الفروقات ما بين الحداثة وما بعد الحداثة

You are currently viewing الفروقات ما بين الحداثة وما بعد الحداثة
مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة

ظهرت الحداثة وما بعد الحداثة كمظهر من مظاهر التطور العلمي والاقتصادي والسياسي والثقافي والفلسفي. فإذا كان هناك شيء يميز أي مجتمع من المجتمعات فهو تطوره التدريجي، وتوضح الحداثة وما بعد الحداثة كيف عزز العالم الغربي التحول النموذجي بين حقبتين خلال مراحل تطوره. في السطور التالية نتعرف على هذين المفهومين، والاختلافات فيما بينهما.

مفهوم الحداثة

نشأت الحداثة في نهاية العصور الوسطى، بالتزامن مع وصول عصر النهضة، وتطورت في منتصف القرن الثامن عشر بعد الأحداث التاريخية الهامة مثل الثورة الفرنسية والثورة الصناعية، وسرعان ما انتشرت أفكارها في جميع أنحاء العالم.

قامت الحياة الاجتماعية قبل ظهور هذا التيار على أفكار وأديان معينة، نسب بها الإنسان وجوده والواقع حوله إلى كائن متعالِ، وكانت الأساطير هي الوسيلة الأبرز لتفسير الكون والعالم. وجاءت الأفكار الجديدة وأحدثت تغيراً في الأفكار سواء على المستوى الثقافي أو الفلسفي أو السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، باختصار أصبحت هذه الأفكار الجديدة موضع تقدير واهتمام حتى وصول عصر النهضة، وذلك بسبب مجموعة من الأحداث التي أثرت على تفكير الإنسان في ذلك الوقت والتي أدت إلى إلقاء نظرة على النزعة الإنسانية التي جعلت من الإنسان مركز العالم.

تبرز هذه التيارات من وجهة النظر الفلسفية على أنها التيارات الفكرية القائمة على غلبة العقل على التقاليد، والنظرة للإنسان على إنه كائن عقلاني، بعيداً عن الأنماط الموروثة من العصور الوسطى، حيث كان ينظر إلى سبب حدوث كل شيء في العالم على أنه نتيجة للنعمة الإلهية.


خصائص الحداثة

خصائص الحداثة
أهم سمات الحداثة

تضمنت الحداثة تغييرات مهمة في كل مجال من مجالات المجتمع، كونها نقطة البداية لظهور دراسات علمية مهمة موجهة إلى مكانة الإنسان قبل العالم. لكن ما هي خصائصها؟

سيادة العقل لتفسير الواقع

نُسب تفسير أصل ووجود العالم في العصور الوسطى إلى الفعل الإلهي. لكن جاءت الحداثة لتتخلي عن الأفكار الدينية وترسيخ سيادة الفكر العقلاني. حيث نُظر إلى الإنسان ككائن عقلاني منطقي. ومن هنا تم هجر الخرافات والأساطير التي سادت في تلك العصور، وحل محلها التفكير العلمي. بينما أعطى التفكير العلمي والعقلاني دفعة للاكتشافات العلمية والتكنولوجية المهمة.

تعزيز مركزية الإنسان

كانت اسهامات الفيلسوف رينيه ديكارت كبيرة جداً سواء في الفلسفة أو العلوم، حيث وضع نظام متكامل يقوم على الشك في كل شيء. وبناءً على دراساته اعتبر الإنسان مركز الكون وليس الإله، وهو المسؤول عن مصيره.

تغييرات الهيكل السياسي الإداري

تسبب تراجع النظام الإقطاعي في نشوء شكل جديد من التنظيم السياسي يقوم على فصل السلطات، وتقسيمها إلى السلطة التنفيذية والقضائية والتشريعية، وقد أدت الحداثة كذلك إلى ظهور أفكار مثل الدولة والأمة والقومية، وهي البنية التي لا تزال موجودة في جميع أنحاء العالم اليوم.

