
في دهاليز العقل البشري، تتجلى معضلة أبدية بين المصلحة الذاتية والقيم المشتركة، حيث يواجه الإنسان امتحانًا أخلاقيًا يتطلب منه اختيار الطريق: أيتعاون مع الآخرين أم يخونهم لتحقيق مكاسب فردية؟ هكذا تقدم لنا معضلة السجين صورة مصغرة عن تعقيد العلاقات الإنسانية، وتفتح نافذةً عميقة على طبيعة القرارات التي نشكل بها عالمنا. في كل اختيارٍ نخوضه، نقف على حافة احتمالات: هل نثق؟ هل نخون؟ وهل يمكن أن تكون الخيانة أحيانًا الخيار العقلاني؟ من هنا، تبدأ القصة، ليس فقط كمسألة رياضية أو اقتصادية، بل كدرسٍ وجودي يعكس طبيعتنا كبشر..
ما هي معضلة السجين؟
معضلة السجين هي مشكلة تنتمي إلى نظرية الألعاب التي تجمع بين مجالي الاقتصاد والرياضيات. صاغ هذه المعضلة وحللها لأول مرة عالم الرياضيات الكندي ألبرت وليم تاكر في عام 1950. الصياغة الأكثر شيوعًا لهذه المعضلة كالتالي:
تعتقل الشرطة اثنين من المشتبه بهما في جريمة.. لا توجد أدلة كافية لإدانتهما، وبعد فصل كل سجين منهما في زنزانة مختلفة، يزور المحقق واحدًا تلو الآخر، ويعرض عليهما الصفقة نفسها:
- إذا اعترفت وبقى شريكك صامتًا، سيُدان هو بالعقوبة الكاملة، وهي 10 سنوات، بينما يُطلق سراحك..
- إذا اعترف شريكك وبقيت أنت صامتًا، ستُدان أنت بالعقوبة الكاملة، وسيخرج هو حرًا..
- إذا التزم كلاكما بالصمت، لن يكن لدينا إلا أدلة كافية لاحتجازكما 6 أشهر فقط بتهمة أقل خطورة..
- أما إذا اعترف كلاكما، فسيُحكم على كل منكما بالسجن لمدة 6 سنوات..
السجين “أ” يخون شريكه “ب” | السجين “أ” مخلص لشريكه “ب” | |
سجين “ب” يخون شريكه “أ” | السجينان (أ) و (ب) محكوم عليهما بالسجن لمدة ست سنوات | الحكم على السجين “أ” بالسجن لمدة عشر سنوات، وإطلاق سراح السجين “ب” |
سجين “ب” مخلص لشريكه “أ” | الحكم على السجين “ب” بالسجن لمدة عشر سنوات، وإطلاق سراح السجين “أ” | السجينان (أ) و (ب) محكوم عليهما بالسجن لمدة ستة أشهر لكل منهما |
التعاون والخيانة
في هذه المشكلة، يجد كل سجين نفسه مدفوعًا للاعتراف، لكن المفارقة تكمن في أنه إذا تعاونا معًا وصمتا، فسيحصل كلاهما على فائدة أكبر. إذا خاطر أحد السجينين واختار الصمت، فقد يُحكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات بينما يخرج شريكه حرًا. من الواضح أن المخاطرة بالصمت لا تبدو منطقية. الحل لهذا المأزق هو أن الاعتراف وخيانة الشريك يُعتبران الخيار الأكثر عقلانية، حيث يضمن ذلك عدم التعرض لأقصى عقوبة (10 سنوات)، مع احتمال الحصول على أفضل نتيجة (الحرية) إذا لم يعترف الشريك الآخر.
المشكلة هي أن الشريك الآخر غالبًا ما سيفكر بالطريقة نفسها، ويخون بدوره. ونتيجة لذلك، يُحكم على كلا السجينين بالسجن 6 سنوات. بينما لو تعاونا واختارا الصمت، لكانت العقوبة 6 أشهر فقط. لكن السؤال يبقى: من سيجازف بالالتزام بالاتفاقية دون أن يخشى خيانة شريكه، وينتهي به الأمر إلى تحمل عقوبة 10 سنوات؟
تكشف هذه المعضلة عن هشاشة العلاقات القائمة على التعاون، خاصة عندما تكون الفوائد الناتجة عن عدم التعاون كبيرة جدًا. حيث يشعر السجين بالإغراء لخيانة شريكه خوفًا من أن يكون الشريك قد خانه بالفعل. والجدير بالذكر أن استخدام مثل هذه الأساليب في التحقيقات الشرطية محظور في كثير من البلدان، لكن ضمان عدم تطبيقها في الواقع يكاد يكون مستحيلًا. كما يفسر هذا المأزق السبب وراء تراجع الناس عن الالتزامات والتعاون في الظروف القصوى (مثل التعذيب أو التهديدات التي تطال عائلاتهم)..
