الثرثرة: حكايات عابرة على هامش الحياة
لماذا نتحدث كثيرًا؟ هل نهرب من أنفسنا أم نبحث عن وجودنا؟

في عالمٍ تضجّ فيه الأصوات، تكاد الثرثرة تكون نبضه المستمر.. دقات لا تهدأ، تتنقل بين فراغات الوقت كعصافيرٍ تائهة تبحث عن مأوى. الثرثرة هي أحاديث لا غاية لها، لكنها تملأ الفراغ، كالمطر الذي يهطل بلا موعد. أحيانًا تكون الثرثرة موسيقى خفيفة ترفق بوحشة الصمت، وأحيانًا تتحول إلى عاصفة تبتلع المعنى وتحجب الرؤية. وبين حديثٍ يُقال وحديثٍ يُنسى، تتجلى أسئلة الحياة: لماذا نتحدث كثيرًا؟ هل نحن نهرب من أنفسنا أم نبحث عمَن يسمعنا لنحقق وجودنا؟
مجرد حكايات
مَن منا لم يلتقِ بأحد هؤلاء الأشخاص الذين يتحدثون باستمرار عن أنفسهم دون أن يستمعوا. أولئك الذين يتحدثون بنهم حقيقي، ويشغلون كل المساحة ولا يتركون مجالًا لرد الآخر؟ إنهم خونة التبادل العادل، طفيليون الزمن، ممتصون الصبر. نشعر مع هؤلاء وكأننا ضحية لإساءة أو عنف، فهم يلغون وجودنا… كانت والدتي دائمًا مستمعة فعّالة، ولديها صديقة محترفة في الثرثرة الأنانية، وقد كانت تغضب إذا قاطعها أحد؛ في أحد الأيام أخبرتها أنها قضت ساعات تضايق شخصًا آخر، لكنها لم تهتم، لأنها “شعرت بتحسن كبير”. ربما كانت تتحدث لكي لا تضطر إلى الاستماع إلى نفسها.
وبغض النظر عن النرجسية المتجذرة، وربما البدائية، أو العصابية التي تظهرها هذه الأشخاص، وبغض النظر عن تحويلنا إلى أشياء من خلال معاملتنا كأدوات لقيئهم الوجودي، يتساءل المرء إذا لم يكونوا يجسدون بطريقة متطرفة وغريبة سمة تميزنا جميعًا وتثير دهشتي دائمًا: حاجتنا إلى الشرح والتواصل، وتفريغ الحوار الداخلي الذي نجريه مع أنفسنا أمام الآخرين. على مستوى أقل من تلك الحالات المتطرفة، تتكون معظم المحادثات تقريبًا من تبادل قصص السير الذاتية، وغالبًا ما يكون الرد على أحد تلك الحكايات هو مجرد حكاية أخرى لا تضيف شيئًا جديدًا وبالتأكيد لا ترد على ما قيل سابقًا. نحن نتبادل التجارب كما نتبادل البطاقات؛ نكشف أنفسنا باستمرار في مرآة الآخرين. يقول أحدهم “أنا…”، وعادة ما يرد شخص آخر، كصدى: “وأنا…”
أسباب الثرثرة وكثرة الحديث
ما سبب هذه الحاجة إلى التباهي؟ لماذا نحتاج إلى أن يجعلنا الآخرون دائمًا موضوعًا لاهتمامهم؟ لم يشعر معظم الناس بالحاجة لطرح هذا السؤال على أنفسهم أبدًا.. وحقيقة أنني أطرحه على نفسي تكشف عن الكثير حول صعوباتي الخاصة في التواصل. عندما تكون هناك صداقة وثقة، يتدفق الحوار المتبادل بشكل طبيعي. ولا أحد يتوقف ليفكر في الأمر، مثلما لا نفكر في الحب بينما نحب أو في التنفس بينما نتنفس. إن حقيقة أنني أتساءل عن معنى هذا النوع من الحوار تُظهر أن هناك حجر عثرة بداخلي، وأنني لا أتفاعل معه بعفوية، وأنني أشعر بعدم الارتياح الذي يكسر هذا التدفق. وفي الواقع، وراء السؤال عن سبب حاجتنا للتحدث عن أنفسنا يكمن سؤال آخر أكثر جوهرية وأشد إزعاجًا: لماذا ينبغي أن يهتم شخص آخر بقصتي؟ وبما أنني لا أملك أسبابًا، فلماذا أبذل الجهد في سردها؟
قصتنا هي واحدة من أهم الأشياء التي نملكها. إنها مهمة بالنسبة لنا، وليس بالضرورة للآخرين الذين لديهم قصصهم الخاصة. معظمنا صارم في اختيار الوقت والأشخاص الذين نشاركهم شيئًا حساسًا وثمينًا كهذا، فنحن لا نفعل ذلك إلا في ظروف معينة، وعندما يكون هناك قدر معين من الثقة. لدينا في ملف سيرتنا الذاتية الكثير من القصص المصنفة من الأكثر قابلية للنشر إلى الأكثر سرية، وربما يوجد أيضًا مجلد خفي نحتفظ فيه بما لن نخبر به أحدًا أبدًا، وربما حتى أنفسنا، لأنه يثير فينا الكثير من الخجل أو الخوف. لكن معظم قصصنا قابلة للنشر، مع مراعاة لمن نرويها وفي أي وقت.
