أسلوب حياة

الخوف من كل شيء: رحلة البحث عن الأمان في عالم خطير

نعيش في عالم يحكمه الخوف. الخوف من تحمل المسؤولية، من المستقبل، من عواقب القرارات التي نتخذها، من اللوم، من الخسارة العاطفية والاقتصادية، من سوء الفهم، من المطالب التي يستحيل إشباعها، نخاف من أن نكون بشراً. لكن كيف كانت بداية قصة الخوف من كل شيء؟

بداية القصة

عاش الإنسان في سالف الأزمان وهو يرتعد من كل شيء، فالحيوانات المفترسة تحيط به من كل جانب وتنتظر الفرصة السانحة لتنقض عليه. كان يخاف عندما يسمع صوت الرعد، أو يرى ومضات البرق تضيء السماء، عانى من الخوف من الأمراض والجفاف والفقر. وفي مواجهة الظواهر التي لم يستطع تفسيرها منحته الأساطير إجابة لعدم اليقين الذي يطغى على عقله، حاول أن يهرب من فرض الخوف المرتبط بالظواهر الطبيعية، ولكن لم يكن في مقدوره الهروب من الخوف من غضب الآلهة.

مرت القرون واحداً تلو الآخر حتى أُسست حضارات كبرى، وعلى رأسها ملوك اعتبروا أنفسهم ممثلي الآلهة على الأرض، فلم يكن باستطاعة أحد أن يعصي لهم أمراً تحت وطأة الخوف. وظهر على مدار التاريخ ما لا يعد ولا يحصى من الأنبياء والمصلحين الذين سعوا إلى تخليص البشر من خوفهم، ولكن دعوتهم وشجاعتهم قوبلت بالرفض والاضطهاد والتعذيب وفي كثير من الأحيان انتهى بهم الأمر إلى القتل.

ممالك الخوف

فلسفة الخوف
عصور الخوف

آمن البعض من الناس بدعوة هؤلاء، وحاولوا أن يستكملوا طريقهم المنشود نحو الحرية وتحرير البشر من الخوف. وعندما لم يستطع الحكام أن يواجهوا هذا الإعصار حاولوا استغلال الموقف، وشرعوا في اعتناق هذه الأديان وتلك الأفكار، لاستخدامها بغرض السيطرة على الناس من جديد. حدث هذا ما ظهور المسيحية، ومع انتشارها وكثرة معتنقيها أعلن الدين المسيحي كونه الدين الرسمي في أوروبا، وحكمت السلطة الكنيسة بنفس الإطار الذهني، وساد الاعتقاد بأن شخصية البابا هو ممثل الله على الأرض. وسيطرت السلطة المسيحية طوال العصور الوسطى على الناس من خلال الخوف كأسلوب حياة. وهذا ما حدث مع ملوك وأمراء الدولة الإسلامية التي اشتد ساعدها وسيطرت على العديد من البلدان في عهد الخلفاء الراشدين وما بعدهم. فلقد حكم ملوك وأمراء الدولة الأموية والعباسية وما بعدها الناس بنفس السلاح – الخوف. ولا يتسع المقال هنا لذكر جميع الأحداث التاريخية التي عاش فيها البشر في مملكة الخوف.

تغيرت الأحوال وتبدلت الأزمان، وانتهى زمن الخلافة الإسلامية، وكذلك استطاعت أوروبا التخلص من سيطرة الكنيسة، ومع دخول القرن الحادي والعشرين تغير العالم، ولكن ما لم يتغير هو فرض الخوف. فنحن نعيش الخوف في عصرنا الحالي ولكن بصيغ متعددة أخرى. إذا ألقيت نظرة سريعة على عناوين الأخبار في الصحف ستجد أن كل شيء فيها عن الخوف، على سبيل المثال، “مشكلات المياه ناقوس خطر يدق الأبواب”.. “الحكومة تسحب نوع معين من اللحوم من السوق لأن استهلاكها يعرض الناس للموت”.. هذه الثرثرة التي تلقيها نشرات الأخبار والصحف تؤدي إلى فقدان العقل، لدرجة أنه بسبب الدائرة النفسية التي ينتجها الاستماع إلى مثل هذه الأخبار فإن القدرة على التحليل تبطل.

الخوف والحرية

الخوف من كل شيء
علاقة الخوف بالحرية

عندما يسيطر الخوف على الناس، فإنهم يتوقفون عن التحليل، ويفقدون كل عبء افتراض الأشياء بهدوء. لذا فإن هذا التخويف لا يتوافق مع الوضوح. لا تكمن المشكلة في ذلك، بل في أننا قمنا بتطبيع الحياة على أنها فريسة للخوف. ويبدو أننا تقبلنا الخوف كعنصر آخر من مكونات الأسرة التي يجب أن نعيش معها يومياً. ربما كان الخوف دائماً استجابة غريزية منحتها لنا بيولوجيتنا لتجنب الخطر، وكرد فعل للدفاع عن أنفسنا أمامه. لكن لا ينبغي أن يكون الخوف بمثابة آلية للسيطرة على حرية الفرد أو الهيمنة عليه.

