طاعون الرقص: رقصة الموت الأخيرة

You are currently viewing طاعون الرقص: رقصة الموت الأخيرة
قصة وباء الرقص في العصور الوسطى

يعد الرقص مرادفاً للمرح والفرح والبهجة، فهذه التمرينات البدنية تساعد الجسم على إطلاق هرمون الإندروفين الذي يسبب حالة من الراحة والشعور بالتحسن. لكن لم يكن أحد يتخيل أن بإمكان الرقص أن يقود إلى الموت؛ فمنذ بضعة قرون مات حوالي 400 شخص من سكان مدينة ستراسبورغ بعد وصلة من الرقص الهستيري في شوارع المدينة استمر لعدة أيام، سقط الراقصون على إثرها أمواتاً. فما هي قصة طاعون الرقص؟ وما الأسباب التي دفعت هؤلاء الناس لفعل ما فعلوه؟

ظاهرة غريبة

بدأت القصة منذ زمن بعيد، وبالتحديد في عام 1518. كانت شوارع مدينة ستراسبورغ تنعم بشمس الصيف الحارة، حين شرعت امرأة تدعى فراو تروفيا في الرقص دون حسيب أو رقيب. حاول العديد من الناس إيقافها لكن جميع محاولاتهم باءت بالفشل. واستمرت المرأة في رقصها وسط حالة من الاندهاش التي انتابت سكان المدينة عند مشاهدتها. كانوا على أمل أن تتعب فتتوقف عن الرقص بعد ساعات قليلة، إلا أن هذا لم يحدث.

مرت عدة أيام والمرأة مازالت على حالتها تتلوى بحركات محمومة، لكن الغريب في الأمر أن عدد من سكان المدينة الذين فشلوا في إيقافها عن الرقص انضموا إليها ليشاركوه ما تفعله. وبدا وكأنه وباء أصابهم عندما اقتربوا منها. لقد انضم إليها في ذلك الوقت 34 راقص من سكان المدينة.

استمر الرقص قرابة الشهر، وبعد مرور الشهر كان عدد الراقصين في شوارع المدينة يقارب 400 راقص. لم يستطع كل هؤلاء السيطرة على أجسادهم، ومن هنا بدأت الكارثة. حيث عان الجميع من التعب والإرهاق والإعياء الذي أصابهم جراء رقصهم، وبدأت الجثث تتساقط واحدة تلو الأخرى. سقط الجميع على وجوههم بعد أن أصيب بعضهم بنوبات قلبية أو سكتات دماغية. أبلغ العديد من السكان السلطات في المدينة، وذهب البعض منهم لمشاهدة ما يحدث. لكن لم يجدوا أي تفسير لهذا الرقص المتواصل. لذا أطلقت السلطات على هذه الظاهرة الغريبة اسم وباء الرقص أو طاعون الرقص، نظراً لتسببه في وفاة مئات الأشخاص[1].

الرقص حتى الموت

وباء الرقص
يحاول البعض إيقاف المرأة عن الرقص

أثر وباء الرقص على النساء والرجال والأطفال، فخلال الأسابيع التي انتشر فيها الطاعون الجهنمي للرقص، مات ما يصل إلى خمسة عشر راقصاً يومياً. لم يكن الرقص من أجل المتعة والترفيه، فهو بعيد كل البعد عن ذلك. حيث كان الراقصون يتلون من الألم ويتمنون أن يتم القبض عليهم لإيقافهم عما يفعلوه.

بدا للجميع أن ما يفعلوه خارج عن إرادتهم، فهم لا يرغبون بفعل ما يفعلوه، وكأن شيئاً ما يجبرهم على ذلك. حاولت السلطات مساعدة من تبقى منهم على التوقف والعودة إلى حياتهم الطبيعية، لكن جميع المحاولات كانت تبوء بالفشل. لقد كافح العديد من الأشخاص الأصحاء لإيقاف راقص في بعض الأحيان، وبالفعل توقف الراقص عن الحركة أثناء احتجازه. ولكن بمجرد إطلاق سراحه، نشط جسده مرة أخرى بطريقة لا يمكنه السيطرة عليها. أما أسوأ ما في وباء الرقص عام 1518 هو أن العديد من المصابين الذين تمكنوا من استعادة صحتهم، عادوا إلى الرقص مرة أخرى بعد بضعة أيام، معتقدين أن الرقص نفسه هو العلاج الوحيد. ثم أصبح الوضع مأزقاً مظلماً.