رواية قصص حياتنا
القصص التي تبدو لنا تافهة هي بمثابة النكات؛ مجرد وسيلة لتمضية الوقت، أو لإجراء محادثة اجتماعية بسيطة: المكان الذي زرناه في الإجازة، الفيلم الذي شاهدناه في السينما… وإذا كنا نتحدث مع مجموعة من الأصدقاء في جو مريح، ربما حول طاولة، فقد نتحمس لسرد اليوم الذي انزلقنا فيه في الشارع أو المزحة التي جعلتنا نتعرض للعقاب من والدتنا. نحتفظ بمواضيع أكثر حميمية مثل القلق على أطفالنا أو الخلاف مع شريكنا لمواقف أكثر خصوصية. وفي محادثة سرية مع صديق مقرب، نعترف بخيانة زوجية، أو خوف من شيء ما يطاردنا. ولكن الشيء المدهش هو أن جميع تجاربنا، بطريقة أو بأخرى، تطالب بأن تُروى، تُدفع من داخلنا للخروج من ملفاتنا الصامتة لتُعرض أمام شخص آخر. وكأنها لا تكتسب وجودًا حقيقيًا إلا عندما تخرج إلى النور، عندما تخرج من أفواهنا، عندما تُعرض أمام جمهور.
ربما يكون الأمر كذلك: لا يوجد شيء إلا إذا كان مرئيًا. في الاستعراض، هناك حاجة وجودية ملحة، محاولة يائسة للتغلب على هشاشة الحياة. حقيقة أننا ندرك أنفسنا كـ”ذوات” تحمل في طياتها هذه الهشاشة، لأن الذات هي بناء عقلي، فنحن لسنا متأكدين تمامًا من وجودها بالفعل، لذا نرغب في أن يُنظر إلينا، أن يتم التعرف علينا، أن نُؤكّد من قبل الآخرين. عندما نعبر عن أنفسنا من خلال قصصنا، نسعى جميعًا إلى نفس الشيء: من يستمع إلينا يعزز وجودنا؛ إنه شاهدنا. الأطفال يطالبون بإصرار أن يتم الاستماع إليهم، وفي هذا الفعل يطلبون أن يتم رؤيتهم. قصصنا تثبت الأحداث التي تشكل تاريخنا، وعندما يكون لدينا تاريخ، نكون موجودين. أو بالأحرى، عندما نمثل تاريخنا: نحن كائنات مسرحية، ونحتاج إلى جمهور؛ نكتسب وجودنا الحقيقي أمام الجمهور.
شبكة من التعاطف
لكن هناك شيء أعمق. إذا انطلقنا من القناعة بأن طبيعتنا الأساسية هي اجتماعية وليست فردية، يمكننا أن نفهم أن التبادل الاجتماعي، وتكوين الروابط، وتدفق المعلومات يشكل اللقاء، ويؤسس المساحة المشتركة التي نلتقي فيها مع الآخرين. تنسج القصص شبكة من التعاطف، وهي المادة التي تُبنى منها العلاقات. تخلق القصص المجتمعات، مما يعني أننا نعيد خلق أنفسنا، لأننا نكون بقدر ما نكون جزءًا من مجتمع.
