فن

تحليل فيلم The Tree of Life: ملحمة روحية تعبر الزمان والمكان والذاكرة

فيلم The Tree of Life هو أحد الأفلام الفلسفية التأملية للمخرج الرائع تيرينس مالك. وهو من بطولة براد بيت وجيسيكا شاستين. ويعد هذا الفيلم واحد من روائع الأفلام التي تدعو المشاهد إلى التفكير والتأمل. في هذا المقال نحاول تحليل فيلم The Tree of Life بشيء من التفصيل.

قصة فيلم The Tree of Life

تنقسم أحداث الفيلم أربعة أجزاء. حيث يركز الجزء الأول على عائلة أوبراين. وفيه نشهد كيف يتفاعل الأب – براد بيت – والأم – جيسيكا شاستين – مع نبأ وفاة ابنهما الصغير. وهنا تخبرنا الأم المتدينة عبر التعليق الصوتي أن الراهبات اعتدن على تعليمها أن كل شخص يمكنه السير في مسارين: طريق الطبيعة الأناني الذي عليك أن تنتظر فيه لترى كيف سيحكم عليك الله، وطريق النعمة الذي من المؤكد أنك ستحصل فيه على ما تستحق. وعلى كل شخص أن يختار في أي الطريقين يسير. إنها كلمات جميلة عندما تسير الأمور على ما يرام، ولكن عندما يموت طفلها قبل الأوان، فإن موته يثير الشكوك حول الله وإيمانها ومعنى الحياة.

ينتقل بنا الفيلم بعد ذلك مباشرة إلى الجزء الثاني ليجلب لنا شجرة الحياة منذ الانفجار العظيم. حيث يتبع هذا الانفجار خلق الأرض، وظهور أول كائن حي دقيق وحيد الخلية، ووصول الأسماك والديناصورات. يستغرق هذا التسلسل وقتاً طويلاً نرى فيها انفجار البراكين وقناديل البحر والأسماك والتيارات البحرية وغيرها من الجمال الطبيعي.

يُظهر الجزءان الثالث والرابع عائلة أوبراين في الخمسينيات والسبعينيات. حيث نشأ الأبناء الثلاثة الباقيين في إحدى ضواحي تكساس المريحة. ونظراً لأن الأب يسافر كثيراً من أجل وظيفته، فإنها تهتم إلى حد كبير بالتربية. ولكن شخصية الأم هي شخصية سطحية مبتذلة تمنح الحب لأطفالها فحسب دون محاولة تعليمه شيء عن الحياة. في حين أن الأب على الرغم من أنه يحب أطفاله، إلا أنه يظهر حبه بطريقة خاطئة. حيث لم يكن مشغولاً سوى بإعداد أبنائه للمجتمع.

ينصب تركيز TREE OF LIFE بشكل قاطع على الابن الأكبر جاك، الذي يكافح كطفل ضد جميع أشكال السلطة ويبذل قصارى جهده لغزو مكانه في العالم. في المشاهد التي تم تحريرها فيما بينها، نرى جاك الأكبر سناً – تمامًا مثل الأم، مرة أخرى شخصية سطحية ضعيفة التطور – كمهندس معماري مهلك في بيئة خالية من الطبيعة من ناطحات السحاب ومكاتب مفتوحة معقمة.

اقرأ أيضًا: تحليل فيلم El Topo: كتاب مقدس بلا عقيدة

تحليل فيلم The Tree of Life

يعد فيلم The Tree of Life للمخرج الرائع تيرينس مالك أحد الأفلام المعقدة التي تحمل في طياتها العديد من الرسائل التي على المشاهد أن يستنبطها ويتفكر فيها بتمعن شديد. لذا يمكن القول بأن هذا الفيلم عبارة عن قصيدة سمعية بصرية لفكرة الحياة.

من خلال فيلم The Tree of Life أصبح تيرينس مالك هو ستانلي كوبريك الجديد، حيث صنع تجربة سينمائية للحواس، وأخبرنا بقليل من الحوارات عن شجرة النشوء والتطور لعائلة من أمريكية. وخلال الفيلم سوف نتابع مسار حياة الابن الأكبر جاك، من خلال براءة الطفولة إلى خيبة أمل سنوات نضجه، في محاولته التوفيق بين العلاقة المعقدة مع والده. يشعر جاك وكأنه روح ضائعة في العالم الحديث، يبحث عن إجابات حول أصل الحياة ومعناها، بينما يشكك في وجود الإيمان.

