فن

تحليل فيلم Mulholland Drive: فن التلاعب بالعقول

فيلم Mulholland Drive هو أحد تلك الأفلام التي يجب عليك مشاهدتها مع الانتباه الشديد، وبعد ذلك يوصى بمشاهدة ثانية بشكل خاص لأنه وعلى الرغم من اتباعه سرد خطي مصطنع، فإنه يتحرك بين عالمين غير متصلين على ما يبدو. ولكن في النهاية نرى اللغز الرائع وقد تفكك. في هذا المقال نحاول سوياً تفسير وشرح رمزيات هذا الفيلم من خلال تحليل فيلم Mulholland Drive بشيء من التفصيل.

قصة فيلم Mulholland Drive

تبدأ أحداث الفيلم في سيارة بداخلها امرأة واثنين من الرجال. تتوقف السيارة في مكان بعيد عن أعين الناس، ويرفع أحد الرجال سلاحه في وجه المرأة ليقتلها، لكن قبل أن يطلق النار عليه تصطدم بالسيارة سيارة أخرى مسرعة ليموت الرجلين وتنجو الفتاة بإصابة في رأسها.

تنطلق المرأة في طريقها حتى تجد نفسها أمام شقة فتختبئ بداخل حديقتها ثم يغلبها النعاس فتنام. وعندما تستيقظ في الصباح تتابع صاحبة الشقة وهي ترحل فتدخل إلى الشقة لتستريح ومن ثم تحصل على حمام لتنظيف نفسها. أثناء وجودها في حمام الشقة تأتي بيتي – نعومي واتس – لتستلم هذه الشقة من أجل أن تعيش فيها مؤقتاً فهي شقة عمتها. كانت بيتي ممثلة شابة أتت إلى لوس أنجلوس من أجل اختبار أداء لتحصل على دور في فيلم.

تسمع بيتي صوتاً داخل الحمام لتكتشف وجود المرأة المجهولة، التي تعتقد أنها صديقة عمتها، فتسألها عن اسمها. لكن المرأة لا تتذكر شيئاً وعلى الفور تلمح صورة للممثلة ريتا هوارث فتقول لبيتي أن اسمها ريتا. ومع ذلك لا تستطيع الكذب عليها أكثر من ذلك فتعترف لها أنها لا تتذكر أي شيء. ومن هنا تنغمس بيتي وريتا في عالم متناقض في رحلة البحث عن هوية تلك المرأة. وخلال هذه الرحلة يتشابك الواقع مع الأحلام بصورة كبيرة. لنكتشف في النهاية أن كل الأحداث التي مرت بها بيتي ليست سوى خيال عقلها.

اقرأ أيضًا: فك رموز فيلم Borgman الغامض والمريب

تحليل فيلم Mulholland Drive

تم إصدار فيلم Mulholland Drive في عام 2001، وسرعان ما أُعتبر أنه أحد أعظم أفلام ديفيد لينش، بل وواحد من روائع السينما العالمية. ففي هذا الفيلم الملتوي، يمكن للمشاهد أن يترك نفسه بعيداً في تعرجات الجنون الذي ينبعث منه، حيث سيواجه المرء عملاً لشعراء سرياليين، من خلال امتزاج الواقع بالأحلام والرمزيات التي يعج بها هذا الفيلم. وعلى المشاهد أن يحاول تجميع قطع اللغز معاً لمعرفة القصة في النهاية.

إن فيلم Mulholland Drive يخفي بلا شك العديد من الأسرار. نكتشفها شيئاً فشيئاً. على الرغم من أن الفيلم ليس محيراً فحسب – فهو يقدم من نواح كثيرة أدلة ملموسة أكثر من فيلم Lost Highway. وربما يكون أيضاً أكثر إثارة من هذا الأخير. فهذه الرؤى التي تشبه الحلم في الفيلم لا يمكن نسيانها بسهولة. حيث يستخدم لينش ببراعة الدعائم السينمائية لإتقان لغته السينمائية التي شحذها على مر السنين منذ فيلمه Eraserhead. فمن خلال تشابك الأحلام والذكريات الحقيقية والوقت الحاضر، يطمس المسارات ليقربنا من الشعور بالدوار، بين الانجذاب والرهبة.

