الخلود البيولوجي: هل يمكن للعلم هزيمة الموت؟
“الكل سيموت“.. تعبر هذه الجملة البسيطة عن المأساة الكبرى لجنسنا البشري. نحن كائنات بيولوجية هشة خُلقت لكي تُفنى، لكننا نبقى على قيد الحياة لسنوات قليلة قبل فنائنا النهائي. كيف يمكن للمرء أن يتخيل أنه في لحظة ما سينتهي وجوده في الحياة؟ وهل يمكنه فعل شيء حيال ذلك؟ لقد سعت البشرية طوال تاريخها على هذه الأرض أن تعثر على إجابة على هذا السؤال الأخير، لتتخلص من هيمنة الموت عبر البحث عن طريقة تضمن لها الخلود البيولوجي. فهل نجحت؟ أو على الأقل هل يمكن أن يُكتب لها النجاح في المستقبل؟ لقد بدأ العلماء بالفعل في تكريس جهودهم في محاولة إطالة عمر الإنسان، والسعي بخطى حثيثة إلى الخلود البيولوجي، لدرجة أن بعضهم وعدوا بأن الخلود البشري لا يبعد سوى بضع سنوات.
نهر الخلود
هل فكرت يوماً ما الذي سيحدث إذا استيقظت في الصباح واكتشفت أنك قد أصبحت خالداً؟ هل تخيلت أن أمامك كل الوقت في العالم، ولا يقيدك العمر أو الشيخوخة؟ وهل سيؤدي ذلك إلى تغيير ما؟ وما الذي سيتغير آرائك أم مشروعاتك أم علاقاتك؟ دعونا نبدأ بهذه القصة الطريفة.
تحكي الأسطورة القديمة عن بحار خرج مع طاقمه في مهمة للبحث عما يسمى “نهر الخلود”. يضفي هذا النهر على كل من يشرب ماءه صفة الخلود، وخلال الرحلة الشاقة تعرض طاقم السفينة لكافة المصاعب والعقبات، لكن لم ييأس البحار وواصل طريقه، فلقد كان يعتقد أن الجائزة التي سيحصل عليها في النهاية تستحق كل هذا العناء. هب عاصفة شديدة على السفينة وحطمتها، ومات جميع طاقمه، وألقى الموج بالبحار على جزيرة نائية.
عندما أفاق البحار وجد نفسه وحيداً، كاد أن يقضي عليه الجوع والعطش. نظر على البعد فوجد شجرة تؤتي أوكلها، فأكل من ثمارها حتى شبع، لكنه لم يجد الماء ليروي به عطشه. واصل مسيرته في رحلة أخرى للبحث عن شربة ماء. وبدا أن الموت يقترب منه رويداً رويداً. وعندما استسلم للموت لمح أمامه بركة ماء صغيرة، أسرع إلى هناك وشرب منها حتى ارتوى.
لم يكن يعلم أن ما شرب منه هو نهر الخلود الذي ضحى بأغلى ما يملكه للوصول إليه. مضى في طريقه ليبحث عن بشر آخرين على هذه الجزيرة، وبعد مسيرة طويلة التقى ببعض سكان الكهوف، لكنه اكتشف فيما بعد أنهم ليسوا سكاناً للكهوف كما كان يعتقد، بل كانوا جماعة من البشر الخالدين الذين شربوا من نهر الخلود قبله. وعندما قص عليهم قصته أخبروه بأنه شرب من النهر دون أن يدري.
حياة بلا معنى
قضى الكثير من الوقت مع هؤلاء الخالدين، ودار بينهم الكثير من المناقشات والجدالات والحوارات حول كل شيء تقريباً. وحصل منهم على أجوبة لجميع أسئلته التي كان لا يعرف لها جواب، وصححوا له أفكاره الخاطئة المتعلقة بعجائب الوجود. وبعد مضي فترة طويلة على وجوده معهم شعر أن حياته أصبحت بلا معنى وبلا هدف. وعندما سأل الخالدين عن ذلك، أخبروه بأنهم فعلوا كل شيء واستسلموا في النهاية لحياة التأمل الخالص، وكانوا يلقون بأنفسهم على الرمال ولا يفعلون أي شيء، وقد سأموا من هذا الوضع.
