فلسفة

خلاصة فلسفة ديفيد هيوم التجريبية

يعتبر ديفيد هيوم أهم رواد الفلسفة التجريبية على الإطلاق. وُلدت فلسفة هيوم في منتصف عصر التنوير، وكانت في جوهرها تكافح التعصب والخرافات. ولقد أعاد نقده لمفهوم السببية ومفهوم الذات والمعجزات الفلسفة إلى أرضية التجربة الثابتة بعد قرون من التكهنات العقائدية. في السطور التالية نتناول خلاصة فلسفة هيوم التجريبية بشيء من التفصيل والتبسيط.

لمحات من حياة ديفيد هيوم

ولد ديفيد هيوم في 26 أبريل 1711 في إدنبرة، عاصمة اسكتلندا لعائلة اسكتلندية من ملاك الأراضي، وكانت الأسئلة الفلسفية تغمر روحه بفضول مفرط منذ أن كان مجرد طفل. تلقى هيوم تعليماً راقياً منذ صغره، حيث قرأ الكلاسيكيات القديمة في الأدب والفلسفة مثل أعمال شيشرون وفيرجيل. أرادات له أسرته أن يدرس القانون ليصبح محامياً مثل والده إلا أنه شعر بنفور تجاه كل ما لا يتعلق بالفلسفة والأدب. لذا اتخذ قراراً بتكريس نفسه للفلسفة عندما بلغ من العمر 23 عاماً.

غادر هيوم موطنه الأصلي وانتقل إلى فرنسا، وهناك شرع في الدراسة حتى أخرج أول عمل عظيم له، وهو كتابه “رسالة في الطبيعة البشرية” تناول فيه عدد من الأطروحات التي تتناول سيكولوجية الإنسان – مشاعره وعواطفه وأخلاقياته – ولكن لم تلق دراسته هذه الاهتمام الذي تستحقه في بادىء الأمر. لذا خاب أمله، واقتناعه بقيمة اكتشافاته، لكنه شرع في كتابة العديد من الأعمال الأخرى مثل مباحث في الأخلاق وفي المعرفة البشرية، وفيها كشف عن محتوى كتابه الأول. لكن كل هذه الكتابات لم تحقق أي صدى. وعندما قام بنشر كتابه عن الأخلاق والسياسة في عام 1742 تلاشى طموحه الفلسفي وخاصة بعد أن تقدم بطلب للحصول على درجة الأستاذية في جامعة إدنبرة ولم تمنح له.

خاب أمله إلى حد ما بسبب سوء الاستقبال لأعماله الفلسفية، وفي السنوات التالية كرس هيوم نفسه للعمل التأريخي، ونشر كتاب تاريخ إنجلترا المكون من ستة مجلدات بين 1754 و 1762. وبهذا العمل، حقق هيوم نجاحاً نسبياً لم يكن قد حصل عليه مع أعماله السابقة.

يتناقض النجاح الهادئ الذي حققه في بلده الأصلي مع الصدى والاستقبال الذي حظي به عمله في فرنسا. حيث لقى في فرنسا صدى لكتاباته التي تتماشى مع خصوصيات عصر التنوير الفرنسي. وقد كان إيمانويل كانط هو من أثار الاهتمام بعمله بإعلانه أن قراءة هيوم “أيقظه من سباته العقائدي”. وبعد أن عاش في فرنسا لبضع سنوات، عاد هيوم إلى إدنبرة عام 1768 وتوفي هناك عام 1776.


فلسفة هيوم والتنوير

لفهم فلسفة هيوم التجريبية، من الضروري أن نأخذ في الاعتبار أن حياة هيوم كانت تسير بالتوازي مع حركة التنوير. فالقرن الذي عاش فيه هيوم هو قرن التنوير والنضال ضد الخرافات والتعصب والدوغماتية والالتزام بعلم علماني وعقلاني. وعلى الرغم من حقيقة أنه عند وفاته، رأه الكثير من المفكرين أنه فيلسوف متشكك تجاهل كل معرفة، إلا أن شك هيوم لم يكن جذرياً بل شكاً نموذجياً لعصر التنوير. كان شك متجدد وضروري لاقتلاع قرون من فلسفة بدأت تفقد نضارتها وخفة وزنها. إذن فشك هيوم هو شك صحي، مليء بالحياة والرغبة، مع الهدف القوي المتمثل في نبذ كل ما هو خرافات لا أساس لها (بما في ذلك الخرافات الفلسفية).