قد يعتقد البعض أن أي فعل من أفعال التواصل، حتى لو كان تلاوة تعريف من قاموس، يمكن أن يؤدي نفس الوظيفة. وهذا صحيح بطريقة ما، طالما أن هناك مرسلًا ومستقبلًا فهناك نوع من التواصل. لكن تواصل بارد، مجرد وجود لا يثير المشاعر، مجرد فعل تقليدي أو تأكيد بسيط: أنا هنا وأنت هنا. وهذا لا يكفي؛ نحن بحاجة إلى أن نكون، ولكي نكون، نحتاج إلى مشاعر، نحتاج أن نتأثر بقصصنا وقصص الآخرين.
العلاج بالكلام
الكلام، بهذا المعنى، هو علاج. عندما نُخرج ملفاتنا الأكثر سرية ونتشاركها مع صديق مقرب، فإننا نمنح أنفسنا فرصة لتضميد الجروح القديمة التي لم تلتئم بعد، تلك التي اضطررنا إلى إخفائها في أعماقنا حتى تؤلمنا أقل وتتيح لنا التعامل مع متطلبات البقاء. بقاء هذه الجروح في داخلنا، حتى لو نسيناها، لا يعني أنها توقفت عن المطالبة بلحظتها؛ وهذه اللحظة تأتي فقط عندما نشاركها.
اللغة في هذا السياق تحمل صورة قوية: الإحساس هو “إخراج” أو “تفريغ” شيء كان يؤلمنا في داخلنا. من الطبيعي أن تحاول العلاجات خلق السياق المناسب لهذه التنقية، وغالبًا ما يتم ذلك إلى حد كبير عبر الكلمات (رغم أن الحديث وحده قد يكون غير كافٍ في كثير من الأحيان، على عكس ما يدعي المحللون النفسيون). من الواضح أنه لا يمكن أن يتم الشفاء بدون مواجهة الأشباح القديمة. الحديث عنها هو بداية مواجهتها. حقيقة أننا غالبًا ما نضطر إلى الدفع مقابل أن نتحدث تعكس مدى افتقار مجتمعنا للتواصل.
الثرثرة وتأكيد الذات
وهكذا، فإن الحديث عن أنفسنا هو تأكيد للذات؛ والاستماع إلينا هو تأكيد لوجودنا. وبفضل هذا المعجزة التي هي اللغة، نشعر بأننا أصبحنا أكثر واقعية قليلًا. بالإضافة إلى ذلك، نشعر بالانفعالات ونتأثر بمشاعر الآخرين، مثل اللمسة، مثل العناق. نحن لا نتحدث كثيرًا لأننا نهتم بمحتوى ما نقوله، بل لأننا نبحث عن شهود وشركاء. لأن أن نُسمَع يعني أن نُحب، وأن نُحب يعني أن نكون موجودين ونكون جزءًا من القبيلة، أن نكون أقل وحدة. الشخص الذي يستمع إلينا يمنحنا مكانًا، يخصص لنا وقتًا، ويعطينا شيئًا من الأهمية. وفي وسط كون شاسع وغريب، هناك نقطة نصبح فيها شخصًا ما؛ ولسنا ضائعين تمامًا.
أما أولئك الذين يتحدثون قليلاً، فهل يعني ذلك أنهم يخافون جدًا من أن تتركهم لامبالاة الآخرين وحدهم؟ أي هل هم غير واثقين جدًا؟ وأولئك الذين لا يتوقفون عن الحديث، هل يشعرون بأنهم شفّافون إلى درجة أنهم بحاجة إلى كسب وجودهم بشكل قسري، حتى ولو على حساب وجود الآخرين؟ هناك سخاء في الحديث، لكن هناك سخاء أكبر في الاستماع.
وفي النهاية، تبقى الثرثرة مرآةً تعكس شوق الإنسان الأبدي للتواصل، لكنها في الوقت ذاته سيفٌ ذو حدين، قد يقطع مسافة البعد أو يقطع حبال الوصل. هي فنُّ اللاصمت، لكن الأجمل أن تكون كلماتنا مثل قطرات الندى، نقية، وعميقة، وهادفة. فلنختر متى نتكلم ومتى نصمت، لأن الثرثرة حين تفقد حدودها، تفقد معناها، وتتحول إلى همساتٍ عابثة تضيع في أثير الحياة.