قرار كارثي لمواجهة طاعون الرقص

فوجئت سلطات ستراسبورغ بالزيادة الشرسة في عدد الراقصين الذين احتشدوا في الشوارع. كان الوباء يزداد سوءاً وطلب النبلاء من الأطباء المحليين تفسيراً. أكد الأطباء أنه مرض ناجم عن “زيادة الدم الحار” في الجسم. وكان العلاج المعمول به في ذلك الوقت لزيادة الدم الحار هو جعل المريض ينزف. ومع ذلك، لم تشرع السلطات في جعل الراقصون ينزفون، لكنها بدلاً من ذلك قررت بناء قاعات احتفالات ومسارح وتوظيف موسيقيين لجعل الراقصين يرقصون بشكل أكثر راحة. كانت نتائج هذا القرار كارثية. حيث سقط القتلى واحداً تلو الآخر أمام أنظار السكان المذهولة. وفي النهاية انتهى طاعون الرقص دون مزيد من الشرح بعد وفاة مئات الأشخاص[2].

أسباب طاعون الرقص

أسباب طاعون الرقص
فرضيات تفسر طاعون الرقص

كان طاعون الرقص علامة فارقة في تاريخ العصور الوسطى، بسبب عدد الوفيات الكبير، ومدة تفشي المرض. حيث بدأ هذا الوباء في يوليو 1518 واستمر حتى سبتمبر من نفس العام. كان يُنظر إلى هذا الوباء على أنه “عقاب إلهي” أو “فعل شيطاني” أو ربما “تعويذة من ساحرة”. وفي مواجهة ظاهرة يصعب تفسيرها، ظهرت فرضيات مختلفة تشير إلى حل هذا اللغز الغامض[3]. دعونا نرى أهم هذه الفرضيات.

الطقوس الدينية القديمة

ظهرت بعض النظريات التي تؤكد أن طاعون الرقص يمكن أن يكون ردود فعل بعض الناس على منع الطقوس الدينية القديمة التي حظرتها السلطات. فهذه الرقصات كانت ضمن بعض الطقوس الدينية الرومانية واليونانية القديمة التي كانت محظورة في ذلك الوقت. وقد فعل الناس هذا الأمر حتى لا يتم اتهامهم بالزندقة من قبل السلطات.

فطر الإرغوت السام

تشير الفرضيات الأخرى التي تسعى إلى تفسير طاعون الرقص إلى حقيقة أن الأشخاص الذين دخلوا هذه النشوة يمكن أن يكونوا ضحايا تسمم فطر الإرغوت، والذي كان يُطلق عليه في العصور الوسطى “نار القديس أنطونيوس”. هذا الفطر يمكن العثور عليه بشكل رئيسي في الشوفان أو القمح أو الشعير. وهو يسبب الهلوسة بالإضافة إلى أعراض أخرى. وربما هذا الفطر السام كان السبب الرئيسي في طاعون الرقص. حيث كان نفس الفطر متورطاً أيضاً في حالات شاذة تاريخية كبرى أخرى، بما في ذلك “محاكمات السحر في سالم”.

تخبرنا نظريات أخرى عن المياه التي ربما شربها هؤلاء من بئر ملوثة. لكن ما يؤخذ على هذه النظرية أنه من غير المرجح أن يرقص أولئك الذين تسمموا بالإرغوت لأيام متتالية، ولم يكن رد فعل الكثير من الناس الذين تعرضوا للتسمم بهذا الفطر هو نفسه.