اقترح عليهم البحار أن يبحثوا معه عن النهر الذي إذا شرب منه المرء يعود مرة أخرى إلى حياة الفناء، وانتشر الجميع في كل مكان بحثاً عن هذا النهر، وفي أثناء البحث خدش البحار بطل قصتنا يده عندما كان يحاول الشرب من أحد الآبار، ولاحظ على الفور أن الدم يسيل من يديه، فأدرك أنه عاد إنساناً فانياً مرة أخرة. هلل فرحاً بذلك وعادت الشكوك تملأ رأسه من جديد، ولكنه كان يشعر بالسعادة الغامرة تجتاح كيانه[1].
أليست قصة طريفة ومعبرة عما يمكن أن يحدث لنا إذا حظينا بالخلود الأبدي، لكننا في النهاية لا يمكن أن نُنكر حقيقة أننا لا نموت بسبب كبر العمر، ولكن بسبب أمراض الكبر، فإذا استطاع العلم أن يتغلب على هذه الأمراض حينها من الممكن أن نقهر الموت ذاته، أليس كذلك؟ لكن هناك مشكلة أخرى ستواجهنا وهي أنه لابد من التفكير قبل أن نتغلب على أمراض الشيخوخة علينا أن نتأكد أن حياتنا التي سنحياها تستحق أن نحياها، وأن نكون سعداء كذلك، وهذا أمر صعب المنال، لذلك أعتقد أن الخلود يُقلل من قدر السعادة ولا يزيده بسبب الملل الذي سنتأذى منه وزيادة السكان بالطبع.
هل نحن مستعدون للخلود؟
رافقت الرغبة في الخلود البيولوجي البشر منذ بداية الحياة العقلانية، ولم يتوصل أحد من العالمين إلى طريقة للقضاء على الموت، لكن العلم الحديث يقدم لنا وعداً بهزيمة الموت، وهو ما أثار النقاش حول هذه القضية مرة أخرى. فهل نحن مستعدون أخلاقياً وفكرياً لنكون خالدين؟ الإجابة ببساطة هي لا.
نحن لسنا مستعدين أخلاقياً ولا فلسفياً ولا فكرياً للخلود البيولوجي، لأنه من المستحيل أن نكون كذلك. فالخلود شيء لا يمكن تصوره على الإطلاق، هذا على الرغم من أننا نشير إليه بمصطلح له معنى محدد. لكنه مفهوم مخادع حيث يجعلنا نعتقد بأنه يشير إلى شيء محدد بدقة في حين لا نعرف على وجه اليقين ماذا سيكون موضوع هذا الخلود. عندما يفكر المؤمن في خلود الروح أو النفس أو النفس مع الجسد في الحياة الآخرة، فهو لا يستطع إلا أن يتخيل التكرار غير المحدود لأفعاله. وهي سلسلة لا نهاية لها من الحلقات، ولكن ذلك لن يغطي سوى جزء صغير جداً من مفهوم الخلود: أي أن تظل ذاته مشابهة نوعاً ما لما كان عليه قبل أن يموت، فضلاً عن أن هذه الطريقة في رؤيتها تفترض أن الخلود سيحدث في زمن لا نهاية له، وهناك من يعتقد أنه وجود خارج الزمن، مما يجعله غير قابل للتصور[2].
إن الخلود البيولوجي بالمعنى الحرفي، أي استحالة الموت ونحن على قيد الحياة هو فكرة تنطبق فقط على الخيال العلمي ولا وجود لها في الواقع. هناك كائنات حية مثل الهيدرا لها فترة حياة غير محددة، ولكن حتى هذا لا يمكن اعتباره خلوداً. وبهذا المعنى فإن الموت هو الأكثر واقعية وطبيعية بالنسبة لنا، لكن إذا كان الأمر كذلك فلماذا يهتم الطب الحيوي بهذه المسألة، ويسعى إلى تحقيق الخلود البيولوجي للبشر.