العواقب الأخلاقية لمعضلة السجين
الخلاصة الرئيسية لمعضلة السجين هي أنه في نظام تكراري، يكون الخيار الأفضل هو التعاون. لكن في عالم يميل فيه الجميع إلى التعاون، سيظهر أفراد يستغلون هذا الميل لتحقيق مصلحتهم الخاصة. إذا اتجه الجميع للتعاون، فإن من يستغل هذه الحالة بعدم تعاونه سيُكافأ؛ لكن على الجانب الآخر، فإن وجود عدد مفرط من العناصر غير المتعاونة سيدمر نظام التعاون ويجعل عدم التعاون أكثر منطقية. هذا النمط ربما كان أحد العوامل التي سمحت بظهور الحس الأخلاقي.. لنوضح ذلك بمثال:
“قبيلتان بدائيتان تتكون كل منهما من عشرين فردًا. الأسلوب الشائع في إحداهما هو القائم على عدم التعاون، في حين تعتمد الأخرى على التعاون”..
يوضح المثال أن التعاون هو العامل الذي يسمح ببقاء قبيلة في مواجهة الأخرى، لأنه في معركة البقاء، أي القبيلتين لديها فرص أكبر للبقاء؟ القبيلة المتعاونة بطبيعة الحال. ومع ذلك، لا يعني هذا أنه لن يظهر في القبيلة المتعاونة أفراد يستغلون التعاون بشكل طفيلي. بالنسبة للفرد، هذه هي المواقف المحتملة مرتبة من الأفضل إلى الأسوأ:
- الأول: أن يتعاون أفراد قبيلته ولا يتعاون هو.. يضمن بقاءه ويحصل على مستوى معيشة أفضل.
- الثاني: أن يتعاون هو وأفراد قبيلته.. يضمن البقاء ويحصل على مستوى معيشة متوسط.
- الثالث: لا يتعاون أحد.. وفي هذه الحالة تكون فرص بقاء القبيلة وبقائه في خطر، لكنه لا يُستغل من قبل أفراد المجموعة الآخرين أو من خلال العمل الإضافي للتعاون.
- الرابع: ألا يتعاون أحد في قبيلته إلا هو.. في هذه الحالة، يكون بقاء القبيلة في خطر، ولكنه في خطر أكبر لأنه مجبر على القيام بالعمل الإضافي للتعاون.
التحدي
مع الأخذ في الاعتبار أن كل فرد يسعى لتحقيق أقصى فائدة شخصية، والتي تتحقق في الخيار الأول، فمن السهل أن يميل العديد من أفراد المجموعة إلى اختيار هذا المسار. تحدث المشكلة عندما يؤدي هذا الميل الجماعي إلى الخيار الثالث، مما يهدد بقاء القبيلة وأفرادها جميعًا. كلما زاد عدد العناصر الطفيلية في نظام التعاون، زادت إغراءات الأفراد المتعاونين لتغيير سلوكهم وفقًا لاستراتيجية “واحدة بواحدة”؛ وفي الوقت ذاته، كلما قل مستوى التعاون، زادت احتمالية وقوع كارثة كاملة. تُعرف هذه الظاهرة باسم “مأساة المشاعات”..
الواقع أكثر تعقيدًا
الحياة اليومية ليست بهذه البساطة؛ لأن مصفوفة المدفوعات تختلف كثيرًا في الواقع، وغالبًا ما يكون من الصعب حسابها بدقة. ومع ذلك، فإن هذا الموقف يثير السؤال التالي: كيف يمكن لنظام تعاون أن يمنع انهياره الذاتي؟ يكون الحس السليم للمشاركين في النظام كافيًا في العادة، لأنهم أول المهتمين بعدم انهياره. لكن للأسف، “الحس السليم” هو أقل الحواس شيوعًا، مما يستدعي تطبيق استراتيجيات رقابة أخرى، وهو ما سنرى أدناه.
- يجب أن يكون الفرد الطفيلي في النظام ذكيًا في استغلاله له: إذا مال دائمًا إلى عدم التعاون، فسيُكتشف سلوكه من قبل الأعضاء الآخرين في النظام ويتم طرده منه. لذا يجب أن تكون السلوكيات الطفيلية عرضية وذكية، مما يحد من الضرر الذي يمكن أن يتسبب به الطفيلي لنظام التعاون.