لهذه الأسباب، كان لمحاربة الخرافات التي نفذها التنوير تحت راية المنهج العلمي والعقلانية أفضل دفاع لها في هيوم. فنقد هيوم للمعجزات والمفاهيم الفلسفية غير المبنية على الخبرة، والتي سنراها في الأقسام التالية، تعطي مثالاً جيداً على ذلك. وبدوره، وجد الطموح الليبرالي لعصر التنوير، الذي سعى إلى وضع حد لفرض الحكم المطلق، في كتابات هيوم الليبرالية المتجددة. حيث عرف هيوم كيفية الجمع بين الروح التحررية لقرنه مع التيار الفلسفي الأنجلو ساكسوني في عصره: التجريبية.

اقرأ أيضًا: فلسفة القديس أوغسطين: هل استطاعت حل مشكلة الشر في العالم؟

الفلسفة التجريبية

كانت التجريبية تياراً فلسفياً تطور على يد الفيلسوف جون لوك، وقد وضعت التجريبية الخبرة كمصدر لكل المعرفة، في معارضة للعقلانية التي كانت سائدة في بداية الحداثة والتي كان من أشهر روادها رينيه ديكارت ولايبنيز وباروخ سبينوزا.

شرعت الفلسفة التجريبية في الدفاع عن أن الأفكار الموجودة في أذهاننا هي نسخ من انطباعات الحواس، وبالتالي فإن التجربة هي مصدر كل المعرفة، ويتعارض هذا الموقف مع الروح العقلانية التي سعت إلى المعرفة الحقيقية عن طريق الأفكار الفطرية.

كان هيوم فيلسوفاً يفكر بطريقة مختلفة عن الفلاسفة الآخرين. فلقد انطلق أكثر من أي فيلسوف آخر من حقائق عالم الحياة اليومية. ورأى أن من واجبه ترتيب كل التصورات والمفاهيم الفكرية المبهمة التي ابتكرها أسلافه من الفلاسفة. وأكد على ضرورة مراجعة تجربتنا المباشرة للعالم، لندرس على ضوئها كل شيء.

على سبيل المثال يؤمن الكثير من الناس بوجود الملائكة، وكان التصور السائد لديهم عن الملائكة أن لها أجسام بشرية وأجنحة. لكن لم يشاهد أحد من قبل مثل هذه الكائنات، فنحن رأينا أجساد بشرية وأجنحة ولكننا لم نر هذا التركيب. إذن ففكرة الملائكة هي فكرة مركبة جاءتنا عن طريق الخبرة، فهي مزيج من تجربتين مختلفتين لا صلة بينهما في الواقع ولكن الخيال الإنساني هو ما أوجد هذه الصلة. وبالتالي فهي فكرة زائفة يجب رفضها والتخلي عنها. وبهذه الطريقة يمكننا رفض كل الأفكار والمفاهيم التي خلقها خيال الإنسان ولم يكن لها وجود واقعي. دعونا نبدأ الرحلة مع فلسفة هيوم.

اقرأ أيضًا: فلسفة توما الأكويني وبراهينه الخمسة على وجود الله

الانطباعات والأفكار

نظرية المعرفة عند ديفيد هيوم
نظرية المعرفة عند ديفيد هيوم

يختزل ديفيد هيوم كل مدركات – تصورات – العقل البشري في نوعين اسماهما: الانطباعات والأفكار. والانطباعات هي تصورات الحواس المباشرة للواقع الخارجي – مثل النظر إلى فستان لونه أحمر – أما الأفكار فهي ذكرى هذه الانطباعات بمعنى أن نغلق أعيننا ونفكر في ذلك الفستان الأحمر.