الهيكل السردي

لقد رأينا العديد من الأفلام ونحن معتادون على هيكلها السردي. ففي كل هذه الأفلام، يتم تقديم شخصية إلينا من بداية الفيلم، ثم يحدث شيء ما لهذه الشخصية، لتبدأ ذروة الفيلم ومن ثم نصل إلى النهاية. لكن فيلم Mulholland Drive ينتهك هذه القاعدة العرفية. فلم يعرّفنا الفيلم أولاً على شخصيته، ديان.

يشبه الشكل السردي لهذا الفيلم اختيار جزء من حياة ديان وإظهارها لنا سليمة. حيث تذهب ديان إلى الفراش، وتحلم، وتنهض، وتحضر القهوة، وتجلس على الأريكة، وذكريات الماضي تمر في أذهانها، ويشوش عقلها وتنتحر. وهذا يختلف عن هيكل شكليات السرد في الأفلام السابقة، وبالطبع فإن عادتنا في هذه البنية الشكلية هي التي تجعلنا ننخدع.

يعتبر الشخص الأول الذي نواجهه في الفيلم الشخصية المركزية للفيلم. فتاة ذات شعر أسود تتحطم سيارتها، وتفقد ذاكرتها، ونعرفها بالاسم الخاطئ ريتا. ثم تدخل بيتي كالشخصية التالية في الفيلم ويتم تقديمها لنا: فتاة أتت من كندا لتصبح نجمة هوليود.

الحلم والواقع

السؤال الذي نتوقع عادة أن يجيب عليه الفيلم هو من هي ريتا؟ والفيلم يواصل خداعنا ويتجه نحو الإجابة. في غضون ذلك، يتم تقديم شخصيات أخرى (آدم كشير، مستر روك، كاميلا روتس، يونغ كيلر، إلخ) ونأمل أن تكون مرتبطة بالشخصية الرئيسية ريتا. لكن بعد منتصف الفيلم بقليل، انهار كل شيء وكسر الفيلم كل توقعاتنا. لقد تم صناعة هذا الفيلم ليجعلنا نرغب في رؤيته مراراً وتكراراً.

إن الحلم والواقع مرتبطان بمكان في هذا الفيلم هو نادي الصمت، حيث كل شيء هناك هو وهم. ويبدو أنه مكان العبور بين هذه العوالم التي خلقها لينش. أما الصندوق الأزرق فهو يشبه صندوق باندورا الذي يحتوي على كل الشرور في العالم. وإذا رأينا وفهمنا كل ما يظهر في الفيلم، نتمكن من حل اللغز. ومن نحصل على المعنى الكامن المتمثل في اللاوعي لشخصية ديان. وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن رمزيات الفيلم.

اقرأ أيضًا: تحليل فيلم The Tree of Life: ملحمة روحية تعبر الزمان والمكان والذاكرة

تفسير رمزيات فيلم Mulholland Drive

لكي نفهم الفيلم علينا سرد الأحداث في البداية بصورة طبيعية. وقصة الفيلم تدور حول امرأة تدعى ديان فشلت في أن تصبح ممثلة. وقد حصل على دورها في الفيلم امرأة أخرى تدعى كاميلا. مما يصيبها بالإحباط والاكتئاب وتبدأ في تناول المخدرات، وقد بدا هذا الأمر بوضوح في منزلها.

ومن تطور حالتها الذهانية تذهب ديان إلى قاتل محترف ليقتل كاميلا. وقد أخبرها القاتل أن علامة إتمام مهمته هو وجود المفتاح الأزرق داخل منزلها. عندما تستيقظ ديان من نومها وترى المفتاح على الطاولة تدرك على الفور بأن القاتل تخلص من كاميلا. ومن هنا ينشأ بداخلها شعوراً بالذنب وتأنيب الضمير. لتبدأ رحلتها مع الحلم الذي يوجد به أشخاص غامضون يؤثرون على اختيارات هوليوود – مما يمنح ديان إحساساً زائفاً بالسبب وراء عدم اختيارها لأدوار مهمة. كما تخيلت أن كاميلا قد استخدمت جمالها الجسدي لجذب المخرجين والمنتجين لاختيارها. وبسبب عدم قدرتها على التصالح مع مقتل كاميلا، تسبب ذنب ديان في إطلاق النار على نفسها في النهاية.