أمراض الشيخوخة
لا تحاول أبحاث الطب الحيوي[3] أن تقدم لنا الخلود كونه فكرة العيش بلا موت للأبد، بل يكفي الحفاظ على صحة الأصحاء وعلاج المرضى من أمراضهم، أما الموت فهو شيء آخر، وهو يحدث للمرضى والأصحاء على حد سواء عند بلوغهم سن الشيخوخة. لذا أقصى ما يمكن للإنسان أن يصل إليه هو الموت بصحة جيدة، وفي الحقيقة يعد هذا الطموح أكثر منطقية من الخلود البيولوجي الأبدي. ومن أجل تحقيق هذا الهدف فإن مساعدة البحوث الطبية الحيوية على التطور أمر ضروري. لكن هنا تظهر نقطة هامة يجب علينا مناقشتها ألا وهي: هل تعتبر الشيخوخة مرضاً؟
لقد دار الكثير من النقاش حول هذا الأمر. ويبدو أن هناك إجماعاً معيناً حول هذه المسألة. إن الادعاء بأن الشيخوخة مرضاً قابلاً للشفاء أو على الأقل مرضاً نستطيع الوقاية منه إلى أجل غير مسمى لا يحتوي على افتراضات نظرية مثيرة فحسب، بل إنه في كثير من الأحيان يكون مدفوعاً بمصالح غير علمية. فإذا تم اعتبار الشيخوخة مرضاً فسوف تتعرض أنظمة الضمان الاجتماعي والصحي في الكثير من البلدان لضغوط تضطرها إلى دفع ثمن الأدوية المضادة للشيخوخة، والتي ستكون باهظة الثمن بشكل لا يمكن تصوره، دون إثبات فعاليتها.
ألم الموت
إذن ماذا عن الاحساس بالألم؟ إنه سؤال محوري يُطرح كلما جاءت فكرة الموت، فما هو الدور الذي يلعبه الألم في حياتنا؟ الألم لا يسبب الموت، بل على العكس تماماً. إن وظيفة الألم البيولوجية[4] هي تجنب الموت من خلال تحذيرنا من المواقف الخطرة على الجسم وتحفيزنا على تجنبها. الألم شيء مفيد للغاية. الفقاريات (على الرغم من أن هذا لا يزال مثيراً للجدل في حالة الأسماك)، وربما بعض اللافقاريات ذات الجهاز العصبي المعقد، مثل رأسيات الأرجل، وخاصة الأخطبوط، تشعر بالألم عند مواجهة أي محفز داخلي أو خارجي يعرض حياتها للخطر.
هناك أيضاً خلل في هذه الآلية، مثل الألم الوهمي في الأطراف المبتورة[5]، أو الألم الناتج عن المحفزات غير الضارة، أو الألم غير المحدد. ولتجربة الألم لا تحتاج إلى درجة عالية من الوعي. هناك دلائل تشير إلى أن الأسماك تشعر بالألم، إلا أن درجة الوعي التي نفترضها ضئيلة للغاية. وبدون الألم، لن يتمكن أي حيوان فقاري من البقاء على قيد الحياة لفترة طويلة. سينتهي به الأمر بالنزيف، أو الإصابة، أو البتر، أو الحرق، أو التجميد، أو القتل بسبب الطفيليات. كذلك يشير الألم إلى تلف الأنسجة التي يجب على الجسم معالجتها، أو الانسحاب من المحفز في تلك اللحظة أو علاج الضرر إذا عرف كيف يعالجه، وكانت لديه القدرة على ذلك. إذن الألم وظيفته الأساسية جعل الجسم يتجنب المزيد من الضرر في المستقبل، ويتعلم الجسم بسرعة سبب الألم ويحاول عدم تكرار التجربة.