هذا التمييز بين الانطباعات والأفكار يشمل مجمل ظواهر العقل. لذا يستنتج من هذا أنه لا توجد فكرة في أذهاننا لم تكن سابقاً انطباعاً تم التقاطه بواسطة الحواس الداخلية (على سبيل المثال: الجوع أو البرد أو الرغبة) أو الخارجية (على سبيل المثال: البصر أو التذوق أو الرائحة).). ومن هنا تولد جميع الأفكار من انطباع سابق، وبالتالي، بدون خبرة، لا توجد معرفة.

إذن كيف تتشكل الأفكار التي ليست لها وجود في الواقع مثل الملائكة على سبيل المثال؟ لشرح تشكيل الأفكار غير الحقيقية، أي أفكار الأشياء أو الكائنات التي لم نرها في الواقع، يستخدم هيوم فكرة اللعب الحر للخيال أي القص واللصق. حيث تمزج ملكة الخيال البشرية الأفكار داخل أذهاننا لخلق أفكار ليست مشتقة بالكامل من التجربة. على سبيل المثال لقد رأينا بشر ورأينا أجنحة، وهنا يلصق الخيال البشري التجربتين معاً ليكون شكل الملاك. لذا فالخيال لا يخترع أبداً شيئاً جديداً جذرياً، إنه فقط يمزج الانطباعات.

إن هذا التمييز بين الانطباعات والأفكار يوضح كل فلسفة هيوم التجريبية، وهو أساس كل انتقاداته ومقترحاته. وقد استخدم هيوم هذا الأمر لصياغة مفاهيم جديدة أو تفكيك المفاهيم الكلاسيكية للفلسفة. حيث أراد أن يفحص كل فكرة ليرى هل تم تجميعها بطريقة تناظر الواقع أم لا؟ كما اقترح هيوم فحص جميع مفاهيم الفلسفة التقليدية لمعرفة ما إذا كانت مستمدة من التجربة أم لم تكن كذلك. وإحدى المفاهيم التي قدمها لهذا الفحص التجريبي هي فكرة السببية.

اقرأ أيضًا: الصوفية الحقيقة ليست تجارب خارقة للطبيعة

قانون السببية

قانون السببية هو العلاقة بين العلة والمعلول، أو بين السبب والنتيجة. وهذا القانون يشير إلى أن كل شيء يحدث لابد له من علة أو سبب. على سبيل المثال إذا كان هناك كرتين من كرات البلياردو أحدهما سوادء والأخرى بيضاء. فإذا دحرجت كرة البلياردو السوداء لتصطدم بالكرة البيضاء الساكنة؟ ماذا سيحدث للأخيرة؟ بكل تأكيد ستتحرك الكرة البيضاء. لكن لماذا؟ لأنها تلقت دفعة من الكرة السوداء. ولذلك فإننا نقول أن دفعة الكرة السوداء هي سبب (أو علة) تحرك الكرة البيضاء. ولكن تذكر أننا لا نستطيع أن نتحدث إلا عما جربناه بالفعل. ولقد جربنا هذا مرات عديدة، فكل مرة نحرك فيها الكرة السوداء لتصطدم بالبيضاء ستتحرك بالتالي البيضاء، هذا أمر بديهي. إلا أن هيوم سيقول إن الشيء الوحيد الذي جربته هو أن الكرة البيضاء تبدأ في التدحرج على المائدة ولكنك لم تجرب العلة التي سببت الحركة. لقد جربت حدثاً يأتي بعد حدث.