ولكن ماذا عن شخصيات الفيلم وما علاقتها بالأحداث. إن معظم الأشياء والشخصيات في الفيلم ما هي سوى رمزيات سنتعرف عليها سوياً.

ديان الحقيقية

هي ممثلة انتقلت إلى هوليوود على أمل أن تصبح نجمة شهيرة. تركت لها عمتها روث ميراثاً صغيراً. وهو الأموال التي كانت موجودة في الحقيبة. عمتها روث كانت تعمل أيضاً كممثلة ولكنها لم تكن مشهورة. خلال تجارب الأداء يفضل المخرج عليها كاميلا مما يجعل ديان تشعر بالفشل والغيرة. مما يقودها إلى تعاطي المخدرات وتدخل في حالة من الاكتئاب العميق.

كاميلا الحقيقية

تتقدم كل من كاميلا وديان إلى تجربة الأداء في فيلم “قصة سيلفيا الشمالية” من إخراج بوب بروكر. يقبل المخرج كاميلا ويرفض ديان. ويلمح الفيلم إلى أن كاميلا استغلت جمالها الجسدي في الحصول على هذا الدور. كما تظهر كاميلا بأنها شخص لديه علاقات مع كلا من الرجال والنساء. وعندما تقترب منها ديان تشعر كاميلا بالشفقة عليها وتحاول أن تدعوها إلى إحدى حفلاتها التي أعلن فيها المخرج آدم عن زواجه منها.  

اللقاء مع القاتل

مع شعور ديان بالغضب والغيرة من كاميلا تستأجر قاتل محترف ليقتل كاميلا. تدفع له مبلغاً من المال وتعطيه صورة لكاميلا، وربما يظهر القاتل بأنه متردد وغير مسؤول، ولكن ذلك في عقل ديان فقط. وسنعود إلى هذه النقطة فيما بعد. كان من الواضح أن القاتل سيفعل شيئاً لا يمكن الرجوع فيه. وهو قتل كاميلا، ويوضح إنه سيترك مفتاحاً أزرق عند انتهاء مهمته.

نهاية ديان الحقيقية

تجلس ديان تفكر فيما آلت إليه الأمور، وتعاني من هلوسات شديدة بشأن كاميلا التي علمت أنها قد قتلت بعدما رأت المفتاح الأزرق على الطاولة. تأتيها رفيقتها في السكن لتطلب منها باقي أغراضها فتذكرها أن اثنين من المحققين قد جاءا للبحث عنها. لذا لم تستطع ديان التعامل مع ما فعلته والخوف من عاقبة أفعالها وتحت تأثير الأدوية التي تتعاطاها تتخيل المرأة العجوز وشريكها يدخلان من عقب الباب ويصيبانها بصدمة. تدخل غرفتها في خوف وحزن وتقتل نفسها.

الحلم

إن الجزء الأكبر من الفيلم عبارة عن حلم. وهو نسخة ملفقة عن الواقع. حيث يلعب عدد من أنواع الشخصيات الموجودة في الحياة الواقعية أدوراً مختلفة في الخيال.

الوحش في فيلم Mulholland Drive

هو المتشرد الذي يمثل الجانب القبيح من ديان، وهو وجه يخيفها. إنه الجانب البشع الذي ظهر عندما قررت قتل كاميلا.

دان

هناك لقاء بين اثنين من الرجال في المطعم. يقص الرجل الأول دان حلم قد رأه على الرجل الآخر. أما في الحقيقة فإن دان هو مجرد رجل عادي كان يقف عند الطاولة في اليوم الذي قابلت فيه ديان القاتل. لقد تم دمجه في حلم ديان ليصور خوفها وشعورها بالذنب. وعندما يرى المتشرد ويموت فما هذا إلا هاجس من حقيقة أن خوف ديان وشعورها بالذنب سيكلفها حياتها.

