعائية للرياضة.

يمكن توضيح ذلك بسهولة عندما تحصل بلد ما على بطولة ما. يخرج آلاف الشباب إلى الشوارع ويهتفون باسم وطنهم.. في ذلك الوقت لم يعد الشعب يشعر بمعدلات البطالة في بلدهم، أو بنظامهم التعليمي، أو بطبقتهم الاجتماعية والسياسية. لا يشعرون بشيء يتعلق بمحاربة القمع أو مواجهة الأكاذيب. إنهم يشعرون فقط عندما يجلسون أمام أجهزة التلفاز الخاصة بهم ويرون فريقًا يرتدي لونًا معينًا يهزم فريقًا آخر بألوان مختلفة.

هذا الانحدار الأخلاقي هو نتيجة للترويج الذي قام به الطغاة الذين ينهبوننا.. نشعر بالغضب عندما يسخر الآخرون من فريقنا القومي، لكننا لا نشعر بالغضب عندما تُسرق حقوقنا الأساسية..

وعلى مر الزمان، تتكرر المأساة.. شعوب مزقتها الخلافات، وحكام يزدادون قوة من ضعف شعوبهم.. لكن، هل يمكننا كسر هذه الحلقة؟ هل نملك شجاعة الاتحاد في وجه الطغاة؟ ربما يكمن الأمل في إدراكنا أن قوتنا ليست في الأعداد فحسب، بل في التماسك الحقيقي، في تجاوز الفروق التي يصنعها الطغاة، وفي إعادة نسج خيوط مجتمع لا تقطعه يد السلطة. فلننهض، ولنجعل من الاتحاد قوتنا، ومن وعينا سلاحًا لا يكسر.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!