مثال توضيحي

لتبسيط الأمر بشكل أفضل مع مثال. عندما ألمس النار (الانطباع 1) أشعر بألم في إصبعي (الانطباع 2). نعتقد أن أحد الإدراكين هو سبب الآخر (أي أن إصبعي يؤلمني لأنني لمست النار) عندما نعتقد أنهما تصوران يجب بالضرورة أن يسيران معاً. وسيكون من السخف الاعتقاد بأنه ربما يوماً ما سوف نلمس النار ولن نحترق، أليس كذلك؟ هذا هو مفهوم السببية. لكن هيوم في فلسفته التجريبية يقول أننا نعتقد ذلك لأننا لم نجرب من قبل أن نلمس النار ولن نحترق. لذا نسرع في استخلاص النتائج. إن هيوم لم ينكر وجود قوانين الطبيعة الثابتة ولكن لما كنا لا نستطيع أن نجرب هذه القوانين ذاتها أي إذا لم نترك احتمال عدم انطباقها قائماً في الذهن فإننا قد نصل بسهولة إلى نتائج خاطئة.

إن حدوث شيء بعد شيء آخر لا يعني بالضرورة أن هناك علاقة سببية بينهما، فهذه العلاقة السببية هي السبب الرئيسي في إيمان الناس بالكثير من الخرافات. على سبيل المثال إذا رأيت قطة سوداء في الشارع ثم سقطت على الأرض وكسر ذراعك فهذا لا يعني أن رؤية القطة السوداء هي السبب في كسر ذراعك. وإذا شفي عدد من الناس بعد تناول دواء معين فهذا لا يعني بالضرورة أن هذا الدواء هو سبب شفائهم. ولذا نجد أنه عند تجريب دواء جديد يقوم العلماء بتجربة تشمل مجموعة من المرضى يوضع لبعضهم الدواء الحقيقي والبعض الآخر دواءً وهمياً، فإذا شفي الجميع فلابد أن هناك سبب آخر أدى إلى شفائهم.

اقرأ أيضًا: قانون الكارما: هل يحدد مصيرنا ويتحكم في مسار حياتنا؟

مفهوم الذات في فلسفة هيوم

من المفاهيم الأخرى التي يفحصها هيوم تحت العدسة المكبرة التجريبية فكرة الذات. حيث كان التصور الكلاسيكي للذات أو هوية الإنسان على أنها جوهر يبقى بعد التغيير، ونقد هيوم لفكرة الذات مشابه لنقده مفهوم السببية. لقد تساءل في البداية إن كانت الذات فكرة بسيطة أو مركبة. فأن أعرف عن ذاتي الكثير من الصفات مثل أنني غاضب في بعض الأحيان وحزين في أحيان أخرى، كما أنني متقلب المزاج مثلاً، ناهيك عن أني قد أحمل لشخص ما مشاعر متناقضة. وقد سلم بأن فكرة الذات هي فكرة مركبة من كل ذلك.

بعد ذلك تساءل إذا كانت هذه المجموعة من الانطباعات البسيطة أدت إلى تكوين فكرتي عن “ذاتي” المركبة. هذا بالإضافة إلى أنني عرضة للتغير المستمر. فأنا اليوم لست كما كنت من سنوات مضت. إن مزاجي وفكرتي عن نفسي يتغيران من وقت لآخر. وطالمال شعر الإنسان أن ذاته تتغير، إذن فإن شعوره يكون زائفاً. والذات ما هي إلا حزمة من الإدراكات المختلفة التي تتابع بسرعة فائقة في حركة مستمرة لا تتوقف. والذهن أشبه ما يكون بخشبة مسرح تتعاقب عليها إدركات مختلفة.

وعندما تصور كثير من العقلانيين أن الأنا ثابتة لا تتغير قاموا بمد هذه الفكرة لتقودهم إلى تصور أن للإنسان روحاً خالدة. لكن في رأي فلسفة هيوم التجريبية فهذه الحقيقة التي سلم بها العقلانيون ما هي سوى فكرة زائفة. لكنه مع ذلك لم يستبعد احتمال خلود الروح كفرضية ممكنة لكنها تتعلق بالإيمان. أما إثبات الإيمان الديني بالعقل فما هو سوى هذيان عقلي على حد قوله.