الإجهاد المشترك سبب طاعون الرقص

يقول بعض العلماء المتخصصين في العلوم الاجتماعية والسلوك الاجتماعي أن طاعون الرقص يمكن أن يكون في الواقع مظهراً من مظاهر التوتر والقلق المشترك. حيث يخفف فعل الرقص من ضغوط الحياة اليومية الصعبة للغاية. ويمكن أن يقود البعض إلى تجربة نوع من النشوة، وفي بعض الحالات “الرؤى”. وقد تم تسجيل السلوك الجنسي أيضاً في بعض الحالات الأخرى، بما في ذلك العري والإيماءات الفاحشة والرقص بين المشاركين.

يبدو أن الرقص كان بمثابة ذهان ناتج عن الإجهاد على مستوى جماعي، نظراً لأن المنطقة التي يرقص فيها الناس كانت تعاني من الجوع والمرض، بعد ثلاث سنوات من المجاعة والأوبئة المتكررة وعقود من الهجر الروحي. كما كان السكان يميلون إلى الإيمان بالخرافات، وقد تم الإبلاغ عن سبع حالات أخرى من طاعون الرقص في نفس المنطقة خلال ذلك الوقت.

طاعون الرقص في قداس عيد الميلاد

وباء الرقص في العصور الوسطى
ظهر طاعون الرقص في ألمانيا خلال قداس عيد الميلاد

لم يكن طاعون الرقص الذي حدث في ستراسبورغ الأول من نوعه في التاريخ[4]، فلقد حدث شيء مماثل في قداس عشية عيد الميلاد في مدينة كفاكنبروك بألمانيا عام 1021. حيث شرع 18 شخصاً بالرقص في دوائر داخل الكنيسة أمام المذبح، لدرجة أن الاحتفال بالقداس لم يكن ممكناً. وتروي السجلات التاريخية كذلك أنه في عام 1374، قام عدد كبير من الرجال والنساء بالرقص، والصراخ من الألم، والقفز في الهواء، والركض بعنف من مكان إلى آخر، واستدعاء رحمة الله والقديسين، في قرية صغيرة بالقرب من سان بطرسبرج.

رقصة الرتيلاء

تعرضت إيطاليا كذلك إلى طاعون الرقص في منتصف القرن التاسع عشر. وقد ألقوا اللوم حينها على عنكبوت الرتيلاء في هذا الحدث. كانت البداية عندما بدأ البعض يرقص رقصة سميت برقصة الرتيلاء[5] في مواجهة القمع والتعصب في جنوب إيطاليا. ولكن لم تؤيد الكنيسة هذا النوع من الرقص، مما أدى إلى سلسلة من الاضطهادات ضد من يمارسونه.

كانت رقصة الرتيلاء بمثابة رقصة استرضائية مرتبطة بالخرافة الشعبية. حيث اعتقد الناس أن هذه الرقصة تساعد في شفاء الأشخاص الذين تعرضوا للدغة العنكبوت المذكورة. وادعت الأسطورة أنه بفضل هذه الرقصة الإيقاعية، يقوم الشخص المصاب بإزالة السم من جسمه عن طريق العرق. لقد كان على الشخص الذي يُفترض أنه عضه العنكبوت أن يرقص ويستمر في الرقص حتى يفقد وعيه. لكنه يسقط ميتاً في كثير من الأحيان من الإرهاق.


نُقلت إلينا هذه القصص من خلال الخطب والمراسيم البلدية والكتابات التي جمعها باراسيلسوس[6] طبيب عصر النهضة الشهير. ولا يزال طاعون الرقص عام 1518 وبعض الأمور الغريبة الأخرى التي حدثت في الأراضي الأوروبية لغزاً. لكن في العصر الحديث، لم يتكرر أي وباء مماثل في العالم. ولا شك أن التاريخ مليء بالألغاز التي ستستغرق بعض الوقت لفك أسرارها.

المراجع

[1] In a spin: the mysterious dancing epidemic of 1518.

[2] Keep on moving: the bizarre dance epidemic of summer 1518.

[3] The medieval dancing plague: what caused people to dance themselves to death?

[4] When Dancing Plagues Struck Medieval Europe.

[5] Dancing the Tarantella.

[6] Paracelsus: Herald of Modern Toxicology.

اترك تعليقاً