- العامل الآخر للتحكم هو سيطرة النظام ذاته على العناصر الطفيلية: عندما يُكتشف عنصر غير متعاون، فإنه يفقد الاستفادة من مزايا التعاون، مما يجعل سلوكه غير مجدٍ بسرعة. يظهر هذا التحكم بوضوح في الاستراتيجية الفائزة “العين بالعين (Tit for Tat)حيث يكون العقاب فورياً: من يخطئ يدفع الثمن.
- العامل الأخير يتمثل في التسامح النسبي للنظام تجاه العناصر الطفيلية: وهو جزء من استراتيجية “العين بالعين” مع القدرة على التسامح. إذا تصرف النظام بصرامة مطلقة تجاه السلوك غير المتعاون، فقد يضر ذلك بالنظام نفسه لأنه لا يمنح العنصر الطفيلي فرصة لإعادة الاندماج. يؤدي ذلك إلى فقدان هذا العنصر بشكل نهائي. ومن ناحية أخرى، فإن الإفراط في التساهل مع الطفيلي قد يشجع هذه السلوكيات بين أعضاء النظام الآخرين، مما يكون له أثر سلبي أيضًا. هذا العامل معقد للغاية، حيث يصعب تحديد إلى أي مدى يجب أن تصل قدرة النظام على التسامح لتحقيق توازنه الأمثل.
الاحتمالات الأربعة
تسلط معضلة السجين الضوء على أربع نقاط مهمة للتفكير الأخلاقي:
- النقطة الأولى:
النظام التعاوني يحقق فوائد لمعظم أعضائه. لذا، من المحتمل أن تكون استراتيجيات التعاون مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتاريخ التطوري للإنسان والكائنات الأخرى. - النقطة الثانية:
يُدمّر النظام التعاوني إذا لم يتضمن آليات للتحكم في العناصر الطفيلية التي تستغل التعاون. - النقطة الثالثة:
آليات التحكم في الطفيليات داخل النظام التعاوني يجب أن تسمح بإعادة دمج العناصر الطفيلية لتحسين كفاءة النظام. العقاب والمغفرة وجهان لعملة واحدة في الأنظمة التعاونية. - النقطة الرابعة:
النظام التعاوني يجب أن يقبل بمستوى معين من الطفيليات باعتباره أمرًا لا مفر منه. ومع ذلك، فإن تحديد المستوى المقبول من الطفيليات أمر صعب للغاية.
أمثلة على معضلة السجين في الحياة الواقعية
هناك العديد من الأمثلة في التفاعلات البشرية والطبيعية التي تتضمن معضلة السجين، لذا تعتبر هذه المعضلة ذات أهمية كبيرة للعلوم الاجتماعية مثل الاقتصاد[1] والسياسة وعلم الاجتماع، وأيضًا للعلوم البيولوجية مثل علم السلوك والبيولوجيا التطورية.
في السياسة
تُستخدم معضلة السجين لشرح مشكلة سباق التسلح بين دولتين. كلا الدولتين أمام خيارين: زيادة الإنفاق العسكري أو الاتفاق على تقليل التسلح. ولكن لا يمكن لأي منهما أن يثق تمامًا بأن الدولة الأخرى ستلتزم بالاتفاق. لذا، يميل الطرفان إلى التوسع العسكري. المفارقة هنا أن كلتا الدولتين تتصرفان بعقلانية من وجهة نظر فردية، لكن النتيجة النهائية غير عقلانية على الإطلاق.
في الرياضة
مثال آخر مثير للاهتمام هو ما يحدث في سباق الدراجات مثل “طواف فرنسا”. يحدث أحيانًا أن يبتعد دراجان عن باقي المتسابقين. ولكي يحافظا على تقدمهما ويمنعا المجموعة من اللحاق بهما، يحتاجان إلى التعاون. يعني التعاون هنا أن يتناوبا على القيادة في المقدمة، لأن الدراج الذي في المقدمة يتحمل مقاومة الرياح أكثر، بينما يكون الدراج الآخر خلفه في وضع أسهل. لكن تكمن المشكلة إذا رفض كلاهما التعاون، وترك كل واحد الآخر يقود، ستقل سرعتهما، وستلحق بهما المجموعة بسرعة. وإذا قرر أحدهما أن يقوم بكل العمل (يقود طوال الوقت)، سيبقى الاثنان بعيدين عن المجموعة، لكن الدراج الذي يستفيد من البقاء خلفه (ولا يبذل مجهودًا كبيرًا) سيكون في وضع أفضل للفوز في النهاية..
في القضاء
يشكل الاستنتاج النظري لمعضلة السجين سبب حظر التسويات القضائية في كثير من البلدان. في مثل هذه الحالات، يطبق سيناريو معضلة السجين: من مصلحة كلا المشتبه بهما أن يعترفا ويشهد كل منهما ضد الآخر، حتى لو كانا بريئين. وتزداد المشكلة سوءً إذا كان أحدهما فقط مذنبًا: من غير المحتمل أن يعترف البريء، بينما يميل المذنب إلى الاعتراف والشهادة ضد البريء.