اقرأ أيضًا: أفلوطين: كيف أثرت نظرية الفيض الإلهي على الديانات التوحيدية؟

مشكلة الاستقراء

في المنطق الكلاسيكي، هناك نوعان رئيسيان من التفكير الذي يمكن أن يزودنا بمعرفة جديدة: الاستنتاج والاستقراء. يتمحور الاستنتاج من استخلاص نتيجة معينة من المقدمات العامة. على سبيل المثال: كل إنسان سيموت، زيد إنسان، إذن زيد سيموت. أما الاستدلال الاستقرائي فهو المنطق الذي تستخدمه الطريقة العلمية، والتي تقوم بإجراء العديد من التجارب الخاصة لاستخلاص استنتاجات من النطاق العام. على سبيل المثال: الخشب قابل للاشتعال، لقد أحرقنا العديد من الأخشاب ورأينا أنها تشتعل جميعاً.

بناءً على كل ما تقدم يمكننا تخمين نقد ديفيد هيوم بسهولة لهذه الطريقة. وبالعودة إلى المثال السابق، يقول هيوم أنه على الرغم من أن جميع الأخشاب التي اختبرناها قد اشتعلت، إلا أننا لا يمكننا أن نكون متأكدين تماماً من أن كل الأخشاب في الكون على هذا النحو.

لنعطي مثالاً آخر: إذا لم تر في حياتك إلا غرباناً سوداء فليس معنى هذا عدم وجود غراب أبيض. لذا فإن مهمة العالم والفيلسوف هو ألا يستبعد العثور على غراب أبيض وأن البحث عن الغراب الأبيض يجب أن تكون مهمة العلم الأولى. صحيح أن عدداً كبيراً من الغربان السوداء، قد يمنحنا أرضية معرفية مستقرة نسبياً لإصدار مثل هذا البيان العام، لكن أليست قفزة كبيرة جداً لتقديم مثل هذا الادعاء عن جميع الغربان؟

اقرأ أيضًا: فلسفة سينيكا: كيف تحقق أقصى استفادة من الحياة؟

فلسفة الأخلاق عند هيوم

"<yoastmark

إن التجريبية المعرفية لديفيد هيوم لها نتائج عميقة وملحوظة في المجالات الفلسفية مثل الأخلاق وعلم الجمال. حيث انتقد هيوم التفكير العقلاني في فلسفة الأخلاق. حيث أكد العقلانيون دوماً على قدرة العقل الإنساني على تمييز الحق من الباطل. لكن هيوم لا يرى أن العقل هو الذي يقرر ما نقوله أو ما نفعله دائماً، بل المشاعر والعواطف. يتمثل حل هيوم في وضع المشاعر (التي يمكن أن نعيشها والتي نمتلك خبرتها) كمصدر معرفي فيما يتعلق بالأخلاق والفنون. فإذا قررت أن تساعد شخصاً محتاجاً فأنت تفعل ذلك بدافع شعورك لا بدافع من عقلك. وإذا لم ترغب في مساعدة هذا الشخص فهذا الموقف أيضاً يتعلق بالشعور لا بالعقل. ربما يكون موقفاً هذا بغيضاً أو مكروهاً لكن لا يمكن وصفه أبداً بأنه غير عقلاني.

يرى ديفيد هيوم أن كل البشر يحملون عاطفة تلقائية إزاء خير الآخرين. حيث لدينا جميعاً القدرة على إظهار التعاطف والمحبة، ولكن ذلك لا علاقة له بالعقل، فمن منظور عقلي بحت من المفيد في بعض الأحيان قتل شخص مزعج. فهذه الفكرة معقولة ولا بأس بها ولكن ما الذي يمنع فعلها؟ سيجيب البعض: لأن هذا الشخص يريد أن يعيش أيضاً، ولذلك لا يجب قتله. لكن هل هذا برهان منطقي؟

إن كل ما فعلته بهذه الإجابة هو أنك استخلصت من عبارة وصفية هي “هذا الشخص يريد أن يعيش أيضاً” نتيجة أو عبارة معيارية وهي “ولذلك لا يجب قتله”. وهذ أمر مخالف للتفكير المنطقي. وهي تشبه إلى حد ما قولك أن الكثير من الناس يحتالون على الضرائب إذن يجب أن أحتال أنا أيضاً.   