روكي الشرير في فيلم Mulholland Drive

روكي هو شخصية غامضة أنشأتها نفسية ديان لتقديم تفسير منطقي لرفض المخرج منحها دوراً، حيث ترفض أن تتقبل أنها ممثلة فاشلة، لذا اصطنعت هذه الشخصيات من أجل إرضاء عقلها الباطن. وهذا الشخص كان مجرد شخص عادي في حفلة كاميلا في النهاية.

مشهد القتل المضحك

في أحد مشاهد الفيلم نرى مشهداً مضحكاً حيث يقتل جو رجلاً لسرقة كتاب أسود. وأثناء وضع المسدس على يد القتيل، لتبدو الجريمة وكأنها انتحار يطلق رصاصة عن طريق الخطأ، لتصيب امرأة في الغرفة المجاورة. يأتي بها القاتل إلى الغرفة ليقتلها هناك ويصادف دخول عامل النظافة. لذا يقتل جو المرأة وعامل النظافة، والمكنسة الكهربائية التي تطلق إنذار الحريق بعد ذلك. يهرب جو الخجول من النافذة مع الكتاب.

هناك ثلاثة أشخاص ماتوا في هذا المشهد ومع ذلك ضحكنا. هنا يتحول مفهوم القتل إلى لحظة مضحكة وخفيفة. حيث يحاول دماغ ديان تخفيف حقيقة أنها دعت إلى قتل كاميلا. إنها محاولة يائسة للتخلص من ذنبها. ماذا لو كان جو أحمق مزعج؟ وماذا لو كان غير قادر على قتل كاميلا؟ ماذا لو كان ترك المفتاح الأزرق وسيلة لخداع ديان لتعتقد أنه أنجز مهمته؟ هذه هي آمال ديان اللاواعية، ولكن للأسف، في الواقع، نجحت ديان في قتل كاميلا.

الصندوق الأزرق

لقد أشرنا سابقاً أن هذا الصندوق يشبه صندوق باندورا الذي يحتوي على شرور العالم وخطاياه. وهنا يمثل الصندوق المشاعر السلبية مثل الغيرة والغضب التي انتابت ديان ولكنها حبستها. ومن هنا نجد أن المفتاح المسؤول عن فتح هذا الصندوق بيد القاتل. وما إن نفذ القاتل مهمته وقتل كاميلا ندرك أن الصندوق قد تم فتحته لتخرج هذه الشرور إلى العالم. هنا نقطة أخرى يجب الإشارة إليها وهي أن اللون الأزرق هو أيضاً رمز للخطيئة.

نادي الصمت في فيلم Mulholland Drive

هو رمز الحقيقة. ففي هذا النادي نسمع دائماً عبارة: “لا توجد فرقة … لا توجد أوركسترا … ما تسمعه مسجل على شريط”. وهذه إشارة إلى إباحة الحقيقة. مفارقة ليست فلسفية فقط بل نفسية أيضاً. فمن يعرف نفسه يأتي إلى نادي الصمت، ويدرك أن كل ما عاشه ما هو إلا حلم وأن كل ما كان يحلم به قد عاشه.

الرجل الكاوبوي

هو رمز المنطق. حيث يعرض على آدم (مخرج هوليوود) الطريق الصحيح، وهذا العرض فيه مجال للتهديد. فالمنطق يرتبط دائماً بالتهديد، والتهديد هو الأداة الانتقائية للعقل والحصافة.

اقرأ أيضًا: مراجعة فيلم Drive My Car: قطعة أدبية معقدة ومثيرة للتفكير

في الختام وبعد تحليل فيلم Mulholland Drive لابد من الإشارة إلى أن تفسير هذا الفيلم يعود بكل تأكيد إلى المشاهد. فما قدمته ليس سوى مساهمة بسيطة في محاولة فك ألغازه، لكن في النهاية لابد من مشاهدته مرات لكي نحصل على جميع أسرار هذه التحفة الفنية الرائعة.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!