الرسالة واضحة وفريدة من نوعها وجوهرية. وهي محاولة للتفكير في قضايا عميقة للعثور على إجابات للأسئلة الأكثر إزعاجاً للبشرية. من أين أتينا؟ ما الذي يحركنا كأفراد؟ لماذا علينا أن نفقد براءتنا أو لماذا تحدث أشياء سيئة لنا؟ إنها أغنية للطبيعة، فيلم روحي سيتركك معتقداً أننا مثل حبة رمل على شاطئ المحيط الكوني.

اقرأ أيضًا: تحليل فيلم Lost Highway: رحلة عبر الممرات المظلمة للاوعي

فيلسوف السينما الحديثة

درس مالك الفلسفة في جامعة هارفارد وتخرج بامتياز عام 1965. بينما تمكن من إخراج أربعة أفلام أخرى فقط منذ ذلك ظهوره المذهل. وقد حملت كل من هذه الأفلام طابع العمق، وهو عمل شاعر وفيلسوف سينمائي. وعلى الرغم من أن كل فيلم من أفلام مالك هو عمل فريد، إلا أنها تشترك جميعاً في الخاصية الغريبة المتمثلة في كونها حسية ودماغية في نفس الوقت. لذا فليس من المستغرب إذن أن تكون ردود الفعل على أفلامه متنوعة، وفيلم شجرة الحياة ليس استثناء. ومع ذلك، فقد نال الفيلم استحساناً كبيراً من المجتمع النقدي. حيث فاز بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي 2011 وترشيح لأوسكار كأفضل فيلم روائي طويل. مالك نفسه، حصل أيضاً على ترشيح أوسكار لأفضل مخرج.

اقرأ أيضًا: تحليل فيلم Fight Club: انسحاب الرجال من سباق الفئران

السرد في فيلم The Tree of Life

إن الجانب الأكثر تحدياً في فيلم The Tree of Life يتعلق ببنيته السردية. حيث تمنح معظم الأفلام المشاهد المادة الخام اللازمة لبناء سرد مفهوم في عقله. وهذه هي الطريقة التي نفهم بها تسلسل الأحداث بمرور الوقت – فنحن نبنيها في روايات مفهومة لنا ونخزنها في ذاكرتنا. على سبيل المثال، إذا كنت سأقوم برحلة إلى صيدلية ثم أبلغك بما حدث، فلن أخبرك بكل التفاصيل التي مررت بها. لكن بدلاً من ذلك، سأصمم قصة لما حدث وأخبرك بها – وستكون ذاكرتي عن هذا الحدث في الأساس في شكل قصة أيضاً. ومن هذا المنطلق فإن فيلم The Tree of Life لا يمنحك مادة سردية كافية للحفاظ على تقدمها على مدار الفيلم. وبالتالي يبدو أن الفيلم يتجول في بعض الأحيان بلا هدف، ويكرر أحياناً ما قيل من قبل.

في الواقع، ما يقدمه مالك للمشاهد ليس سرداً شاملاً، ولا حتى بعض المتواليات أو الحلقات السردية المصغرة، ولكنه مجرد بعض “اللحظات” المذهلة التي ظلت بشكل مقلق في ذاكرة جاك لسنوات عديدة. وبالتالي لا يقدم هذا الفيلم قصة، بل مجرد أجزاء صغيرة قد تدخل في تكوين قصة. فمن الواضح أن جاك الأكبر ليس لديه قصة متماسكة يرويها عن بعض الأحداث المليئة بالعواطف من ماضيه.