التقدم العلمي والتكنولوجي

ساهمت العديد من الأحداث التاريخية مثل الثورة الصناعية وعلمنة الفكر الأوروبي وانشاء النظم الاقتصادية الجديدة إلى إحراز تقدم كبير على المستوى العلمي والتكنولوجي.

اقرأ أيضًا: النسوية: الحركة التي غيرت نظرة المجتمعات للمرأة

تأثيرات الحداثة

أعطى الأثر الناتج عن هذه الأفكار منعطفاً هاماً في الجانب الثقافي والاجتماعي والعلمي للعالم، كما يتضح من السمات التالية:

العلوم

أحد الأمثلة الواضحة عليها هو استخدام العلوم كمجال لتفسير الواقع والعالم، وقد ساهم اتباع نموذج الفكر العقلاني والعلمي القائم على التحقيق والتجربة في دفعة قوية على طريقة التقدم من خلال لاكتشافات العلمية والتكنولوجية.

الثقافة

عززت حركة التنوير من أهمية المعرفة ونشرها، وروجت لها في منتصف القرن الثامن عشر على نطاق واسع. بدأ نشر المعرفة في فرنسا ثم انتشر في جميع أنحاء العالم، وكانت الفكرة المركزية تدور حول أنه لا يمكن تحقيق الحرية إلا من خلال المعرفة.

المجتمع

أدى ظهور أيديولوجيات جديدة إلى البحث عما يسمى بالطوباويات الاجتماعية كحل للمشاكل التي كانت تؤثر على البشرية في ذلك الوقت. وعلى الفور توسعت مبادئ المساواة والحرية والأخوة، التي تم الإعلان عنها في وقت الثورة الفرنسية، لإحداث تغييرات مهمة في البنية الاجتماعية والسياسية العالمية.

اقرأ أيضًا: الاقتصاد الأزرق: نموذج مستدام ينقذ الأرض بفضل البحار والمحيطات

مفهوم ما بعد الحداثة

ظهر مفهوم ما بعد الحداثة كرد فعل على أفكار السالفة. حيث حاول المدافعون عن مفهوم ما بعد الحداثة أن يعيدوا تعريف سلفه. ورفضوا فكرة خطية التاريخ والتقدم الحتمي، ورسخوا فكرة نسبية الحقيقة.

بدأ ظهور هذا المفهوم منذ نهاية القرن العشرين، عندما بدأت الفلسفة المعاصرة في التشكيك في عواقب الأحداث المثيرة للجدل التي سبق اختبارها. وهي مجموعة من التيارات الفكرية التي لا تعكس تغييرات العصر فقط، بل البحث الأبدي الذي لا مفر منه للبشر لاستيعاب التغييرات الجديدة في بيئتهم. ففي حين أكد بعض العلماء أنها ظهرت كنقد للأفكار السابقة، أوضح آخرون أنها نموذج سعى إلى تفكيك الحركات النظرية والفلسفية السابقة التي أثارتها سالفتها.


خصائص ما بعد الحداثة

مفهوم ما بعد الحداثة
أهم سمات ما بعد الحداثة

يوضح الجدول المقارن الآتي بوضوح الخصائص الموجودة في كل من هذه التيارات. ولكن قبل مقارنة كلا النموذجين، من الضروري أولاً معرفة الجوانب التي ميزت ما بعد الحداثة كتطور لعصر السلف وليس كحركة ضد السابقة.

المجتمع النقدي

ظهرت هذه التيارات الجديدة كنتيجة لما لفشل بعض الأيديولوجيات وكرد فعل على أحداث الحروب المختلفة والمواجهات السياسية والاقتصادية التي اتسمت بالقسوة. وقد أثارت هذه التيارات حاجة الإنسان للتعبير عن نقده للسياق الذي يعيشه.

