أسلوب حياة

هوس التسوق: التنويم المغناطيسي في السوبر ماركت

تزخر الأرفف في المتاجر الكبرى بكل ما يمكن أن يتخيله العقل، وفي دهاليز هذه الممالك يتسلل إلى أعماقنا شعور يشبه السحر. تغوينا هذه المنتجات بألوانها وتصاميمها، فنفقد الإحساس بالزمن والمنطق. وفي تلك اللحظة يصبح التسوق طقسًا يتجاوز الحاجة إلى الشراء ليصل إلى حدود التنويم المغناطيسي. فكيف تتحول رحلة عادية لشراء الضروريات إلى تجربة نفسية عميقة تحكمها غرائز خفية ومؤثرات دقيقة؟ إنه سؤال يفتح نافذة على عوالم التسويق والدعاية التي تداعب عقولنا بمهارة لا تخطئ هدفها. دعونا نخوض رحلة نتعرف من خلالها على هوس التسوق.. 

اتخاذ قرار الشراء

اكتشف الباحثون في شركة دوبونت أن المشتري في منتصف القرن الماضي لا يكلف نفسه عناء إعداد قائمة للتسوق، أو على الأقل إعداد قائمة لما يحتاج إلى شرائه. وتوصل الباحثون إلى أن أقل من متسوق واحد من كل خمس متسوقين يحمل قائمة. لكن لا تزال ربات البيوت قادرات على ملء عرباتهن حتى آخرها، وغالبًا ما يعبرن بدهشة قائلة: «لم أتخيل أبدًا أنني سأشتري كل هذا!».. لماذا لا تحتاج ربة المنزل إلى قائمة؟ تقدم دوبونت إجابة قاطعة: لأن سبعة من كل عشرة مشتريات يتم اتخاذ قرارها داخل المتجر. حيث يتصرف العملاء بناءً على اندفاعاتهم.

أراد جيمس فيكاري[1] معرفة سبب هذا الارتفاع في المشتريات الاندفاعية. اشتبه في أن هناك شيئًا خاصًا يحدث في نفسية النساء اللاتي يدخلن إلى السوبر ماركت. وتصور أنهن ربما يعانين من زيادة في التوتر نتيجة مواجهة العديد من الخيارات.. وهذا ما يجعلهن يسرعن في اتخاذ قرارات الشراء. كانت أفضل طريقة لاكتشاف ما يحدث داخل ذهن المشتري هي استخدام جهاز قياس الجلفانومتر أو جهاز كشف الكذب، لكن ذلك كان بطبيعة الحال أمر غير عملي. لذلك، اقترح إجراءً آخر لا يقل فائدة وهو استخدام كاميرا سينمائية مخفية لتسجيل معدل رمش أعين العملاء أثناء التسوق.

يعتبر معدل الرمش مؤشرًا دقيقًا إلى حد ما على التوتر الداخلي، ويمكن أن يوضح هوس التسوق عند المشترين. ووفقًا للسيد فيكاري، يرمش الشخص العادي حوالي 32 مرة في الدقيقة بشكل طبيعي. وإذا شعر بالتوتر، يزداد معدل الرمش؛ وفي حالات التوتر الشديد، قد يصل إلى 50 أو 60 مرة في الدقيقة. وعلى العكس، إذا كان في حالة من الهدوء التام، فقد ينخفض معدل الرمش إلى 20 مرة أو أقل.

هوس التسوق في أرض العجائب

هوس التسوق عند النساء
تبدو المتاجر الكبرى وكأنها أرض العجائب

قام فيكاري بإعداد كاميراته السينمائية. وبدأ في متابعة السيدات أثناء دخولهن المتاجر الكبرى. كانت النتائج التي حصل عليها مذهلة بالنسبة له. وبدلاً من أن يزيد معدل رمش السيدات، كدليل على زيادة التوتر، انخفض معدل الرمش تدريجيًا حتى وصل إلى معدل غير طبيعي بلغ أربع عشرة مرة في الدقيقة. أشار فيكاري إلى أن السيدات دخلن فيما يُسمى “حالة التنويم الإيحائي”.. أي وصلن إلى المرحلة الأولى من التنويم المغناطيسي. واستنتج أن السبب الرئيسي لهذه الحالة هو أن السوبر ماركت، يبدو وكأنه أرض العجائب.. حيث يقدم منتجات كانت في الماضي مقتصرة على الملوك والملكات. ويقول فيكاري في نظريته:

في هذا العصر، يمكن لأي شخص أن يكون ملكًا أو ملكة وهو يتجول بين هذه المتاجر حيث تصرخ المنتجات قائلة: اشترني، اشترني..