العلم وهزيمة الموت
لن يتمكن العلم أبداً من هزيمة الموت، على الأقل إذا انتبهنا إلى المبدأ الثاني للديناميكا الحرارية[6]. فكل شيء سيكون له نهاية. وما يمكن للعلم تحقيقه هو إطالة عمر الإنسان بشكل كبير جداً، ربما يصل إلى 122 عاماً، وهو الحد الأقصى لعمر الإنسان الذي يمكن أن يعيشه حتى الآن. لكن أكثر من ذلك سيكون الأمر صعباً للغاية، لكن لا يبدو أنه سيكون مستحيلاً.
إن الحوت مقوس الرأس، وهو حيوان ثديي مثلنا، يمكن أن يعيش أكثر من 200 عام. ومن الواضح أن احتمال حدوث مثل هذا التمديد في متوسط العمر المتوقع للبشر، من دون تغييرات جذرية في التكنولوجيا ونظامنا الاقتصادي، سيكون الوضع كارثياً. حيث سيتعين علينا إبطاء عدد الولادات أو إيقافها تماماً إذا كنا لا نريد أن يؤدي الاكتظاظ السكاني إلى إنهاء أي إمكانية للبقاء، وسيكون لذلك تداعيات اجتماعية هائلة. وهذا يعني أن بضعة أجيال، أو جيلين أو ثلاثة، ستقرر أن تصبح شاغلي هذا الكوكب الدائمين، أصحابه النهائيين.
ربما يُعتقد أنه لا يوجد سبب للندم على أن الأجيال التي لم تولد بعد ليس لديها فرصة في الظهور إلى الوجود. وفي نهاية المطاف، إذا لم يكونوا موجودين، فلن يتعرضوا لأي ضرر أو ظلم. ولكن ليس من الواضح ما إذا كان البشر لا يحتاجون إلى أجيال جديدة لتجنب الركود كنوع ثقافي وتاريخي. يمكن أن يكون لدينا جسم شاب دائماً، ومع ذلك فإن عقولنا ستشيخ ولن تعد لديها أفكاراً جديدة محفوفة بالمخاطر؛ حتى نتوقف عن التطلع إلى تغييرات اجتماعية وسياسية جوهرية.
إن احتمال تحول الكوكب إلى أعداد كبيرة من الشباب ذوي العقول الخاملة التي أصبتها الشيخوخة لا يبدو أمراً واعداً. وللحفاظ على الزخم التاريخي والحيوي للبشر، لن تكف الأجساد الخالدة، بل يجب أيضاً تعزيز العقل. ومع ذلك، فحتى العقل المتحسن سيكون عرضة للشيخوخة، وذلك ببساطة بحكم كونه عقلاً متمرساً.
تحقيق الخلود البيولوجي والمساواة
كانت أي تقنية جديدة في متناول عدد قليل جداً من الأشخاص في بداياتها. فقط أولئك الذين يستطيعون تحمل تكاليفها في تلك المراحل الأولية، حيث تكون سعرها مرتفعاً جداً في العادة. ويأمل العلماء، كما حدث في مناسبات أخرى، مع تطور التكنولوجيا وتوسعها، أن تنخفض أسعارها وتصبح متاحة للجميع تقريباً، وبالنسبة للقلة المستبعدة سيكون هناك دائما اللجوء إلى سياسات إعادة التوزيع العام والضمان الاجتماعي. تكمن المشكلة في أنه إذا كان الوقت الذي يستغرقه تحقيق المساواة في الوصول إلى هذه التكنولوجيا طويلاً، ستظهر تفاوتات اقتصادية على نحو لا يمكن علاجه، حيث ستكون هذه التفاوتات في صورة جينية، وسيكون الأغنياء مختلفين وراثياً عن الفقراء، ولن يكن من الممكن سد هذه الفجوة، لأن من شأنها أن تقوض أي مظهر من مظاهر التضامن الإنساني. ضع في اعتبارك أن التقدم في هذا الأمر قد يعني الانتماء بالفعل إلى نوع بيولوجي آخر.