العقل والعاطفة

هناك جملة كتبها ديفيد هيوم تقول: “العقل يجب أن يكون فقط عبداً للعواطف”. ماذا تعني هذه العبارة الشهيرة المبتذلة والمفسرة بشكل خاطئ؟

في مجال الأخلاق تشير هذه العبارة إلى أن الاعتماد على العقل سيؤدي إلى هلاك البشرية، فلا يجب أن نتخذ من العقل مقياساً يدلنا على ما يجب فعله. إن السلوك المسؤول لا يتعلق بتقوية ملكاتنا العقلية بل بتعميق مشاعرنا وعواطفنا تجاه خير الآخرين.

لتبسيط المسألة: قتل النازيون الملايين من البشر. فهل يمكن أن نقول أن الخطأ كان في عقل النازيين ومنطقهم أم في مشاعرهم وعواطفهم؟ الأكيد أن الخطأ كان في مشاعرهم وعواطفهم، فلقد كان الكثير منهم شديدي الذكاء. وليس من النادر أن تجد خلف أقسى القرارات وأكثرها فظاظة حسابات عقلية باردة. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أُدين كثير من النازيين، فهل تمت إدانتهم لأنهم تصرفوا بطريقة غير منطقية أم لغلاظة قلوبهم.

ربما يمكن أن تبرأ المحكمة شخصاً ارتكب جريمة شنعاء لإنه مريض عقلياً، وبالتالي غير مسؤول عن أفعاله. ولكن لم يحدث قط أن بًرىء شخص من جريمة ارتكبها لأنه كان فاقد الحس أو عديم الشعور. مثال آخر: أدى إعصار إلى الإضرار بالملايين من البشر، فإن مشاعرنا هي التي ستقرر ما إذا كنا سنهب لمساعدتهم أم لا. فإذا كنا قساة القلوب وتركنا كل شيء لحكم العقل فربما تصورنا إنه ليس من السيء أن يموت ملايين البشر في عالم تهدده الزيادة السكانية. ومن هنا ندرك لماذا قال هيوم يجب على العقل أن يكون عبداً للعواطف.

اقرأ أيضًا: فلسفة أنبادوقليس ونظرية العناصر الأربعة في الفلسفة

نقد الدين في فلسفة هيوم

لم يكن ديفيد هيوم مؤمناً بالمسيحية كما إنه لم يكن ملحداً، بل كان لا أدرياً. واللا أدري هو من يعتقد أن وجود الله لا يمكن إثباته أو نفيه. ولا تسمح لنا تجريبية هيوم بتأكيد وجود الله، لأنه إذا كانت كل المعرفة مستمدة من التجربة، فكيف يمكننا إذن أن نبني الإيمان على كائن ليس لدينا انطباع عنه؟ فالشخص الذي لم ير الذهب قط لن يستطيع أبداً أن يتخيل شارعاً من الذهب.

إننا نتخيل أن الله “كائن ذكي وحكيم ورحيم” بلا حدود. إذن لدينا “فكرة مركبة” عن الله تتآلف من الذكاء والحكمة والرحمة. فإن لم نكن اختبرنا من قبل هذه الصفات ما استطاعنا أن نكون هذه الفكرة عن الله. ويمكن الاعتراض على ذلك بأن تجربة المعجزات الخارقة للطبيعة هي خبرة الله على الأرض. وهي الأثر الحقيقي للجوهر الإلهي.