ومن اللافت للنظر أن العديد من هؤلاء السيدات كنَّ في حالة من التنويم لدرجة أنهن كنَّ يمررن بجوار جاراتهن أو صديقاتهن القدامى دون أن يلاحظوهن أو يلقين التحية. كانت نظراتهن أحيانًا زجاجية، وكنَّ منشغلات للغاية بجمع المنتجات عشوائيًا من الأرفف لدرجة أنهن تعثرن بالصناديق دون أن يلاحظونها. ولم يلتفتن حتى إلى الكاميرا التي كانت تصورهن، رغم أن وجوههن اقتربت أحيانًا إلى مسافة قدم ونصف من الكاميرا ذات المحرك الصاخب.

وعندما ملأت ربات البيوت عرباتهن واتجهن نحو صندوق الدفع، بدأ معدل الرمش يتزايد ليصل إلى حوالي خمس وعشرين مرة في الدقيقة. ثم، مع سماع صوت آلة تسجيل النقود وصوت المحاسب يطلب المال، تجاوز الرمش المعدل الطبيعي، ليصل إلى حوالي خمس وأربعين مرة في الدقيقة. وفي كثير من الحالات، لم يكن لدى النساء ما يكفي من المال لدفع ثمن كل تلك الأشياء الجميلة التي حصلن عليها[2]..

مساعدة نفسية

هوس التسوق
استخدام علماء النفس في التسويق للمنتجات

ومع الأخذ بعين الاعتبار هذا المصدر من الدوافع الشرائية في السوبر ماركت، تعاون علماء النفس مع خبراء التسويق لإقناع ربة المنزل بشراء منتجات لا تحتاجها أو التي لا ترغب بها حتى تراها مغرية وجذابة على أرفف السوبر ماركت.. إن النساء الأميريكيات البالغ عددهن ستين مليونًا اللواتي يتسوقن أسبوعيًا من المتاجر الكبرى، يتلقين “مساعدة” من علماء النفس والأطباء النفسيين الذين يتم توظيفهم من قبل تجار المنتجات الغذائية.. وهو ما ساهم بشكل كبير في هوس التسوق لدى النساء.

نشرت صحيفة نيويورك تايمز في 18 مايو 1956، مقابلة استثنائية مع شاب يُدعى جيرالد ستال، نائب الرئيس التنفيذي لمجلس مصممي العبوات قال فيها:

يقول الأطباء النفسيون إن تنوع المنتجات المتوفرة كبير جدًا لدرجة أن الناس يحتاجون إلى مساعدة للاختيار، أي أنهم يريدون العبوة التي تأسرهم وتجعلهم يمدون أيديهم لالتقاطها.

ولذلك، دعا مصممي عبوات المنتجات الغذائية إلى جعل تصميماتهم أكثر جاذبية بحيث تختارها ربة المنزل من بين منافسيها.

وعندما يُغلق باب المتجر خلفنا، ونعود محملين بمنتجات قد لا نحتاجها، ندرك أن الأمر لم يكن مجرد شراء، بل رحلة نفسية صاغتها أيادٍ خبيرة في فهم دواخلنا. إنها ليست مجرد عبوات أو منتجات، بل أدوات تستغل لحظات ضعفنا وتُلبسها ثوب الجاذبية. في عالم أصبح فيه التسوق أكثر من مجرد ضرورة، نواجه تساؤلاً وجوديًا: هل نحن من نختار ما نشتري، أم أن هناك من يختار لنا؟ يبدو أننا جميعًا ملوك وملكات في نهاية المطاف، ولكن بعرش هش تحكمه نزوات مصممة بعناية..

هوامش

[1] James Vicary.

[2] The Hidden Persuaders by Vance Packard.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!