الأديان والفلسفة والثقافة
هل يكشف هذا الدافع لهزيمة الموت وتحقيق تحسن جذري للإنسان عن فشل الأديان أو الفلسفة أو الثقافة؟ ليس الأمر كذلك، بل يكشف هذا الأمر عن استمرار آمال التسامي والخلود التي طالما أرادت الأديان وبعض الفلسفات تغذيتها. أو ربما يكشف أننا مبرمجون على الرغبة في الاستمرار في الوجود، مهما كانت حياتنا بائسة. فمن وجهة نظر تطورية، نحن آلات تهدف إلى البقاء على قيد الحياة للأبد. ولهذا السبب فإن البحث عن التحسين البشري[7] من خلال الوسائل التكنولوجية كان حاضراً في جنسنا البشري منذ بداياته. والتكنولوجيا هي الطريقة التي تمكن بها البشر من البقاء على هذا الكوكب، ويقومون بذلك عن طريق تحويل الكوكب بأكمله إلى بيئة صناعية مناسبة.
حقبة التأثير البشري
نلاحظ الآن بوضوح آثار وجودنا في حقبة جديدة، وهي حقبة التأثير البشري – الأنثروبوسين. ولكن الإنسان بدأ في توليدها منذ اللحظة الأولى لوجوده. لقد عاش البشر دائماً في الطبيعة. فالطبيعة هي الأصل وعلى الرغم من ذلك فهي غريبة تماماً عنا، وربما لهذا السبب نحلم بالاستغناء عنها ولا ندرك التهديد بتدميرها. إننا نعتقد بسذاجة أنه عندما تسوء الأمور هنا على هذه الأرض، سننتقل إلى المريخ أو أي كوكب آخر خارج النظام الشمسي. نحن نعتقد أن هذه الطبيعية مثل جلد الثعبان المتغير: سوف نحصل على جلد آخر حينما نتخلص من هذا الجلد.
لا تدل هذه العقلية على فشل الأديان أو الثقافة، ولكنها مظهر من مظاهر ذلك الشعور بالتسامي على الطبيعي الذي حافظت عليه الأديان والثقافة التقليدية. ولم نبدأ في فهم حدوده سوى في العقود الأخيرة. إننا نرى أنفسنا طبيعيين من جهة وخارقين للطبيعة من جهة أخرى. نعتقد أن الطبيعة ليست مكاننا، لكن لا يمكننا الاستغناء عنها أيضاً على الأقل طالما كنا بشراً. ولا يمكننا أن نتخلى عن إرادتنا في خلق الذات، ولكن لا يمكننا أيضاً أن نتخلص من ماضينا، ومن المشاريع الحيوية التي عرفنا أنها ناجحة ومثمرة، والتي نسعى في أعماقنا إلى إعادة إنشائها.
المشكلة هي أننا نتصور وننفذ إرادتنا في خلق الذات بشكل سيء للغاية. نبدو وكأننا كائنات عازمة على تطوير قدرتها من خلال التدمير الذاتي (الحروب، التهديد النووي، الكوارث البيئية…). ألا يبدو أن هذه الحرية المفترضة في خلق الذات تتبع سيناريو الدمار الذي لا يمكننا الهروب منه؟
نحن في قرن الاختبار الأعظم. سنخاطر بمستقبلنا كنوع في السنوات القادمة. ولم يتقرر بعد أن النهاية ستكون كارثة، ولكن ما يبدو واضحاً جداً هو أنه لتجنب ذلك، يجب أن يخضع أسلوب حياتنا لتغييرات جذرية أعمق مما يُفترض عادةً. فلا يكف إعادة تدوير البلاستيك والتحول إلى السيارات الكهربائية. ويجب أن يتبدل النظام الاقتصادي برمته. والسؤال هو ما إذا كنا على استعداد لإجراء مثل هذه التغييرات الآن، أم سيكون الأوان قد فات بحلول ذلك الوقت.