اقرأ أيضًا: مراجعة فيلم The Outfit: إثارة هادئة وباردة ومليئة بالمنعطفات الملتوية

معنى الحياة

إذن الفيلم ليس قصة تتحرك في اتجاه ما بقدر ما هو انعكاس تأملي لمعنى الحياة. ما هذا الكون الذي نعيش فيه؟ ما الذي يدفع الحياة؟ هناك صور مبكرة في الفيلم تصور العالم الواسع على أنه مدفوع بشكل أعمى بقوى طبيعية. العالم مكان متوحش بلا روح على ما يبدو، ونرى قوى تعمل على جميع المستويات – من الكوني إلى الضئيل. قد تتطور الظواهر الموضحة وفقاً للقوانين الفيزيائية، لكنها غامضة وعديمة العقل. في وقت لاحق نرى العمليات العضوية، ولكن هنا مرة أخرى، كانت الكائنات الحية في عصور ما قبل التاريخ مدفوعة بالقوى الطبيعية للبقاء على قيد الحياة. لذا فمن المرجح أن تستحضر في المشاهد في أذهان المشاهدين أفكاراً تتعلق بمعنى ما يكمن وراء آفاقنا.

اقرأ أيضًا: تحليل فيلم Cloud Atlas: رحلة الروح الأبدية

طريق الطبيعة وطريق النعمة

في اللحظات الأولى من الفيلم نسمع والدة جاك عبر التعليق الصوتي وهي تتحدث عن كيفية تعليمها أن هناك طريقتين أساسيتين للعيش: طريقة الطبيعة وطريقة النعمة. إن طريقة الطبيعة هي تلك التي يتبعها الشخص الأناني، الذي يجب أن يكافح من أجل البقاء في عالم شرس. والعيش وفقاً لطريقة الطبيعة، يرى المرء كل شيء من الإحساس بالمكاسب الشخصية. ومع ذلك، فإن العيش وفقاً لطريقة النعمة مختلف. فلا يحتج المرء عندما يتعرض للظلم أو يسيء معاملته. تشير تلك اللقطات المبكرة للكون وعالم الظواهر الطبيعية إلى أن معظم الكون يبدو محكوماً بطريقة الطبيعة؛ فليس هناك أي إحساس بالنعمة لهذا النوع من العالم. لكن والدة جاك علمت أطفالها أن طريق النعمة لا يزال هو الأفضل.

الأم والأب

سرعان ما نرى في ذهن جاك أن والده يجسد طريق الطبيعة، ووالدته تجسد طريق النعمة. وهذا لا يعني أن والد جاك هو مجرد وحش. ففي الواقع، نرى أن والد جاك يريد بصدق الأفضل لابنه ويريد إعداده للنجاح في عالم يكافئ الفائزين فقط. ثم يمضي الجزء الأكبر من الفيلم ليمثل نضالات جاك المستمرة في محاولة التوفيق بين هاتين الطريقتين للوجود: طبيعة الطبيعة وطريقة النعمة.

هنا يبدو أن جاك المراهق يمشي غريزياً وفقاً لطريقة الطبيعة، لكنه يرى النعمة في والدته، ويرى ذلك أيضًا في شقيقه الذي مات. هذه النعمة يتأثر بها وينجذب إليها، لكنه من ناحية أخرى يراها طريقة ضعيفة وقابلة للاستغلال في عالم مدفوع بدوافع طبيعية. وبينما يبدو أنه يعيش تلقائياً وفقاً لطريقة النعمة، فإن غرائزه هي في اتجاه الأنانية وطريقة الطبيعة. على الرغم من أنه يرفض عاطفياً عدوانية والده بل ويكرهه في بعض الأحيان، إلا أنه في الواقع صورة والده بشكل طبيعي.

عندما يظهر جاك في وقت لاحق من حياته وهو يعمل كمهندس معماري، فإنه يعيش في عالم من الأعمال الفنية التي صنعها الإنسان. مشهد المدينة المليء بناطحات السحاب، وجميع المرايا والزوايا القائمة، هو شهادة على غطرسة الإنسان تجاه بيئته الطبيعية. ويتناقض هذا مع بيئة البلدة الصغيرة الأكثر طبيعية وخضراء لشباب جاك والتي تعكس على الأقل المنظور المختلط لكل من الطبيعة والنعمة. يبدو أن حياة جاك البالغة أصبحت منغمسة في كلام الطبيعة (من الواضح أن والدته قد توفيت قبل مشاهد جاك في العصر الحالي).


في الختام فإن فيلم The Tree of Life هو أسطورة الروح التي تحكي أصول الحياة في ملحمة تعبر المكان والزمان والذاكرة بحثاً عن سمو معنى كل ما هو موجود. لذا فهذا الفيلم يعد تجربة فنية يمكنك الشعور بها ولكن لا يمكن تفسيرها.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!