يعتقد ديفيد هيوم أن المعجزات هي نتيجة العقل البشري وقدرته على رؤية أشياء لم توجد. إنه لم ينكر أن المعجزات ممكنة الحدوث، إلا أن هذا لا يعني في المقابل إنه كان يؤمن بها. لقد لاحظ أن الناس يشعرون فيما يبدو باحتياج قوي إلى ما نسميه اليوم بالخوارق أي تلك الأحداث التي لا تخضع لقوانين الطبيعة. غير أن المعجزات التي سمعنا بها حدثت دوماً في مكان بعيد وإما في زمن قديم غابر. لكن هيوم لم ينكر المعجزات إلا لأنه لم يجرب أي معجزة منها. لكنه في الوقت حتى وإن لم يجربها فهذا لا يعني أن المعجزات لا يمكن أن تحدث أبداً.

إن المعجزة هي خرق لقوانين الطبيعة، ولكن لا معنى للزعم بأننا جربنا كل قوانين الطبيعة. لقد اختبرنا أن الحجر يسقط على الأرض إذا قذفناه إلى أعلى، ولكن إذا لم يسقط يكون هذا أيضاً أمراً جديداً نجربه كذلك. وعندما نلاحظ حدثاً نعتقد أنه لا يُصدق، لكن كيف يمكننا التأكد من أنه ليس حدثاً طبيعياً، ولأنه نادر، فإننا لا نعرف أسبابه أو أنه ببساطة جديد علينا؟

دعونا نفكر في الكسوف، على سبيل المثال. من السهل رؤية طابعها الفريد ومدى سهولة اعتقاد العقل البشري غير المرئي أنه ناتج عن معجزة وشذوذ، لكن ما يحدث في الواقع لا يخرج عن مجرى قوانين الطبيعة.

اقرأ أيضًا: التوحيد والآلهة المتعددة بين ديفيد هيوم والشيخ محي الدين بن عربي

أقوال ديفيد هيوم

  • لا شيء أكثر حرية من الخيال البشري.
  • جمال الأشياء موجود في الروح التي تتأملها.
  • كل حل يؤدي إلى طرح سؤال جديد.
  • تتطلب المطالبات غير العادية أدلة غير عادية.
  • يمكننا تغيير اسم الأشياء، لكن طبيعتها وأفعالها في العقل لا تتغير أبداً.
  • الإنسان كائن عقلاني ويبحث باستمرار عن السعادة التي يأمل في تحقيقها من خلال إرضاء بعض العاطفة أو المشاعر.
  • إن جهلنا بالسبب الحقيقي لحدث ما سيكون له نفس التأثير على الفهم وسيولد نوعاً مشابهاً من الاعتقاد أو الرأي.
  • ستحافظ الطبيعة دائماً على حقوقها، وستتغلب في النهاية على أي تفكير مجرد.
  • الوظيفة الصحيحة للدين هي تنظيم قلوب البشر، وإضفاء الطابع الإنساني على سلوكهم، وغرس روح الاعتدال والنظام والطاعة.
  • إذا لم نبدأ من حقيقة موجودة في الذاكرة وفي الحواس، فسيكون منطقنا مجرد افتراض.
  • الدين البدائي للبشرية مصدره الرئيسي الخوف المقلق من المستقبل.
  • العقل محدود للغاية وغير معصوم، ولا يمكنه دعم أي من معتقداتنا على وجه اليقين.
  • يمكن للعقل تحسين حياتنا من خلال مساعدتنا في تقييم الأفكار والابتعاد عن الأكاذيب والخرافات.

في الختام لا يسعنا سوى القول بأن تأثير فلسفة هيوم التجريبية وأسلوبه المتميز في الكتابة كان عظيماً على عقل ووجدان كثير من الكتاب والفلاسفة في العالم. ولازالت فلسفته حاضرة بشكل كبيرة في الطريقة العلمية حتى وقتنا الحالي.

المراجع:

1.       Author: Morris, William Edward and Charlotte R. Brown, (2/26/2001), David Hume, www.plato.stanford.edu, Retrieved: 12/16/2022.

2.       Author: Jonny Thomson, (9/21/2021), Which philosopher had the strongest arguments, www.bigthink.com, Retrieved: 12/16/2022.

3.       Author: Maurice Cranston, (10/28/2022), David Hume, www.britannica.com, Retrieved: 12/16/2022.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!