مشهد متكرر

ذات يوم كنت أتناول الغداء في مقصف عندما دخلت امرأة مع حفيدها الصغير الذي يبلغ من العمر حوالي ثلاث سنوات على ما يبدو. جلست المرأة والطفل على الطاولة، وفي لحظة تركها الطفل الصغير ليتجول في المكان. ففي مثل هذا السن يحتاج الطفل لاستكشاف كل شيء في بيئته، تحت إشراف والديه بالطبع. ما حدث كالآتي: ظلت المرأة تدعوه إلى العودة والجلوس بجانبها في البداية بهدوء، وفي النهاية بصوت عالٍ. اقترب الصبي من رجل كبير في السن كان يجلس على طاولة أخرى، ويضع بجواره عكازاً يمشي عليه. وبينما كان يأكل الرجل اقترب منه الطفل وشرع في العبث بعكازه، ثم أطاح به عن طريق الخطأ أرضاً. على الفور نبهته الجدة وقامت بتوبيخه.

كان الرجل يبتسم للطفل الصغير في حين قالت الجدة للطفل مازحة: “ماذا فعلت؟ اركض إلى هنا.. هذا الرجل سيضربك.. وفي تلك اللحظة يتسلل الطفل من هناك ويهرب سريعاً إلى حيث تجلس جدته. وبعد فترة ودون أن ينظر مجدداً إلى الرجل مرة أخرى انهار باكياً. كان بكاؤه عميقاً ويحاول أن يخفي وجهه في أحضان جدته التي تحاول جاهدة أن تهدئ من خوفه. أما الرجل فانحنى والتقط العكاز ووضعه في مكانه، ثم نظر إلى الصبي ومنحه ابتسامة متعاطفة. لكن الطفل لم يتوقف عن البكاء لذا أخذته من يده وخرجا كلاهما إلى الشارع.

الخوف والتوازن النفسي

الخوف من كل شيء
كيف يؤثر التخويف على التوازن النفسي

هذا المشهد جعلني أفكر. هل يمكننا أن نتعامل مع طفل يبلغ من العمر ثلاث سنوات فقط بهذه الطريقة. ما فعلته الجدة معه أنه غرست بداخله الرعب من شخص يحمل عكازاً، ولا يتوقف الأمر على مشهد مثل ذلك، على سبيل المثال، يساهم الآباء في زرع الخوف بداخل الأطفال من أشياء لا أهمية لها، مثل لمس الأشياء، أو التحديق فيما يلفت انتباههم، وغيرها من الأمور. لهذا السبب عندما سمعت صرخات الصبي في المقصف تساءلت عما يعنيه ذلك بالنسبة له – عاطفياً وسلوكياً – إن بعض الكلمات والنبرة التي تُقال بها تسبب الخوف لدى طفل.

تجربة مثل هذه لا أعرف إذا ما كانت ستظل معه طوال حياته أم إنها ستجعل منه طفلاً مطيعاً أو على العكس من ذلك هل تجعله أكثر ثقة بنفسه – وهذا ما أشك فيه – أو أكثر عرضة للخوف من الأشياء التي ليس لها أدنى أهمية. لكن ما أعلمه جيداً أن فرض الخوف منذ سن مبكرة جداً يجعل العقل راكداً، ولا سبيل لوجود التوازن النفسي والعاطفي المحتمل في مرحلة البلوغ، ولن يوجد تطور حر للشخصية.

مثل هذه السلوكيات التي نفعلها دون أن ندري بعواقبها تساهم فيما بعد في شخصيتنا، ليصبح الخوف هو سيد المملكة، حيث نخاف مما يُفرض علينا، ونخشى أن نُصلب من أجل خطأ اقترفناه، نخاف من الألم الجسدي والعاطفي، من عدم القبول، من تحمل الأعباء التي تقع على عاتقنا. ومن هنا نصل إلى إفراغ أنفسنا كلياً لصالح الآخرين، لينتهي بنا الأمر إلى الانهيار دون أن ينقذنا أحد.

تحدي الحياة

الحياة هي التحدي. يمكنك الاختباء والهروب أو الوقوف في وجهها والتفاخر بشجاعتك رغم الخوف. من لا يقرر لن يكون مخطئاً، من لا يمشي لن يسقط، أولئك الذين لا يجربوا لن يخاطروا. أولئك الذين لا يقاتلوا لن يعانوا، لن يوسم بالندوب من يعتني بنفسه فقط، ويتجاهل الآخرين. أولئك الذين لا يسيطرون على الوضع أبداً ويتحلمون مسؤوليتهم لن يتم اتهامهم.. لكنهم لن يعيشوا أبداً. سينتهي بهم الأمر إلى أن يكونوا أجساداً طائشة تمر عبر الحياة بقلب وروح ميتين.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!