قبول الموت المحتوم
لا يجب علينا أن نتذمر من فكرة الموت، بل علينا تقبلها. فهذا هو قدرنا، وبما أننا هنا دون أن يطلب منا أحد، فإن أفضل شيء هو أن نحمل هذه الحقيقة بكرامة، ونستمتع بالحياة قدر الإمكان، نبحث عن صحبة الأحبة ونحاول ترك ذكرى جميلة لدى هؤلاء الأشخاص الذين سيحتفظون بها لبضع سنوات. وهذا الوجود الإضافي الذي يوفره استمرار ذاكرتنا يسمى أيضاً “الخلود”، خاصة عندما يستمر لعدة أجيال. إن التطلع إليه ليس بالأمر السيء، لكنه بالتأكيد لا يعوض الحياة الضائعة.
ربما تساعدنا الفلسفة على قبول القدر المحتوم للموت أكثر من العلم. حيث يمكن للعلم أن يُظهر لك روعة الكون وجلاله، وجمال نظامه، وتعقيده، ودقة تفاصيله. وهذا يولد إحساساً محفزاً بالتفاهم والتصالح مع الطبيعة، ولكن في النهاية الرسالة التي يحملها أن الكون لا يبالي بمشاكلك ومشاكل بقية إخوانك من بني البشر. ومن ناحية أخرى، سعت الفلسفة دائماً إلى الحصول على بعض العزاء لهذه اللامبالاة الكونية. ففي الفلسفة تجد كل شيء، تجد فلاسفة التفاؤل مثل أبيقور أو ماركوس أوريليوس، وتجد فلاسفة التشاؤم مثل شوبنهاور أو سيوران. وما عليك إلا أن تنتقي ما يناسبك.
منظور أخر للخلود البيولوجي
دعونا ننظر إلى فكرة الخلود البيولوجي من منظور مغاير، وسنكتشف إننا خالدون بالفعل. إذا ألقينا نظرة إلى شيخ يرقد على فراش الموت يحتضر تجد أن أبنائه وأحفاده يلتفون حوله. إنه يموت، لكن الحياة حوله في كل مكان، فالحياة لا تتوقف. إنها مستمرة نضرة يانعة في جملتها، وكأنما هي تستمد من هذه الأجساد التي تتوارى في أعماق الثرى حيويتها، وتحصل الأرض من الأشلاء التي تمتزج بتربتها خصوبتها، لتُغذي بها شجرة الحياة لكي تزدهر وتُثمر، فيتجدد عنفوان شبابها، وكأن كل ما في الحياة هو وقود لذلك اللهب المقدس – لهب الحياة – الذي يجعل الشمعة مضيئة وهاجة، فنحن نموت لكي يحيا أخرون، والأخرون يموتون، لكي يحيا ما بعدهم، وهكذا فان الكل واحد.
لكن لو افترضنا أننا مخلدون في هذه الدنيا بالمعنى الحرفي لها، وأن الجيل الأول ما زال يعيش بيننا، وكذلك الأجيال اللاحقة فأين هي الأرض التي تسع تلك الأعداد التي تبدو بلا نهاية من البشر؟ من أين يأكلون؟ وكيف تتقدم الدول؟ وكيف تزدهر الحياة؟ أعتقد أن البشر وقتها سوف يخترعون اختراع مدمر يقوم مقام الموت كي يفني البشر. إننا نخلد الحياة بفنائنا وهي تفنينا بخلودها، ففي قلب الموت تتجدد الحياة نفسها.
المراجع
[1] من رواية الأجنحة السوداء – وائل الشيمي.
[3] Can Modern Medical Science Allow Me to Live Forever?
[4] Painful Truth: The Need to Re-Center Chronic Pain on the Functional Role of Pain.