خيبة الأمل والتشاؤم

فاقمت الأفكار التي أثارتها الحداثة المشكلات التي أثرت بشكل خطير على العالم. وكان لابد من أفكار جديدة لمواجهة الأحداث التاريخية التي ساهمت في تفشي اليأس والتشاؤم وخيبة الأمل. فظهرت أفكار جديدة لمواجهة المحاولات المتكررة للتقدم والتحرر الذي أثير في أوقات سابقة والرغبة في إيجاد أيديولوجيات جديدة بدلاً عن القديمة.

عولمة الفكر

ظهرت رؤى متعددة للواقع مع ظهور هذه التيارات. مما أدى إلى إزاحة الفكرة الفردية للإنسان والعالم ككيان منظم، وبالتالي تقييم تعددية المعرفة.

رفض ما وعد به التقدم العلمي والتكنولوجي

ما وعد به التقدم التكنولوجي والعلمي في السابق تم رفضه من قبل التيارات الجديدة، في إشارة إلى أنه لم يجلب سوى الفوضى وعدم اليقين إلى العالم. ومن الحقائق التاريخية التي تدل على هذه النقطة إطلاق القنابل الذرية على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، الأمر الذي أدى إلى نهاية الحرب العالمية الثانية بتكلفة باهظة للغاية.

الاهتمام بالبيئة

كانت الثورة الصناعية علامة فارقة في التاريخ. لكن الممارسات الصناعية تسببت باستمرار في عواقب وخيمة على البيئة، كما يمكن رؤيته في تغير المناخ والاحتباس الحراري الذي نعيشه اليوم. وهو ما دعا التيارات الجديدة إلى رفض النموذج الصناعي المدمج من مثل هذه العملية التاريخية المتعالية التي ظهرت في السابق.

اقرأ أيضًا: التراث الثقافي: التعريف والخصائص و10 أمثلة للتراث الثقافي

تأثيرات ما بعد الحداثة

أثرت التيارات الجديدة في العديد من الجوانب الاجتماعية والثقافية والعلمية، وهذا ما يتضح في السمات التالية:

الثقافة

يدرس علم الاجتماع الثقافة لمعرفة الاختلافات بين التيارين. ففي حالة ما بعد الحداثة، تم تعزيز التعددية الثقافية كأثر للعولمة التي نشأت في العقود الأخيرة.

العلوم

رفضت التيارات الجديدة التقدم المعزز في المجال العلمي – التكنولوجي، لأنه أظهر أنه لا يولد دولة الرفاهية كما وعدت به الحداثة في الأوقات السابقة، ولكنه على العكس، تسبب في آثار سلبية داخل المجتمع. على سبيل المثال، فإن فقدان الخصوصية الناجم عن تطور رقمنة المعلومات عبر الإنترنت والشبكات الاجتماعية موضع تساؤل.

المجتمع

يبحث البشر اليوم عن إجابات لوسائل جديدة للتقدم لم يجدوها في المؤسسات الاقتصادية والسياسية والدينية التي أتت من العصر الحديث. مثال على ذلك هو الحكم الصادر على الاقتصاد الرأسمالي الذي أدى إلى مجتمع استهلاكي، والذي يكتسب بشكل متزايد سلعاً زائدة عن الحاجة فقط لإرضاء الأذواق سريعة الزوال.

نقطة أخرى تم أخذها في الاعتبار في الدراسات هي التعليم. ففي حين سعت الأولى إلى تدريب رجل عقلاني لمجتمع ذي تفكير عقلاني، فإن الثانية ترفع التطور البشري على المستوى التعليمي مع التدريس القائم على الوظيفة لتلبية المتطلبات الحالية وتعزيز مهارات الطالب المعاصر.

اقرأ أيضًا: خصائص الأجيال الاجتماعية من الجيل الصامت إلى ما بعد الألفية

الفرق بين الحداثة وما بعد الحداثة

لقد أردنا استعراض الفروقات الواضحة بين كلا التيارين بصورة سريعة. ولمساعدة القارئ في فهم وتحديد هذه الاختلافات يمكنه أن يطلع إلى هذا الجدول لمقارنة كلا التيارين وتحديد الاختلافات بينهما.

