فلسفة أناكساجوراس: المادة يمكن تقسيمها إلى ما لا نهاية
أناكساجوراس هو أحد أشهر فلاسفة اليونان الأوائل؛ أي فلاسفة ما قبل سقراط. وقد اتهم بالإلحاد نتيجة أفكاره الفلسفية عن الشمس والنجوم. في هذا المقال نخوض سوياً رحلة داخل عقل هذا الفيلسوف اليوناني لنتعرف على فلسفة أناكساجوراس.
من هو أناكساجوراس
ولد أناكساجوراس (500 – 428 قبل الميلاد) في مدينة كلازوميناي وهي مدينة تقع الآن على الساحل الغربي للأناضول. ولما شب انتقل إلى أثينا ويعود الفضل إليه في تحويل أثينا إلى مركز للدراسة القديمة والنشاط الفكري. وقد توسع أناكساجوراس في أعمال فلاسفة الطبيعة الأوائل، وخاصةً فلاسفة المدرسة الأيونية الذين اقترح هؤلاء أن الموجودات في الكون تنشأ من العناصر الأربعة وهي الهواء والنار والماء والتراب. أي نظرية العناصر الأربعة. بينما توصل إلى أن الكون نشأ من مادة يمكن تقسيمها إلى أجزاء أصغر فأصغر إلى ما لا نهاية.
كان أناكساجوراس يعتقد أن الأجرام السماوية لم تكن آلهة. وأن الشمس ما هي سوى حجر ملتهب لدرجة الابيضاض، أما القمر فهو مكون من جبال وأودية مثل تلك الموجودة على الأرض. لذا اتهمه أهل أثينا بالإلحاد وأجبر على ترك المدينة. ولكن يعتقد الكثير من المؤرخين أن هذه التهمة كانت تهمة سياسية في الأساس ولا علاقة لها بأفكاره. وإذا صح اعتقاد البعض أنه عوقب بسبب أفكاره فيعتبر أول فيلسوف في التاريخ يعاقب على ما توصل إليه بوحي من تفكيره وبهدى من عقله.
لقد كان الفيلسوف أناكساجوراس مولعاً بعلم الفلك، وكان يرى أن جميع الأجرام السماوية مكونة من نفس مادة الأرض. وقد انتهى إلى تلك النتيجة بعد أن درس أحد النيازك المتساقطة من السماء. ولذلك فإنه لم يستبعد أن يكون هناك بشراً يعيشون في كواكب أخرى. كما أشار إلى أن القمر لا يضيء بنفسه، وإنما يتلقى نوره من الأرض، وكذلك شرح ظاهرة كسوف الشمس. بينما كان شديد الرفض لكافة أشكال الخرافات التي كانت سائدة آنذاك في بلاد الإغريق.
اقرأ أيضًا: أفلاطون: سيرة حياة أعظم فلاسفة اليونان القديمة |
فلسفة أناكساجوراس
سعى أناكساجوراس – مثل العديد من الفلاسفة الآخرين في عصره – إلى إيجاد تفسير لمصدر الحركة من خلال البحث عن مبدأ منظم. اعتقد أناكساجوراس أن هذا المبدأ هو ما أسماه “نوس” أو “عقل”. وكانت نظريته هي أن النوس يجعل المادة غير المنظمة في الكون تتحرك ويخلق النظام منها. وبسبب تركيزه على هذا المبدأ، يُنسب إلى أناكساجوراس كل من التقدم نحو الإيمان بالله، ومفهوم الإله الخالق الشخصي المتورط في الشؤون الإنسانية. فمن خلال وضع نوس كبداية للخلق، مهد الطريق للإيمان بقوة واحدة مبدعة، وهي الله. ومن المفارقات أن مفهومه الفلسفي عن النوس ساعد أيضاً في رفض جميع الآلهة، لأن بداية العالم والخلق يمكن تفسيره الآن بمصطلحات علمية بدلاً من المصطلحات الدينية.
لم يوافق أناكساجوراس مثل أنبادوقليس على فكرة وجودة مادة أولية واحدة مثل الماء أو النار أو الهواء أو التراب أو كلهم معاً هي التي نشأت منها جميع الموجودات في الطبيعة. وكانت هذه الفكرة سائدة ومصدر نقاش كبير بين فلاسفة عصر ما قبل سقراط. فهو لم يقتنع بدوره أن عناصر مثل هذه يمكنها أن تتحول إلى دماء وعظام.
البذور
يرى أناكساجوراس أن الطبيعة مكونة من وحدات ضئيلة لا تراها العين، وكل الأشياء يمكن ان تنقسم إلى أجزاء أصغر فأصغر، لكن مهما تواصل هذا الانقسام فإن كل جزء منها سيظل محتوياً على بعض من الكل. ولتبسيط هذه الفلسفة يمكننا أن نطرح المثال التالي من عصرنا الحديث لنرى كيف أن أفكار هذا الفيلسوف قد سبقت عصره بمئات بل بآلاف السنين.
إذا نظرنا إلى تكنولوجيا الليزر الموجودة في عصرنا الراهن سنجد أن باستطاعتها إنتاج ما يسمى بالهولوجرامات – وهي الصورة المجسمة ثلاثية الأبعاد – فإذا صورنا هولوجراماً على هيئة سيارة مثلاً ثم أزلنا جزءً من هذا الهولوجرام سنظل نرى مع ذلك صورة للسيارة كلها، حتى وإن لم يتبقى من الهولوجرام إلا جزء صغير جداً. وذلك ببساطة لأن النموذج بأسره موجود في أكثر أجزائه ضآلة.
ووفقاً لهذا التصور نرى أن أجسامنا مكونة كذلك من منظور معين. فلو نزعت خلية من أحد أصابعك فهي بكل تأكيد ستوضح حالة وطبيعة الجلد، وكذلك حالة وطبيعة العيون ولون الشعر وعدد الأصابع وشكلها الخارجي والعديد من الخصائص الأخرى. فمن المتعارف عليه أن كل خلية في الجسم الإنساني تحتوي في داخلها على معلومات تفصيلية عن تكوين جميع خلايا الجسم. وطبقاً لمبدأ أناكساجوراس فإن كل خلية بالتالي تعتبر “جزءاً من الكل”. لذا فالكل موجود في كل جزء مهما اشتدت ضآلته. وقد أطلق أناكساجوراس على هذه الوحدات الصغيرة اسم “البذور”.
لقد كان أنبادوقليس يعتقد أن الحب هو الذي يوحد هذه الأجزاء المختلفة لتكون في النهاية أجساماً كاملة. لكن أناكساجوراس يعتقد أن هناك نوعاً من القوى هي التي تضفي النظام على تلك البذور وتشكل منها جميع أشكال الموجودات في الطبيعة سواء كانت بشراً أو حيوانات أو نباتات وهي التي تصور هذه الأشياء بالهيئة التي عليها.
اقرأ أيضًا: فلسفة توما الأكويني وبراهينه الخمسة على وجود الله |
في النهاية لابد من الإشارة إلى أن أفكار هذا الفيلسوف كانت سابقة لعصره، على الرغم من تهكم أهل أثينا عليه، وإطلاق اسم “عقل” على هذا الفيلسوف الرائع كنوع من السخرية. وعلى الرغم كذلك من اتهامه بالإلحاد. إلا أن أفكاره ساهمت ولو بالشيء اليسير في تقدم العلوم فيما بعد.
المراجع:
- حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة – أنتوني جوتليب – ترجمة محمد طلبة نصار.
- فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط – أحمد فؤاد الأهواني.