تقدم لنا معضلة السجين نموذجًا يعكس بوضوح التحديات الناتجة عن انعدام الثقة بين الأطراف، وتأثير الأنانية على التعاون. تُظهر لنا أن القرارات التي تبدو عقلانية على المستوى الفردي قد تؤدي إلى نتائج كارثية على المستوى الجماعي، مما يجعلها أداة قوية لفهم السلوك الإنساني والنظم التعاونية في مختلف المجالات[2].
استراتيجيات اللعب في معضلة السجين المتكررة
درس روبرت أكسلرود معضلة السجين المتكررة، حيث يختار المشاركون استراتيجياتهم بشكل متكرر مع وجود ذاكرة للنتائج السابقة. دعا أكسلرود باحثين من جميع أنحاء العالم لتطوير استراتيجيات برمجية آلية للمنافسة في بطولة معضلة السجين المتكررة. وقد اختلفت هذه البرامج في تعقيدها، من حيث العدوانية الأولية، والقدرة على التسامح، وغيرها من العوامل[3].
وجد أكسيلرود أنه عندما تكررت هذه المواجهات على مدى فترة طويلة من الزمن مع العديد من اللاعبين، كل منهم لديه استراتيجيات مختلفة.. حققت الاستراتيجيات “الأنانية” نتائج أسوأ على المدى الطويل، في حين كانت الاستراتيجيات “الإيثارية” أفضل، حتى عند تقييمها من منظور المصلحة الذاتية فقط. وقد استخدمت هذه النتائج لإظهار آلية محتملة لشرح ما كان في السابق نقطة صعبة في النظرية التطورية: كيف يمكن أن يتطور السلوك الإيثاري من آليات أنانية بحتة في الانتقاء الطبيعي؟[4]
كانت الاستراتيجية الأفضل من بين الاستراتيجيات المقدمة هي استراتيجية “العين بالعين”.. لقد كان أبسط البرامج المقدمة وهو البرنامج الذي فاز في المسابقة. تعتمد هذه الاستراتيجية على التعاون في الجولة الأولى، ومحاكاة تصرف الخصم في الجولة السابقة. وأظهرت دراسة أكسلرود أن النسخة المعدلة من هذه الاستراتيجية والتي تشتمل على القدرة على التسامح كانت أفضل قليلًا. تضيف هذه النسخة إمكانية التسامح العشوائي بنسبة صغيرة (1% إلى 5%) عند خيانة الخصم، مما يسمح بتجنب الدخول في دوامة مستمرة من الخيانات المتبادلة.
أسباب نجاح استراتيجية “العين بالعين”
أكد أكسلرود أن نجاح هذه الاستراتيجية نجحت لسببين: أولًا أنها لطيفة تبدأ بالتعاون، ولا تبدأ دورة خيانة أبدًا، وتستجيب بالمثل، مما يجعلها عادلة في تعاملها مع اللاعبين الآخرين. وثانيهما الوضوح والبساطة، حيث تعاقب الخيانة فورًا، لكنها تعيد التعاون عند استئنافه من قبل الخصم. هذا السلوك الواضح يجعل من السهل على الخصوم فهم منطقها والعمل معها.
معضلة السجين ليست مجرد لعبة فكرية تُحل على الورق، بل هي مرآة تُبرز هشاشة العلاقات البشرية عندما تقف أمام اختبار المصالح. إنها دعوة للتأمل في جذور الأخلاق وفي قيمة التعاون الذي يضيء العتمة التي تتركها الخيانة. فكما تتمايل سفينة السجين بين أمواج المصلحة والأمانة، يتمايل كل مجتمع بين بناء جسور الثقة وهدمها. قد نكون في نهاية الأمر أسرى قراراتنا، لكن فهمنا لهذه المعضلة يمنحنا فرصة لتحرير أنفسنا من سجون الأنانية، لنختار معًا طريقًا يقودنا إلى عالمٍ أفضل، حيث تنتصر الإنسانية على الحسابات الضيقة..
مراجع
[1] نظرية الألعاب والسلوك الاقتصادي – جون فون نيومان.
[2] لماذا تعتمد على الحظ؟: فن وعلم اتخاذ القرارات الصائبة – هارولد دبليو لويس – ترجمة نهلة الدربي وشيماء طه الريدي.
[3] نظرية الألعاب: مقدمة قصيرة جدًّا – كين بينمور – ترجمة نجوى عبدالمطلب.