الحداثة ما بعد الحداثة
نشأت لتحل محل تقاليد وأفكار العصور الوسطى والقضاء على النظام الإقطاعي نشأت كمحاولة لإثبات تحول المجتمع وتطوير الأفكار السابقة
تضع ثقتها في التصنيع كوسيلة فعالة لتقدم المجتمع تنتقد العواقب المدمرة للنموذج الصناعي الذي يظهر في الضرر البيئي الحالي
يمتاز التعليم بصلابته القائمة على بناء الفردانية يمتاز التعليم بالمرونة، وتعزيز مبادئ العولمة والتعددية الثقافية
تعزز القيم العائلية بطريقة تقليدية تعزز التحول داخل البيئة الأسرية وتأثير تغيرات البيئة الاجتماعية

 

أبرز سمات الحداثة

النشأة

ظهرت بعد انهيار النظام الإقطاعي. وكانت هناك حاجة ملحة إلى إرساء المبادئ المتعلقة بتوطيد الدولة القومية كتنظيم سياسي. وساعدت على تقسيم السلطات وفصلها كما آشرنا أنفاً.

الثقة في التصنيع

كان ظهور الثورة الصناعية يعني الأمل في تقدم البشرية. ولهذا السبب تم إنشاء النموذج الصناعي لتصحيح مشاكل المجتمع وتقوية التوازن في العالم.

التعليم الصارم

يعتمد النموذج التربوي الحديث على أساليب تعليمية تجريبية واستبدادية قائمة على عملية حفظ الصيغ والتعبيرات الرياضية والعلمية التي تساعد في إظهار الظواهر العلمية، دون مشاركة الطلاب، ويكون المعلم هو المادة الفعالة الوحيدة في العملية التعليمية.

التقاليد الأسرية

أتى مبدأ الأسرة كأساس للمجتمع من الحداثة. وتشكلت العديد من الأسر بالطريقة القديمة التي حافظت على القيم التي وضعها قادة التيارات الفكرية السابقة.

سمات ما بعد الحداثة

النشأة

لم تنشأ كاتجاه لاستبدال سابقه، ولكن لإظهار أن المجتمعات كانت تبحث عن أشكال جديدة للتقدم تتعارض مع النمط الحديث التقليدي. في الواقع، لا يزال من الممكن رؤية الممارسات الحديثة حتى يومنا هذا، على الرغم من كونها في عصر ما بعد الحداثة.

الانهيار المحتمل للنموذج الصناعي

يعكس الدمار الذي خلفه النظام الصناعي على البيئة الدعوة المستمرة التي يطلقها المجتمع الفكري الذي يدعي أن هذا النموذج ليس الأنسب لقيادة أقدار العالم.

نموذج تعليمي إنساني وشامل ومرن

أصبح الطالب موضوعاً نشطاً في عملية التدريس والتعلم. وهو أمر بالغ الأهمية في نظم التعليم الحديثة داخل الفصول المدرسية.

التحول داخل نواة الأسرة

حفزت الأفكار التقدمية مثل المساواة بين الجنسين والزواج من نفس الجنس والنسوية على تحول الأسرة، الذي لم يعد قائماً على المخططات التقليدية ولكنه يضيف عناصر من مجتمع معولم.

اقرأ أيضًا: أهمية الثقافة: كيف تؤثر الثقافة على الأفراد والمجتمعات؟

يدل كلا التيارين على الرغبة الدائمة للمجتمع في التحرك نحو عالم أفضل، لذلك يستجيبان للمظاهر التاريخية لعصرهم. ويبدو أنهما نماذج لمطالب الديناميكيات الاجتماعية التي كانت مدفوعة بلا حدود من الأحداث التي تؤثر على العالم.

اترك تعليقاً